النزوع الانتقادي لتغير المناخ
تسرد المخرجة غابرييل برادي في فيلمها «الذئاب تأتي دائماً في الليل» قصة داڤا وزايا، فضلا عن حكايات مينيمالية أخرى، من خلال نموذج سردي هجين، يتقاطع فيه التخييلي والوثائقي. فيلم ذو بنية سردية متقاطعة تعيد تمثيل تجارب الزوجين، في تسلسل مفجع يفضي إلى الكارثة: ضياع نصف قطيع الماعز.
فالفيلم من خلال تتبع الزوجين داڤا (داڤا اسورين داغفاسرين) وزايا (أوتغونزايا داشزيفيغ) اللذين يعيشان الاضطراب الطبيعي الذي يؤدي في زمن الفيلم الواقعي إلى اضطراب اجتماعي تمليه خسارة القطيع، والأفدح خسارة الحصان الفحل الذي يعتبره داڤا مصدر فخر له. فيضطران على مضض إلى مغادرة المنزل والتوجه إلى المدينة، حيث يعمل داڤا في الحفر، بينما تلازم زايا المنزل (الكوخ القروي) رفقة أطفالهما الأربعة. نشاهد داڤا وزايا وهما يحاولان إنجاح ظروفهما الجديدة، لكنهما مع ذلك يعبران عن استيائهما وحنينهما إلى الحياة الأخرى التي تركوها خلفهما. الحنين إلى حياة الرعاة لا يتبدد أبدًا، وشوق داڤا إلى الفحل يزداد مع مرور الوقت، بل يسمع صهيله في سكون الليل وحلكته.
تعرض أمامنا غابرييل برادي العاصفة الرملية وآثارها من خلال صور عميقة من الناحيتين اللونية والبصرية، وهذا ما يوفره استغراق داڤا في ملاحقة خرافه الضائعة، من خلال المسح البصري، فضلا عن الخوض في الأراضي المغطاة بغبار العاصفة، وأيضا من خلال التأمل اليائس في جثث خرافه النافقة التي يكدسها، بعد ذلك، في شاحنته، مما يهيئ المتلقي إلى تقبل قرار المغادرة، إذ لا مجال للتراجع.
إضافة إلى ذلك، يعكس المسح البصري للمكان في الفيلم الطابع البارد والقاسي لطبيعة منغوليا. كما تمنحنا إعادة تمثيل الأحداث بأثر رجعي لمعانًا سينمائيًا يستحضر ذكريات داڤا وزايا السعيدة التي تبدو وكأنها مجرد حلم. وعلى الرغم من أن حوار داڤا وزايا يضيف إلى الفيلم مزيدًا من التأثير، إلا أن تعابير وجهيهما التي التقطها برادي في لحظات هادئة تضفي على الفيلم مسحة من الوقار. ذلك أن الإحساس الشخصي بفقدان الأرض يبدو حقيقيا جدا، كما نمط الحياة فيها يبدو مباشرا وغير خاضع للتمثيل.
الفيلم، كما هو واضح، بطيء الإيقاع، إذ تقودنا برادي بهدوء عبر مد وجزر نحو الصراع الداخلي الذي يعيشه داڤا وزايا، فنشعر بكل التفاصيل بعمق، بل نشعر بارتباطهما البالغ بالأرض، كما نفطن إلى النزوع الانتقادي لحياة المدينة التي أصبحت شائعة بشكل متزايد، فضلا عن التلميح إلى تغير المناخ وآثاره على الحياة الرعوية في كل مكان من منغوليا، وذلك من خلال بناء خط منطقي يملأ المسار العاطفي للفيلم بشكل فعال.
إلى ذلك، قالت برادي عن فيلمها: «يمزج الفيلم بين اللحظات الوثائقية الرصدية والسيناريوهات المؤلفة بشكل فضفاض حيث يجتاز داڤا وزايا ذكرياتهما. وبصفتهما كاتبين مشاركين قمنا بتتبع تجاربهما معًا.»
وتضيف: «عندما عدت إلى منغوليا بعد سنوات عديدة من إقامتي هناك وجدت مكانًا مختلفًا تمامًا. كان الأصدقاء القدامى يعيشون الآن في أحياء المدينة، بعد أن أجبروا على مغادرة أوطانهم. أتذكر أنني قابلت أحد الرعاة السابقين الشباب الذي أخبرنا أنه انتقل إلى المدينة قبل أكثر من عقد من الزمن، لكنه كان يحلم كل ليلة بالريف فقط. كانت حياته التي يحلم بها موجودة فقط في المشهد الذي تركه. كان الأمر كما لو أن جسده لم يصل أبدًا. هذا الشعور الهادئ بالفقدان أثر فيّ بعمق».