الذات والآخر في «يوميات بيكين» لمحمود عبد الغني

ذهب ابن بطوطة في القديم إلى بلاد الصين ولو عاش في القرن التاسع عشر لذهب إلى أوروبا كما يقول عبد الفتاح كيليطو. فماذا لو عاش في القرن الواحد والعشرين ؟ الأكيد أنه كان سيذهب إلى الصين. ذهب إلى الصين ليكشف غرائب الأمصار، ليس من منطق الإعجاب والانبهار بحضارة الآخر، وإنما ليكشف من خلال ملاحظاته عن ” الكفار” عظمة الإسلام وتفوق حضارته، إنه منطق ” خير أمة أخرجت للناس”. أما العرب فقد انطلقوا في رحلاتهم إلى أوربا في القرن التاسع عشر من منطق مغاير، منطق جلد الذات الذي يوجهه السؤال الوجودي الشهير: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب ؟ فقد ذهب أدباء النهضة ومفكروها للبحث في أوربا عن ما أسماه أحمد شوقي “نور السبيل” الذي قد يكشف الظلام الذي يسود العالم العربي والإسلامي. في القرن الواحد والعشرين زار الروائي والمترجم محمود عبد الغني بلاد الصين سنة 2018، ودون رحلته في إصداره الأخير (2025)” نقل البذور إلى أقصى الثغور: يوميات بيكين”، وهو الكتاب الذي يحكي تجربته في الجامعة الصينية التي حل بها أستاذا زائرا. فما هو المنطق الذي يحكم سرد يومياته؟ وكيف كشفت صورة الآخر البعيد عن نموذج حضاري يمكن أن يكون بديلا عن النموذح الغربي الزائف؟ وكيف كشفت عن استمرار مجتمعاتنا العربية في الانحدار ؟
وضع عبد الفتاح كيليطو لإحدى مقالاته عنوان ” صورة المثقف حمالا “، وهي الصورة التي تظهر بجلاء في يوميات بيكين، فقد تكفل محمود عبد الغني بحمل البذور لينقلها إلى أقصى الثغور. لا يشير العنوان هنا إلى بداية الرحلة، لكن حرف الجر الدال على الغاية ” إلى” يحدد نهايتها: أقصى الثغور، غير أن الكاتب يشير في مستهل يومياته إلى نقطة انطلاقه: مطار محمد الخامس، أي من المغرب الذي يقابله في الجهة المقابلة المشرق كأقصى نقطة. وإذا كان المغرب ينعت تاريخيا بالمغرب الأقصى، فإن أقصى الثغور بالنسبة إليه هي الشرق الأقصى الذي يعرف تاريخيا ببلاد الصين. هكذا تتضح بداية النقل ومنتهاه: من المغرب إلى الصين. لكن ما الذي يريد محمود عبد الغني أن يحمله وينقله إلى الصينيين؟
إن أول محاضرة ألقاها بالجامعة الصينية كان عنوانها ” قول المغرب” تلتها محاضرات أخرى في قول العالم العربي. لقد ذهب إلى الصين حاملا معه حكايات عن المغاربة وعن العرب، فهو يريد بصيغة أخرى أن ينقل صورة العرب ليتعرف إليها الصينيون.
لكن، وبالمنطق السابق نفسه، إذا كان الصين هي أقصى ثغر بالنسبة الى المغرب، فإن المغرب هو كذلك أقصى ثغر بالنسبة إلى الصين، وفي هذه الحالة، قد يكون نقل البذور في الاتجاه المعاكس: من الصين إلى المغرب، ذلك ما تؤكده رغبة الكاتب وهو في طريقه إلى الصين “سأعود وفي نفسي حكايات عن الصين”، إذ لا يمكن الرجوع من الصين دون حكايات ” فالإنسان الصيني أصبح يلهم خيال الروائيين في كل العالم”، وذلك ما يؤكده كذلك محتوى الكتاب وعنوانه” يوميات بيكين” الموجهة للقارئ العربي. هكذا يغدو النقل مزدوجا: قول المغرب وقول الصين، إنه القول الذي ينقل صورة عن الضفتين معا، أو النقل الذي يصفه كيليطو بـ” النقل الذي يجعل من المثقف حمالا يصل ضفة بأخرى “. لكن ما هي الصورة، أو الصور التي يريد أن ينقلها محمود عبد الغني عن الذات وعن الآخر سواء البعيد أو القريب؟
ينقل عبد الفتاح كيليطو، على لسان طه حسين، صورة دونية عن الأدباء العرب الذين زاروا أوربا في القرن 19″ يبدوا المؤلفون العرب…تلامذة يوفقون أو يفشلون بقدر قربهم من، أو بعدهم عن أساتذتهم الأوربيين” . أما في الرحلة إلى الصين ، فإن الصورة تغذو أكثر تشريفا، ذلك أن محمود عبد الغني سيحل في الصين، ليس بوصفه تلميذا يتعلم، بل أستاذا زائرا بجامعة بيكين، العربي يدرس والصيني يتعلم، هو يقول وهم ينصتون، هم يسألون وهو يجيب. إنها الصورة المشرقة التي جسدها شخصيا، والتي نقلها كذلك عن العالم العربي في تقديمه للروايات العربية والأعمال الفكرية. أسماء الأدباء والمفكرين العرب كانت تؤثث فضاء المحاضرات في قلب جامعة بيكين، محمد عابد الجابري وأدونيس ومحمود درويش وابن رشد ..أسماء مألوفة لدى الطالب الصيني، بل تحظى باحترام كبير” إن المغاربة فلاسفة بارعون منذ جدهم ابن رشد” كما قال أحد الصينيين.
إذا كان الأدب والفكر العربيان ينقلان الوجه المنير للعالم العربي، فإن وجهه المظلم قد انتقل إلى الصين عبر الممارسة السياسية وعبر نماذج الحكم الاستبدادية . صحيح أن الطلبة الصينيين ” يريدون فهم كل شيء عن العالم العربي، يريدون فهم شروطه واستيعاب وضعه”، لكن الصورة الأكثر حضورا في أذهانهم هي صورة البلدان العربية التي تمزقها الحروب ويطالها التدمير المغلف بالدين” إنهم يحبون سماع الكثير عن هذا الموضوع : الرواية والحرب”، لذلك تجدهم يركزون في الأسئلة التي تعقب المحاضرات على هذا الجانب المظلم من واقعنا العربي ” انتهت المحاضرة وتلتها أسئلة عن الربيع العربي، والأدب المغربي، والرواية التي بدأت تكتب عن الحروب والتدمير الذي عصف بعدد من البلدان العربية “. هذا الانهيار السياسي يوازيه انهيار اجتماعي وأخلاقي أكثر قبحا، فقد تحول الإنسان العربي إلى آلة هشة ” تشتم طوال اليوم، وتسرق طوال اليوم، وتكره طوال اليوم، وتتجاهل طوال اليوم، وتخون طوال اليوم”، هذا ما جعل بعض الصينيين يرون ” أن العالم العربي يذهب نحو موته “. لكن ما سبب هذا الموت الذي يحلق في سماء العالم العربي، وما سبب هذا الانحطاط القيمي الذي يعشش في أرضه؟
يرجع الكاتب سبب ذلك، من جهة، إلى عودة الديني، سواء في شكله السياسي العنيف” الحروب” أو في ارتباطه بما هو قومي ” عربي/ أمازيغي” كما تظهر في رواية أمين الزاوي، أو من خلاله شكله الرمزي الذي يغدو من خلاله الماضي مرجعا للإجابة عن أسئلة الحاضر والمستقبل” إن الأموات يتحكمون في الأحياء، ينطحونهم مثلما ينطح الثور خصمه، وفي كل ساعة من ساعات اليوم. الأموات استولوا على كل شيء في حياتنا”.  ويرجع السبب، من جهة أخرى، إلى الفساد المالي الذي ينخر الدولة ويحول بينها وبين بناء مؤسسات قوية قادرة على خدمة الوطن، فلصوص المال العام يتحكمون في كل دواليب الدولة”. إن بلداننا الصغيرة مختنقة باللصوص، كل أنواع اللصوص، والشحاذين والمحتالين مما خلق اضطرابات هائلة”، ذلك ما تؤكده التقارير التي تفوح منها رائحة المال الفاسد” رائحة المال كريهة”. فما هو النموذج الحضاري البديل الذي يقترحه الكاتب للخروج من وضعية الأزمة؟
قبل أن يقترح الكاتب نموذجا حضاريا بديلا، فإنه يصفي حسابه، على الأرض الصينية، مع النموذج الغربي ” الأوربي والأمريكي” الذي شكل لعقود الإطار الواعد لكل نهضة عربية ممكنة. لقد وجه الكاتب سهام نقده إلى النموذج الغربي، ليس من مدخل التقدم التقني، وإنما من مدخل الأخلاق. فأول صفة يسندها الكاتب للأوربيين هي صفة البخل، وهي الموضوع الأثير في الرواية الواقعية في فرنسا خاصة مع بلزاك، ويزيد الكاتب من حدة البخل عندما يرفعه إلى مستوى النادرة ” حكيت له نوادر عن بخل الفرنسيين”. ويزداد البخل مقتا عندما يقترن بصفة أخرى هي الغرور. إن الأوربي مصاب بجنون العظمة الذي يدفعه إلى أن يستنكف عن طلب المساعدة خاصة من دول الهامش” العرب وأوربا الشرقية “جلس جنبي فرنسي ضخم ومغرور..لا يعرف معنى أن تبتسم وكيف حين تريد طلب خدمة من شخص غريب عنك”، وهي الصفة التي يؤكدها في معرض المقارنة بين الصينيين والأوربيين” حين تتاح لك فرصة المقارنة بين صيني وأوربي يجلس جنبه، تجد البساطة تجلس جنب الغرور”.
يتخذ الكاتب موقفا نقديا أكثر حدة عند حديثه عن النموذج الأمريكي من خلال وصف السلوكات غير الأخلاقية والمقززة للطالب الأمريكي الذي يدرس في جامعة بيكين. هذا الشاب الذي رسم على جسده أنواعا من الوشوم ، لا يكف عن التدخين ولا عن إطلاق الضحكات الصاخبة في فضاءات الجامعة، ولا يكف عن الكلام وعن تحويل الناس إلى جمهور وتابعين إلى الدرجة التي تزعج طلاب الجامعة ” بدأ بعض الصينيين ينزعجون…كان يقوم بحركات كأنه يقوم بدور الأبطال الحشاشين في أفلام السرقات والجرائم”، وتبلغ الوقاحة ذروتها عندما يتقدم وسط قاعة الدرس، ودون احترام، لطلب الولاعة من الأستاذ المحاضر حتى يشعل سيجارته. لقد اعتبر الكاتب الصباح الذي التقى فيه الأمريكي ” من أكثر الصباحات همجية”، همجية تتطابق مع الهمجية التي أبدتها أمريكا في العديد من بقاع العالم”، فهو يتصرف ” كما يفعل بلده وسط العالم بالضبط”. لقد حسم الكاتب موقفه من هذا النموذج ” تمنيت ألا أراه مجددا. لم أعد أريد رؤيته، حين يمثل أمامي أشعر كأن غبارا دخل عيني، ويخطر ببالي أن العالم مليء بالمجانين”.
أما عندما يتحدث عن الصين والصينيين، فإن الكاتب يقف بانبهار واحترام كبيرين لما وصل إليه هذا البلد من تقدم تقني ومن سمو أخلاقي. الجامعة هي الفضاء الذي ينطلق منه الكاتب لفهم سر نجاح الصين، فهي فضاء للانفتاح على كل لغات العالم “الجامعة تدرس تسعين لغة”، لذلك فهي تمتد جغرافيا ” لتتخذ حجم مدينة صغيرة”، يطبع الجمال والهدوء كل فضاءاتها، ” مقهى فني لا مثيل له”، ومطاعم ومسابح وفضاءات لممارسة مختلف أنواع الرياضات ” ملاعب تشبه أفخم نوادي الرياضة”، ويزيد هذه الفضاءات جمالا أنها ” فضاء خال من المدخنين”. وبالإضافة إلى هذه المرافق الموازية، فإن الجامعة تحتوي على ” مكتبة كثيرة الرفوف” ويوجد بها مصلحة للنشر ” وهي مكتبة من مؤلفات تصدرها الجامعة”. غير أن المؤشر الأكثر دلالة على اهتمام الصين وعنايتها بالمؤسسات العلمية وبالطلبة هو الشكل الذي تتخذه قاعات الدرس، فهي ” قاعة صغيرة ونظيفة تشبه قاعة اجتماع الوزراء”.
قد تتشابه الصين مع دول الغرب في مستوى تأهيل البنية التحتية للمؤسسات الجامعية، لكن كفة الصين سترجح في مستوى أكثر رمزية وهو العلاقات الإنسانية ، فأمام البخل والغرور والاستكبار الهمجي الذي يطبع سلوك الفرنسيين والأمريكيين، يعطي الصينيون دروسا راقية في المزج بين التقدم التقني والرقي الأخلاقي بدءا بعميد الكلية” الشاب والمتواضع”، مرورا بالأساتذة الذين أظهروا نبلا استثنائيا في تعاملهم مع الأستاذ-الضيف سواء داخل الجامعة أو خارجها، انتهاء بالطلبة ” الذين تلقوا تكوينا في غاية الأهمية” مع حرصهم المبدئي على تطهير نفوسهم من كل ما يمكن أن يشوب صفاءها، فهذه صفاتهم ” يحبون بعضهم بإخلاص…شحنات من المحبة تقود حياتهم. رؤوس ممتلئة بأسمى القيم..الخير رفقة الخير والشر يقف بعيدا وحيدا مهجورا” إنها المدينة الفاضلة في زمن الانهيارات الأخلاقية والقيمية.
فإذا كانت النماذج المنيرة في العالم العربي نتيجة لإرادة فردية ولمجهودات شخصية بذلها الأدباء والمفكرون، فإن النموذج الصيني نتيجة لمشروع مجتمعي ترعاه الدولة وتحرص على تنفيذه. فـ” الجامعة تطبيق واقعي لسياسة الصين الحديثة”، وذلك من خلال سن قوانين صارمة تمنع كل انفلات نحو الرداءة والانحطاط، إنها إرادة سياسية صادقة تسمو بمستوى العلاقة بين الدولة والمواطن إلى مستوى الثقة والمحبة، فالدولة ” صوتها مسموع في كل مكان، بصمتها على كل وجه، في كل شارع، في كل لباس أو إشارة مرور، في كل قناة تلفزية، الدولة في السماء وفي الأرض، الدولة في الهواء. الدولة حبيبة الجميع”، لا مجال هنا للعشوائية ولا ثغور لتسرب السموم والملوثات.
هكذا يتخذ محمود عبد الغني من التجربة الصينية جسرا للعبور إلى تشخيص أمراض العالم العربي، ويوجه بالتالي بوصلة الذين يريدون الإصلاح جهة النموذج الصيني بعد:
ـ التحرر من رقابة الماضي ومن تحكمه في الحاضر والمستقبل
ـ التوحد على مشروع مجتمعي يحرر الدولة من الفساد المالي ومن ناهبي المال العام
ـ تحرير العقل العربي من عقدة الغرب، ومن وهم تفوقه الحضاري.
مراجع:

1ـ عبد الفتاح كيليطو، بحبر خفي، دار توبقال، ط1، 2018، ص:96
2-نفسه ، ص: 80


الكاتب : نورالدين الطالبي

  

بتاريخ : 25/06/2025