الدولة الوطنية والبعد الامبراطوري في ملكية محمد السادس -22-

رسائل برنامجاتية لضبط إيقاع الحكم لدى سلاطين المغرب

كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.

وتشهد كل كتابات القرن ال19 أن هذه الإصلاحات، المصنفة “غير مكتملة” أو ” غير تامة” أو المستحيلة من طرف مؤرخي الدولة الوطنية هي تتحقق أساسا تبعا لمنطق إمبراطوري.. وحتى ولو كانت هناك حروب وهزائم، فإن المراسلات والمكاتيب تكشف لنا استمرار هندسات الحكم وأنماطه “مغايرة”، والتي تتغير دلالاتها حسب السياق..
تميز هذا السياق بالتهديد القادم من السواحل الجنوبية (شهران بعد هذه الرسالة كتب السلطان إلى محمد برغاش، وزير البحرية المستقر بطنجة، مثيرا المفاوضات مع الإسبانيين، الذين كانوا يريدون فتح ميناء في سوس وفيها حديث عن حَرْكة سوس والمهمة الخاصة بأساكا وهو ما يبرهن على أن ضغوطات الإسبانيين كانت جد قوية )، وهذا التهديد كان بمقدوره أن يضع موضع خطر القواعد التجارية للنظام الذي كرس احتكاره ابتداء من القرة 18 بعد بناء مدينة الصويرة، ولم يكن واردا مطلقا لدى النخبة في تلك الفترة تصور إمكانية فقدان السيادة أو الخضوع لاستعمار، ووحدها كانت موضوع معادلة المصالح التجارية، ونزاعات الاستقلال الذاتي أو التمرد المعبر عنها من طرف ساكنة التخوم، كما رأينا، كانت من أجل المفاوضات، ولم تكن تخطر في البال، في أي لحظة من اللحظات، فكرة الانفصال أو الاستقلال، سواء في سوس أو في الصحراء، سواء من طرف حسين تازروالت أو لدى بيروك بمنطقة واد نون أو لدى الـ«تكنا» ..
أهداف الحرْكتين في 1882 و1886، اللتين تم تنظيمهما بعد عشرة سنوات بعد بداية حكم الحسن الأول، لا تشهدان على تحول في أنماط الحكم، وقد تم شرحهما بإسهاب في بريد للسلطان وجهه إلى الجميع ( ونجد نفس الرسالة موجهة إلى قائد الرباط عبد السلام السوسي مؤرخة بشهر شعبان مقابل 17 يوليوز 1882. وهي من حيث التفاصيل تختلف شكلا عن الرسالة التي نشرها الناصري ، وقد كانت تتكلم عن نفس التيمات ونفس المعلومات، حيث نجد فيها فقرات” مستنسخة نسخ لصق” وفقرات مكتوبة بطريقة مختلفة مثيرة الدليل على قدرة التكيف مع سياقات وموازين قوى مختلفة خاصة بالدولة الإمبراطورية)، وهذه الرسالة اتخذت شكل تقرير عن مهمة، ولا يتعلق الأمر هنا بالرسالة الوحيدة التي تملك هذه الخصائص. حيث أن سلاطين المغرب اعتادوا ضبط إيقاع حكمهم بواسطة رسائل برنامجاتية على غرار مولاي سليمان ومحمد بن عبد لله ومحمد بن عبد الرحمان والحسن الأول.
علاوة على رسالة هذا الأخير، التي تم عرضها أعلاه، تم توجيه رسالة أكثر رسمية إلى العالم الإسلامي بمناسبة السنة الهجرية الجديدة، كما سيفعل الحسن الثاني بعد مرور قرن من الزمن في 1979( الرسالة موجودة على موقع وزارة الشؤون الإسلامية ).
والكلام، المعبر عنه بشكل نظامي بلغة كاتب مخزني، متعارف عليه ورسمي يستشف منه جوانب تهم التوعية وقتها، كما يشرعن في الوقت نفسه الأسس الداعمة والقانونية للسلطة.(هكذا نجد أنه حول منطوق يمكنه أن يوحي بالتحكم والعنف مسنود بالقوة يتسرب دوما تذكير بالآيات أو السنة النبوية التي تؤسس وتشرعن الفعل). ولا يمكن والحالة هاته أن نتحدث عن “التحديد المجالي” للسيادة الإمبراطورية ولا عن مجرد سلطة رمزية ..( وقد عبر عبد لله العروي عن ذلك بصورة بلاغية إذ بالنسبة له ” المخزن شبح، بيد أنه شبح يشبه والد هاملت يتحكم في حركات الأحياء”) .
في الجزء الأول من رسالة 1882 يبدأ السلطان بوضع الطاقم المرافق له وجيوشه كي يحدد وظيفتهما الرئيسية: خلق الرهبة، والصدمة والذهول لتفادي استعمال العنف قدر الممكن. والحملة بذلك ليست “ضربة عنف”، بل هي ضربة” رجل يضع ثقته في مولاه”. وبعدها يقدم الحسن الأول وجهة نظره حول المجال الترابي الذي سيدخله ـ سوس، ويحدد الطبيعة التي تربطه بهذه “البلاد” باستعمال بلاغة التشبيه ” المَطيَّة المنقادة”.. ثم إن الرسالة تصف، بطريقة بلاغية، حكم اللحظة، والتي تلخص في إعادة النظام بعد ستين سنة من الغياب .. واستعادة النظام هاته مرت عبر استقبال وفود للوقوف على خضوعها، والشروط التي لا يمكن للسلطان أن يتراجع عنها…


الكاتب : عرض وترجمة عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 17/04/2023