الدولة الوطنية والبعد الامبراطوري في ملكية محمد السادس 24 : دار المخزن باعتبارها مكانا لإنتاج هندسات الدولة..

كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.

 

إن تطبيع التناوب والانقطاع يندرجان في كيفية فهم الحكم والحضور المتفاوض عليه، وعليه فإن عدم استمرار وجود المخزن في الزمن والمكان لا يفكر فيه كضعف أو عجز، بل على العكس من ذلك كإنجاز فعال أو فعالية في الأداء- مميزات حلول جيدة وعادلة ومعالجة ـ وهوما ينجم عنه العديد من العواقب، أولها، واجب المعرفة والحصول على المعلومة ثم تأتي بعدها القدرة على تقديم الاستشارة وعلى التداول وعلى التحكيم، وفي الأخير القدرة على التفاوض. وهذه النقطة الأخيرة أساسية، حيث أن فكرة الإخضاع، بدون مواجهات، حاضرة باستمرار حتى وإن كان العنف يمكن أن يكون في أقصى درجاته وعنفا مثاليا للترهيب، وهدف الحركة ليس هو الغزو أو الحصول على العطايا بالقوة بل الوصول إلى أرضية للتفاهم، وبذلك يكون الحصول على الولاء أو الخضوع المتفاوض عليه نتيجة استثنائية، حيث الأولوية تكمن في التعايش بين مستويات الحكم المختلفة . إن السلطة الإمبراطورية تزاوج بين غياب النزوع نحو مراقبة مجمل المجتمع مع ميل إلى تفضيل التكيف والملاءمة، وهذا الميل لا ينظر إليه لا باعتباره استراتيجية سياسية ولا بفعالية في الإنجاز بل باعتباره بديلا في غياب الأفضل، إن لم يكن قدرا تقريبا، وتدل على ذلك مختلف كتابات المؤرخين، حيث أن الجميع، من السلطان إلى أبسط خادم من خدام المخزن، واعون بلحظات الأزمة أو اختلال الإدارة ومسلسل تفكك السلطة، والنزاعات والهزائم العسكرية، وذلك قبل الاختراق الأوروبي، والتشديد على التكييف والملاءمة ما هو إلا انعكاس للأولوية الممنوحة للبراغماتية. والحكم السديد بهذا المعنى، كما سمت به العقيدة، هو حكم لا يمكن المس به لأنه من عمل النبي والخلفاء الراشدين.

هندسات الدولة الإمبراطورية

هذه الممارسات والطرق في الفهم، وهذه العلاقة الاجتماعية والسياسية وفن الحكم هذا، أصبحوا ممكنين بفضل كفاءات خاصة، ووحدها كفاءة البعد الرسائلي تم تسليط الضوء عليها بوضوح في المعالجة، التي خصصناها للمراسلات، عموما، وللأرشيف الخاص أو العمومي للدولة الإمبراطورية. وهذه المهارات، التي تم تغافلها في فترة من الفترات، تحت القوة التنظيمية والإدارية للحماية، تم إبرازها وتسليط الضوء على خصوصياتها وفعالياتها ابتداء من الثلاثينيات من القرن الماضي من طرف ابن زيدان بمناسبة محاضراته عن الدولة العلوية (ابن زيدان 1962). فأنماط العملية الجديدة للإقامة العامة (الاسم الذي يستعمل في الحديث عن سلطة الحماية) لا تعني التنظيم الإداري والترابي للمملكة، بل تم الشروع في مسلسل كلاسيكي «لإعادة ابتكار التقليد» ـ وهي في نفس الوقت «مَتْحفةُ» muséification مخزن تمت فَلْكلَرتُه ـ حيث أعيد المخزن إلى الأقبية في القصر ـ البْنيقا) وفي زمان عتيق، وأمام هذه التطورات، وفي السياق الخاص لأربعينيات القرن الماضي اللذين دشَّنا الشرخ بين فرنسا رفعت إلى حد ذاك الوقت إلى مقام سام باعتبارها قوية وسخية ومباهية بنفسها، وبين النخبة المغربية (بالنسبة للعديد من المغاربة المتعلمين كان انهزام فرنسا واستعمارها «صدمة» ساهمت في تغذية العمل الوطني الناشئ)، أمام هذا ، إذن، سعى مؤرخو القصر إلى فكرة مفادها بأنه قد وجد في المغرب ما قبل الاستعمار دولة منظمة، رفيعة وخضعت للبيروقراطية.. (هذا الاعتراف لا يخص المغرب وحده، فالتصريح المعاصر حول الإمبراطورية العثمانية يضع هو نفسه تطور الإدارة الإمبراطورية قبل التنظيمات)…
ففي كتابه المشهور بأسلوبه الفخم «العز والصولة في معالم نظم الدولة» (طبع بالمطبعة الملكية بالرباط سنة 1381 – 1961، وكتب مقدمته الأستاذ عبد الوهاب بن منصور)، يصف أسلوب حكم المخزن بالتفصيل.. (وبالتوازي مع ذلك، نجد أن عبد الله كنون، كواحد من كبار علماء المغرب والذي ترأس رابطة العملاء، قد قام بعمل مشابه على المستوى الإيديولوجي بالحديث عن عبقرية مغربية وعن «النبوغ المغربي»، الذي تم منعه من طرف السلطات العسكرية الفرنسية بقرار نشر في الجريدة الرسمية في جريدة السعادة، لكن تم الاحتفاء به في المنطقة الإسبانية واعتبر حدثا كبيرا. وابن زيدان، من خلال إثارة الحياة في القصر، لا يعيد فقط بناء التقاليد الخاصة في حرمه بل يبرهن بأن دار المخزن هو مكان إنتاج هندسات الدولة.. وهنا كل فائدة وأهمية هذا الكتاب والذي لا يقدم عنه التقديم الذي كتبه بنمنصور في الستينيات من القرن الماضي، إلا تقريرا جزئيا، باعتبار أنه هو ذاته كان مأخوذا بالإيديولوجية الوطنية وهيمنة الدولة الوطنية كشكل وحيد للحكم ممكن تصوره ( ويدل على ذلك التعالي الذي يتحدث به عن مؤلف ابن زيدان عندما يتحدث عن «الطابع الصبياني» لبعض الفصول على غرار الفصول التي يخصصها لتدبير ملابس السلطان، وتنظيفها وتصبينها، وإنتاج الخل أو تقطير ماء الزهر أو الطابع «المسلي» لبعض الفقرات).


الكاتب : عرض وترجمة عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 19/04/2023