الدموع وجمالية القص: قراءة في المجموعة القصصية «دموع الفراولة» لحسن كشاف

«شأنه شأن باقي الفنون ليس الأدب سوى اعتراف بأن الحياة لم تعد تكفي».. يبدو كل نص يتوخى في نفسه صفة «الأدبية»، متطلعا إلى أن يصنف ضمن خانة الأدب التي حددها فرناندو بيسوا في هذه القولة التي تنسب إليه، حيث يبدو النص الأدبي وفقا هذا التحديد، معادلا لحياة أخرى تمتح من الخارج/الواقع.. وتبتعد عنه لتشكل فضاءاتها من نسيج جمالي بديل، قد يفسر ما عناه ديستويفسكي عندما قال: «الجمال منقذ العالم»..

«دموع الفراولة « مجموعة قصصية للكاتب المغربي «حسن كشاف»، صادرة عن دار تسراس للنشر والتوزيع سنة 2019، وتقع في 92 صفحة من القطع المتوسط، وتضم عشرين قصة.
تؤسس «دموع الفراولة» لجمالها الخاص، عبر مقاربة موضوعية حيادية لقلق الإنسان (المغربي خاصة) ومقاومته البؤس بأشكال مقاومة مختلفة، من الصراع إلى التماهي إلى الانسحاب والاستسلام أحيانا، حين يغدو نوعا من الرفض والاحتجاج.
يكشف هذا المنجز عامة، عن تبصر عميق بالواقع الاجتماعي المحلي وأبعاده وتناقضاته، إذ تغلي نصوصه فوق قدر عميقة من الشفافية والوضوح، الذي ينأى عن التكلف ويقترب من القسوة المبطنة أو العارية أحيانا، بعيدا عن جو الغرابة أو تعقيدات الحكي، التي تميز بعض النصوص القصصية المعاصرة، والمفرغة من أي تصور «معمق» لغاية النص الأدبي وحدوده الجمالية.
وتقارب هذه القراءة الموجزة نصوص «دموع الفراولة»، عبر الوقوف عند بعض العناصر البنيوية مثل اللغة والشخوص والحبكة…

*اللغة:

يطوع الكاتب اللغة في انسيابية تجعلها لغة تواصل مع النص، إذ «يكتبها بدل أن تكتبه هي»، ويوظف أحيانا التعبير الدارج في غير انفصال أو تنافر، فتوظيف التعبيرات الدارجة لها مواضعها المحددة، والتي تنسجم مع الموقف، ففي قصة «مداهمة» تنكشف دوافع الأم وأحاسيسها تجاه المواقف عبر تعبيرات دارجة خالصة:
«أمي تتصدى له وهي تستشيط غضبا: «أشمن تهمة؟»
«تهديد أمن البلاد»
«أشنو..؟ الله على بنيتي الله..»
تذكرت على الفور تلك العبارة التي كانت تلوكها أم يوسف على الدوام: «الملك هو الله عز وجل، لا أحد غيره».
تشير الفضاءات داخل هذه القصة إلى إحالات شعبية محددة، لذلك كانت التعبيرات اللغوية الموظفة منسجمة مع هذه الإحالات. فتعبير الأم عن جزعها وخوفها على ابنتها، التي اعتقلت ولم يعرف مصيرها، يحتاج إلى مساحة لغوية شفيفة تناسب الشخصية والموقف..
نلحظ أن لغة الكاتب عموما تراعي المرجعية الشعبية، لتكون أكثر التصاقا بنوازع الشخوص:»أيتها البلهاء أنت أمام دجاجة ب»كامونها».. العائلة غنية وأملاكها لا تعد ولا تحصى..سيموت العجوز ويخلف لك كل شيء» و توارب أيضا قسوة تعانيها وتقابل بها العالم: «..وقف مشدوها، أيعقل أن يصدر كل هذا السب والشتم من عجوز في عقدها السابع؟… أرسل ابنه لجلب المساعدة، واقترب من «مي حليمة» التي قعدت على الأرض، وقد سقط غطاء رأسها، وبدت خصلات شعرها الحمراء كعسل طبيعي…».
وأحيانا يلجأ الكاتب إلى اللغة الساخرة، كما في قصة الكرسي حين يعبر الطفل عن اندهاشه من حجم الكرسي، الذي يراه دائما في الصورة المعلقة على الحائط: «علينا أن نوسع حجم الباب أربع مرات، إذا أردنا إدخاله إلى بيتنا..»إذ تعري أوضاعا ومواقف معينة عبر أوصاف ساخرة، لكنها حادة في نقدها..

*الحبكة:

يزاوج الكاتب بين الحبكة القائمة على سير الأحداث وتطورها ووصولها إلى الذروة، كما في قصة «لص الغسيل» و»البخيل» و»جرافات الوطن».. وحبكة ما يجوز تسميته ب «الصوت السردي»، حيث تبنى الحبكة عبر تغير أوضاع الشخصيات داخل البناء السردي، فتأتي النهاية محصلة لكل تلك «الأوضاع»، وغالبا ما تنحو قصص هاته الحبكة المنحى التحليلي، الذي يكشف دوافع الشخوص النفسية: «مهملا في الزريبة تتجرع مرارة الذكريات.. وأنت الذي تنبئ لك بالمستقبل الزاهر.. دموعك تنهمر كشلالات غاضبة كلما عذبتك هذه الذكريات الكئيبة، الوحيدة التي لم يتلفها اجتياح الجرب والمرض…»(صرخة كلب).. ويفتح المجال واسعا أمام الشخصية لطرح الأسئلة في قالب تأملي: «.. كان في قرارة نفسه يريد أن يدرك ذلك الشعور الذي يخالج كل من يعامله كحشرة دنيئة. أحس بانتشاء عظيم، امتزج بالسلطة والقدرة على إخضاع الآخرين وإخراسهم. لطالا كان هذا حلما فطريا.. إلا أنه وجده يخبو شيئا فشيئا حتى اندثر. في مقابل ذلك صار يتمنى أن يعامل باحترام لا أكثر ولا أقل، وألا ينظر إليه على أنه ذبابة..» (احتضار ذبابة)
*الشخصيات والجماعات المغمورة:
إنها شخصيات لا تملك لنفسها شيئا، فقد تقرر مصيرها قبل أن تدخل معترك الحياة، تصارع نفسها ومحيطها.. لكنها لا تخرج من بوتقتها، فهي إذن شخصيات أبعد ما تكون عن «البطولة»، وتقترب أكثر من «الجماعات المغمورة» التي تحدث عنها «فرانك أوكونور»، فنجد في هذه القصص المشردين والمهربين والمحتالين.. يسعون لتغيير وضع مادي قائم، أو على الأقل محاولة مجاراته والتعايش معه، لكن الجماعات المغمورة هاته ليست مرتبطة دائما بالاعتبارات المادية، فقد تكون مغمورة أحيانا لغياب بعض الاعتبارات الروحية، كما هو حال شخصية الطبيب في قصة «في القطار» : «.. تسارع والدته إلى التساؤل: « إذن ليست لك زوجة؟؟»
لا، لا أعتقد الأمر ضروريا، أنا أعيش وحدي..
ترمقني المرأة بنظرات استغراب: «ألا تشعر بالوحدة؟ ألا تريد أن يكون لك أبناء يخلدون اسمك في المستقبل؟
لم يكن لكلماتها أي وقع على نفسيتي، كان هذا ليحطم قلبي سابقا، لكن حوادث الأيام جعلتني أكثر تمسكا بقراري يوما بعد يوم..»

*التقديم:

يتسم تقديم أغلب قصص هذه المجموعة بالإقحام المباشر في خضم صراع الشخصيات مع مصيرها: « جلس العبدي وشريكه زريقة في مقهاهم المعهود وطلبا المشروب..» (بنت سبتة).. « كانت الأم تحملق في صغيرها، وقد ثبت عينيه على الصورة المعلقة..» (الكرسي).. «تقدم الشاب المتقمص دور سمسار شقق، بصحبة ضابط الشرطة السمين…» (واحدة بواحدة)… وهو اختيار جمالي نابع من الوعي بفكرة إشراك القارئ في عملية الكتابة، عبر الإمساك بالتفاصيل المتضامة دون خلفيات مسبقة تعيق تمثلاته.
ختاما، ينبري «كشاف» للكتابة بتناول شكلي واع بطرق وتقنيات الحكي المختلفة، وينتقي توجها طغى على أغلب نصوصه، يتميز بالانسيابية في عرض الأحداث و السلاسة في تقديم الشخصيات، ولايمنع هذ االتوجه من النفاذ إلى دواخل النفس، من خلال المنحى التحليلي الذي طبع التعامل مع شخوص القصة (باستثناء قصص طغت عليها أجواء الحدث مثل «سارق جامعي» و «واحدة بواحدة» و «لص الغسيل»..). ورغم كل نقيصة يفترض أن تعتري هذا العمل، فإن الكاتب قد نجح في التعبير عن رؤيته وتصوره للعالم، من خلال تصورات جمالية نابعة من وعي بدور العمل الأدبي وحدوده، في وسط لا يولي أهمية قصوى لمنابع الفن والجمال.

* قاص وناقد مغربي


الكاتب : هشام وهبي *

  

بتاريخ : 13/01/2020