الدولة الوطنية والبعد الامبراطوري في ملكية محمد السادس -21-عندما تقوم الامبراطورية بإ صلاحات تمتح جذورها من الدولة الوطنية

كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.

يمكن أن يعاب علينا عدم تمثيلية هذين الفضاءين، وأننا لم نتحدث سوى عن مسارات الإمبراطورية، وهذا النقد يستند على فكرة كون الدولة مكونة من مركز ومن ضواحي تمَّ العمل على استقرارها. والحال أن المركز في الإمبراطورية الشريفة متنقل ويتحرك، وعلاوة على وجود العديد من المدن الإمبراطورية ( العواصم) وحاشية متجولة، نجد أن كل وضعية تُبْرز مركزا وضاحية. في سوس زمن الحركة، كان المركز هو تمنيت والضاحية هي جبل باني ومن ثمة الصحراء. وفي الشمال كان المركز تارة الرباط وفترة فاس وأخرى طنجة والضاحية جبال الريف وتطوان في قربها من سبتة. والهوامش لا تتحدد بناء على قربها أوابتعادها المجالي الترابي «أهل آزمور» بين الرباط وفاس كانوا الهوامش كما كان سهل «الرحامنة» بين مراكش وفاس بالرغم من تمركزهم في قلب الإمبراطورية الشريفة. ونجد في الحالتين موضوع الحديث، بالأساس سوس المتمرد والشمال المخزني يبرزان اتساع طَيْف أفعال دولة تعمل تحت الإكراه أو بقناعة بأنماط حكم مختلفة بل متنافرة غير أنها مكيفة مع كل حالة حالة. واستثنائية اللحظة التاريخية ليست موضوعة موضع سؤال هنا حيث نجد هذه الملامح نفسها التي تميز حكومة إمبراطورية ذات جوانب متعددة زمن مولاي إسماعيل كما في زمن المنصور السعدي، وهذه الدولة تتميز بوضوح عن نموذج الدولة الوطنية، لكن ليس عن نموذج الدولة الواعية بوجودها وحدودها الترابية ومكوناتها البشرية ومسؤوليتها المحددة حسب مرجعية ثابتة في القانون والتقاليد الإسلامية. وهذه المرجعية لا يجب قراءتها كخطاب للشرْعنَة، بل إنها تنتمي إيضا إلى نمط إجرائي قانوني، وهذه الدولة ليست بروتو ـ دولة وطنية أي نموذج جنيني لها ولا دولة وطنية في طور البناء وأنماط التحكم فيها تقترب أو تبتعد بهذا القدر أو ذاك من النموذج المثالي لهذه الدولة الوطنية حسب الظروف والسياقات وموازين القوة. كما أنها تتحمل بوعي الانقطاع في انتشار سلطتها وأحيانا حضورها المادي، وتعدد الأنظمة في القياسات والمكيال، والعملة المتداولة، وتعدد الأنظمة القانونية، التي تصل إلى حد أولوية الأعراف المحلية على القانون الإسلامي، تترجم تصورا خاصا للسيادة وليس التخلي عنها، وهوما يشبه نوعا من اللامركزية قبل وقتها( ويتعلق الأمر في الواقع بلامركزية بالمعنى الذي أعطاه فيبر للحديث عن حكم عبر أعوان لهم مصالحهم الخاصة بهم، في الأنظمة الباتريمونيالية الابوية ). وهذا النمو في الحكم بانقطاعاته وفراغاته، والغائب بعض الأحيان، لا يفكر به باعتباره ضعفا أو خللا، بل إن المجال الترابي ينظر إليه باعتباره كلا لا يتجزأ معروفة خطوطه، والتي تتم موضعتها حينا باعتبارها حدودا لدولة وطنية تواجه غيرية (آخر) متوقع في فضاء لا تتحدد هويته في الدين، وتارة مفازات تمارس فيها السلطة السيادية للدولة الإمبراطورية على الأفراد والجماعات أكثر من ممارستها على المجالات الترابية..
الإبداع من أجل محافظةٍ أفضل!
إن السياق التاريخي الخاص للمواجهة مع القوى الكولونيالية لم يكن من آثاره تغيير أسس هذا التصور السياسي للنظام والفوضى، للسلطة والحكم وللسيادة والمسؤولية، بل كان من نتائجه توسيع قدراته على الإبداع والابتكار من أجل الحفاظ على جوهره .. و”الإصلاحات” لا ترسم مشروع للقطيعة بل جوابا حالة بحالة عن وضعية غير متماثلة: هذه “الإصلاحات ” التي أولتها القوى الأوروبية باعتبارها استراتيجية تخطيطية تسويفية، وتعبيرا عن شخصية “ماكرة” وسيئة النية، فهي تشكل في غالبها حلولا قصوى للتخفيف من آثار هذه النوعية غير المتماثلة وليس تغيير مسارها. وما يسميه المؤرخون إصلاحات تمتح جذورها في الواقع من سلسلة من التغييرات تنتمي إلى سجل الدولة الوطنية ـ من قبيل مراقبة الحدود وتشكيل جيش، وهيكلة نظام جزائي معين، ولا يمكنها أن تكون إلا جزئية، لاعتبار أن المشروع الأوروبي للاستعمار يتضمن مميزات إمبراطورية لا سيما نظام «الحمايات» الذي ينشئ تعددية في الأنظمة وسيادة مشتركة، وتشهد كل كتابات القرن ال19 أن هذه الإصلاحات، المصنفة “غير مكتملة” أو ” غير تامة” أو المستحيلة من طرف مؤرخي الدولة الوطنية هي تتحقق أساسا تبعا لمنطق إمبراطوري.. وحتى ولو كانت هناك حروب وهزائم، فإن المراسلات والمكاتيب تكشف لنا استمرار هندسات الحكم وأنماطه “مغايرة”، والتي تتغير دلالاتها حسب السياق…


الكاتب : عرض وترجمة عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 15/04/2023