كل هاته التطورات تتنبأ بصعوبة تجاوز البعد الرعوي للمسؤولية بالرغم من تطورات الإطار المؤسساتي، الذي أصبح يتيح ذلك أكثر فأكثر، بما يعني ذلك دستورا جديدا وإنشاء المجلس الأعلى للقضاء، إعادة تنشيط المجلس الدستوري، برلمان بصلاحيات واسعة، انتخابات نزيهة، ومجتمع مدني دينامي. والمحطات الوحيدة التي ذهبت فيها آليات تحميل المسؤولية والمحاسبة عليها إلى نهاية مطافها تصادف اللحظات التراجيدية ..
كان فصل هيئة الإنصاف والمصالحة لحظة أخرى وجدت خلالها الدولة المغربية، وعبرها الملك والطبقة السياسية الوطنية التي دبرت البلاد خلال السنوات الأولى للاستقلال، نفسها في مواجهة قضية المسؤولية وحدود تبرير الانزلاقات القمعية والعنيفة التي وقعت باسم »منطق الدولة أو مصلحتها«. وقد كان مصدر هاته اللحظة الأحداث التراجيدية التي وسمت مرحلة سنوات الرصاص، فقد عملت هيئة الإنصاف والمصالحة، في إطار المنطق التام للعدالة الانتقالية، في الفترة ما بين 2004 و2006، تحت قيادة المعتقل السياسي السابق إدريس بنزكري، من أجل إظهار الحقيقة بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان طيلة الخمسين سنة الأولى للاستقلال…
وقد بدا لنا أن العودة إلى هذه اللحظة القوية من الحياة السياسية للعهد الجديد مفيدة للاحتفاء بالسبل المتعرجة لتحمل المسؤولية وتحليل الأشكال والمضامين والتوصيات المبرمة بين الناطقين باسم الضحايا ومهندسي مسلسل المصالحة، الذين شكلوا تكتلات غير متجانسة، والملك والمفاوضين باسمه..
لا يمكننا، في وقت بعدي، إلا أن نتفاجأ من كون المذكرة العامة لتقديم إحدى جلسات مركز التحليل السياسي ( المجموعة التي تأسست بعد التناوب التوافقي من طرف مثقفين وباحثين ) المخصصة لهيئة الإنصاف والمصالحة، لم تشر ولو إشارة واحدة إلى قضية المسؤولية، بل حتى من يتحملها. وقد ركزت الورقة على العلاقة بين الذاكرة والتأريخ وآثارها، وعلى الصعوبات التي صادفتها الهيئة لتوثيق الأحداث وندرة الكفاءات في مجال التحري السوسيو ـ التاريخي .. حتى وإن كانت تشير إلى الآثار الإيجابية للهيئة على التطورات الجارية في البلاد.. وهذا الغياب يجد تفسيره في نظري في كون هاته المجموعة، سواء أعضاءها أو المجتمعين خلال الجلسة، وهم بعدد حوالي ستين فردا تم اختيارهم من بين نخبة البلاد ـ كانوا قد استضمروا التسوية المبرمة بين مهندسي هيئة الإنصاف والمصالحة وبين السلطة القائمة: أي استبعاد البحث عن المسؤولية الملقاة على عاتق الأفراد ( الملك، الوزراء، العمال، الأمنيون، الدرك، القضاة، الصحافيون، المناضلون السياسيون في حزب الاستقلال أو الحزب الشيوعي المغربي، أعضاء جيش التحرير أو حركات المقاومة من قبيل الهلال الأسود..). لو اختلفت المؤسسات ( مختلف أجهزة الأمن من شرطة ودرك وجيش وعدالة )، والحال أن منتدى الحقيقة والإنصاف وأغلبية جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان ظلت تناضل لسنوات من أجل تحمل المسؤولية الفردية والمؤسساتية..
ولقد كان العهد الجديد يرى ميزتين إيجابيتين في هذه التسوية: الحصول على حق تقديم حصيلة العهد السابق بدون تعريض المؤسسة الملكية واستقرار البلاد للخطر . لاسيما وأن البلاد كانت وقتها تواجه، لأول مرة في تأريخها، العنف »الإرهابي« بعد أحداث 16 ماي 2003 بالدار البيضاء.ـ الحساسية إزاء القضية الأمنية المنظور إليها من زاوية محاربة الإرهاب، تبدو واضحة جدا في كتاب عضوين من الهيئة هما شوقي بنيوب ومبارك بودرقة)…، ثم تجديد النخبة الحاكمة واستبعاد النخبة السابقة التي رافقت العهد السابق، والتي كان من السهل تحميلها المسؤولية عن »الانزلاقات«.( تجديد النخبة، يقول إدريس بنزكري نفسه : لقد ظهر أن الملك كان منخرطا انخراطا كاملا في تحديث ودمقرطة البلاد، لكن مع تجديد النخب و الطاقم المسير يرافقه انشغال الحفاظ على الاستقرار والتماسك الاجتماعي الضروري لأية تنمية ديموقراطية”. “جون أفريك” عدد 22 يناير 2007)..
في واقع الأمر كان الذين يقودون هاته المفاوضات من جهة السلطة ينتمون إلى تلك النخبة الجديدة التي لم تثقل كاهلها الوقائع المدانة.. وبالنسبة للبطاقة السياسية المرتبطة بالحركة الوطنية. أو التي تحملت المسؤولية طوال السنوات، موضوع التحريات، كان الرهان هو استبعاد أي اتهام بالتعاون حتى ولو كان تعاونا سلبيا أو أي إدانة عن الأفعال العنيفة التي رصعت السنوات الأولى من الاستقلال..( وقد شكلت المسؤولية المشتركة في العنف إحدى الطابوهات للسنوات الخمسين الأولى للاستقلال .. وبالرغم من هاته التسوية، عملت هيئة الإنصاف والمصالحة على إبراز هاته المساهمة النشيطة، وفتحت الطريق نحو معرفة أوسع بهذه التجاوزات )..
أما ما يتعلق بمهندسي العملية، كانوا ضحايا سابقين أو مناضلين حقوقيين، وبعيدا عن الاطلاع على سنوات الرصاص وسنوات القمع بشكل عام، والاعتراف بها وإدانتها، كانوا يرون في هيئة الإنصاف والمصالحة مناسبة لإعادة تعريف العقد الاجتماعي والدفع بانخراط البلاد في طريق الديموقراطية واحترام دولة الحق والقانون… الضحايا من جانبهم كانوا يرغبون أولا وقبل كل شيء في الاعتراف بما تعرضوا له وإعادة الاعتبار لهم وجبر الضرر الذي لحق بهم، وكانوا يطمحون كذلك ويأملون في الكشف عن المسؤوليات والتعرف على الجلادين وإدانتهم والسماح لأقرباء المفقودين بالحق في الحداد .. والترحم على موتاهم..
وكما لخصت ذلك أسبوعية “تيل كيل”، بكلمات استعارها الكتاب الذي خصصه المجلس الوطني لحقوق الإنسان لبطل عملية أو مسلسل العدالة الانتقالية المغربية :» في النهاية، فإن بنزكري حسم الأمر لفائدة مهمة تشبهه: الجبر ( بتعويض ضحايا النظام السابق) وتسليط الضوء (ـ على مصير المختفين ) وتحميل المسؤولية للدولة ( بالتركيز على المؤسسات لا الأفراد)«.
لقد كانت رهانات هيئة الإنصاف والمصالحة متباينة وأحيانا متعارضة. ،وقد تحقق تجاوزهما بفعل عاملين اثنين : قبول »عُدَّة» العدالة الانتقالية« الجيدة، وتعبئة الخبرة أو المهارة الإمبراطورية .. ونجد أن إدماج واستبطان معايير العدالة الانتقالية، وجمعهما مع تجارب دول أخرى في أمريكا اللاتينية وإفريقيا فتحت الطريق أمام آليات مؤسساتية من هذا القبيل، هذا الإدماج قد استفاد من المساعدة التقنية للأمم المتحدة والخبرة الدولية ( لا سيما مجموعة فيينا). وقد سمحت هاته المعايير بتجاوز الخلافات، باعتبار فلسفتها، علاوة على ما سبق، تستند على تعريف مبتدئ وقواعد تهدف إلى نزع فتيل حساسية مسألة المسؤولية الفردية.
بيد أن ما تم تثمينه من طرف الصحافة الدولية كلها،باعتبارها إحدى التجارب الأكثر نجاحا وتميزا في عملية المصالحة الوطنية، لم يقتصر فقط على كونها كانت التطبيق الصحيح »للممارسات الفضلى«: تعبئة الآليات والممارسات والتمثيلية، كما انبثقت عن السجل الإمبراطوري ، كلها عملت على تسهيل عملية المصالحة، كما أن تقاسمها بين المخزن ومجموع الفاعلين المعنيين ، بمن فيهم أعضاء المجتمع المدني، ساهم في سلاسة العلاقات بين الفرقاء..