الاحالة المستمرة على الله والأسس الإسلامية لسلطة مسنودة بالجيش
استراتيجية امبراطورية للإبهار بإتقان التنظيم
كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.
استعادة النظام مرت عبر استقبال وفود للوقوف على خضوعها، والشروط التي لا يمكن للسلطان أن يتراجع عنها… في حين أن استعمال كلمات العفو والمصالحة والأمان، مقرونة بخشية لله (ومن يرضي عنه لله) تحيل على الصعوبات التي صادفها. كما أنها تمر عبر تعيينات القضاة وإرجاع الامتيازات إلى الأعيان ـ الشرفاء ورجال الدين (والاعتراف بالزعماء الذين اختاروهم من بينهم. ويلح السلطان على طريقة تصريف ذلك بالجمع بين السلطة والسياسة ـ باعتبارها هنا مفاوضات ) وتبادل العطايا، عطية القبائل على شكل هدايا وعطية السلطان على وجه الخصوص على “شكل مراعي في حياض المخزن الشريف “، والهدف من ذلك هو أن يصبح هؤلاء الوسطاء وقد تشبعوا المخزنية كما ترتبط الروح بالجسد” المخزنية هنا (تمخزانت بالنطق الإمازيغي)، هي خليط من المهارة ومن فن الوجود والانخراط في إيديولوجيا الدولة، وأعلن السلطان أن هذه الأهداف قد تحققت، وأنه كان سيكون راضيا ولو على “عُشُرها”.
أما الجزء الثاني من الرسالة فإنه أكثر إثارة للاهتمام، حيث إن السلطان يحدد فيه “الهدف الحقيقي”، للحركة، وهو “حماية المسلمين والدفاع عن بلادهم ووجودهم وممتلكاتهم ضد أطماع من ينظرون إليهم بعين الحسد”، وللوصول إلى هذا الهدف كان لا بد من بناء ميناء في «أساكا» و”تعبئة قبائل التكنا» وايت باعمران” لهذا الغرض، وتصف الرسالة طرق وأساليب هذه التعبئة وتلح على الاحترام الذي يكنه المخزن لهذه الساكنة ولأعيانها.. وعليه فالأمر لا يتعلق بغزو بل بلقاء، كما أن مهمة استطلاع الأماكن التي سيتم فيها بناء الميناء مستقبلا، والتي لم يشارك فيها السلطان شخصيا، تعرض بدقة، وقد تطلق أيادي القبائل لفعل ذلك، في حين تشير الرسالة إلى أن السلطان سيعين في تيزنيت قائدا من القصر” مختارا من بين قواد الكيش الأثرياء والذين يملكون حسن التقدير مع تكليفه بمهمة تقديم مساعدته إلى كل العمال في سوس من وادي اولغاس إلى تخوم وادي نون وكلميم، ويكون على هؤلاء العمال أن يتفقوا معه على القضايا المهمة التي قد تطرأ، لا سيما عندما يبتعد المخزن عن هاته المناطق”.
وهذه الرسالة بالرغم من أنها رسمية ومكتوبة بلغة مشفرة ومقننة تشي بعديد من مبادئ الحكم التي تسلط الضوء على أنماط الحكم الإمبراطوري. وأول ما يثير انتباهنا هو تسجيل ممارسة السلطة في منطق الامتداد والاستمرارية، بما أنه تولى فيها منصب خليفة السلطان فإن منطقة سوس مألوفة لديه، ولا نسجل أي قطيعة مع حكم والده بخصوص طرق الحكم، سواء في الشكل أو في المضمون، كان يمكن للرسالة أن تكتب من طرف سابقه! وإذا كان السلطان قد عاد للاستقرار. في المنطقة، فذلك لأن الإنجليز والإسبانيين أصبحوا يمارسون ضغوطا محددة على السيادة”الوطنية” في معناها الإمبراطوري، أي باعتبارها القدرة على تفادي سقوط منطقة ما مهما كانت تحت إدارة الأجانب.. ( بخصوص فكرة الوطنية الإمبراطورية والتصور الإمبراطوري للوطن، انظر المقدمة في الجزء الثاني. وكتابات قليلة اشتغلت على هذا البعد. ..).
الرسالة تعطي أيضا نظرة عن معنى السياسة في الإمبراطورية الشريفة. وهكذا يعبر السلطان بشكل مختلف حسب بعد المناطق أو قربها من المركز، علما أن المسافة ليست مكانية بل سياسية.
من المحقق أنه في مجموع التراب الإمبراطوري يعين السلطان القضاة الذين يصدرون القانون الاسلامي ويمنع أن يحتفظ بالامتيازات ويخلق وضعا اعتبارية لهذا أو ذاك، ولكنه، إذا كان في المناطق القريبة يعين أعوان السلطة والأشخاص الذين يعوضونه في المناطق الحدودية فإنه يكتفي في المناطق النائية بالاعتراف بالسلطات المحلية وتعيين الزعماء من بين ساكنتها. وهي سياسة التقليص من الكلفة، قائمة على مبدأين كبيرين يتقاطعان بشكل واسع: استعمال الوسائط أو رمي مصاريف الحكم على الآخرين سواء كانوا أفرادا أقوياء، أو مجموعات ذات وضع اعتباري أو ساكنة. ثم.. التوفير (التقشف في النفقات). وفي داخل الإدارة نفسها، يقوم تقليل الكلفة قبل كل شيء على ما نسميه “اجعله يفعل (خليه يدير)”، والتكفل بالدولة من طرف الأفراد أو المجموعات لا تنتمي لسلطة الدولة، وليست في المقابل سياسة للتفويض بمعناه الصحيح، بل هي ممارسة” مضمَّنة” تشكل جزءا من المتن الأخلاقي المحلي بأفكاره المتعلقة بالكرم وحسن الاستقبال والضيافة.. فتم تطبيع وجودها.
وعلى عكس ما يتم احيانا النظر اليه باعتباره أحد خاصيات نظام الدولة الابوية، (الباتريمونيالية)، فإن الحكم لم يكن خاضعا للتحكم التعسفي. ومن المحقق أن هذا الاخير كان موجودا، غير أن همَّ المشروعية كان حاضرا دوما تماما كما هو حال الاشتغال بالتواجد ضمن عملية لعقلنة السلطة. وبهذا المعنى فإن الاحالة المستمرة والثابتة على لله والأسس الإسلامية لسلطة مسنودة بالجيش يجب أن يُنظر اليها وفهمها كاستراتيجية حكومية ترمي الى الإبهار بإتقان التنظيم.