حين نتحدث عن الشعر الوجداني في القصيدة الكلاسيكية يصعب تحييز مكانه الشعري لأنه لا يمتلك وجودا منفصلا عن التصنيفات الأغراضية ( المديح – الرثاء – الفخر – النسيب – الوصف – الهجاء )..، لكن مع ظهور بواعث الحاجة للبوح الوجداني منذ بداية عصر النهضة، بدأ نص الذات يؤسس لفضائه الشعري الخاص .. بدءا كصوت ملحمي لاندغام صوت الأنا بالصوت الجماعي (الشعر الوطني والقومي نموذجا … )، معبرا عن وجدان الأمة حيث حلت ثنائية الفرد / الجماعة محل ثنائية الشاعر / القبيلة وثنائية الشاعر / السلطة في الشعر الكلاسيكي . وفي ما بعد مع ظهور الوعي الرومانسي في تلوينات مناحيه (مدرسة الديوان – مدرسة أبولو – مدرسة المهجر) صار بالإمكان الحديث عن المكان الشعري للذات كموئل لسلطته الخالصة في الكلام .
مع تشكل الوعي الراهني للقصيدة الحديثة، استكمل هذا المشروع الرمزي لتأسيس نص الذات في الشعر مساره الانبنائي. وكما في الغرب، فإن نزوعات الحداثة الشعرية عرفت تمفصلين رمزيين تجسدا في:
أ – المنحى الملحمي / التراجيدي بارفاداته الإيديولوجية .
ب – المنحى الوجداني / الوجودي بتأسيساته الأنطولوجية .
لكل من المنحيين اشتغاله الرمزي الخاص على مستوى نسج اللغة وبناء الرمز ومتخيله المجازي، ويختلفان فقط في اشتغال الوظيفة الأسطورية لفعل الكتابة الشعرية .
أوردنا هذا التشييد الميتاشعري للحديث عن تشكلات الوعي الشعري بالذات / الوجدان في التجربة الشعرية للمبدعة مليكة فهيم من خلال دواوينها الثلاثة
1 – «وهج العتمة « جمعية أصدقاء المكتبة الوسائطية ادريس التاشفيني الجديدة 2015
2 –» وميض يعبر المعنى» – سليكي اخوان 2019
3 –» شامة في وجه البياض» – أكورا 2024
في كل من الدواوين الثلاثة ينهض القول الشعري على نسق المفارقة الأنطولوجية بين الذات / الواقع والذات / الحلم. وقد أظهر كولريدج في حديثه عن الخيال الرومنطيقي أن هذه المفارقة هي من الأنماط العليا التأسيسية للخيال الشعري
نقرأ من قصيدة «الفرح الاستثنائي»:
خذ وهجي
لأشتعل شمعة في الظلام
خذ خطاي
لأكون الجسر
خذ صوتي
لأكون الصدى
خذ صورتي
لأكون الظل
و دع لحن الربيع
يرقص من جديد
دع الفرح الاستثنائي
يدخل نافذتي .
(ص 41 – 42)
هذا الوعي المفارق البينوني بين ذات يسيجها واقع قائم و ذات تتغيأ تتحققها كرغبة – حلم يمتد في الديوان الثاني « وميض يعبر المعنى « بشكل أكثر حدة، وتتجلى هذه الحدة في طابعين: الأول طغيان النزعة الاغترابية للذات والتي تشير بسبابة الاتهام الى واقع مرفوض وتنامي الوعي الجمالي برمزية ( شعرية النفي) خاصة في انتحاء الشاعرة لفضاءات المناخات الرمزية البودليرية كما هو الحال في قصيدة «حدائق راعشة»
وأصحو وأتذكر تلك الحقيقة.. ( ما الحقيقة؟ ) شفافة زجاجية وصادمة، و أنا الآن تكتبني الكلمات دفعة واحدة، أحس برقصها وهي تتحول إلى رموز ونوتات. ولأن قصيدتي أضاعت لغتها، كان علي أن أنطقك بدون لغة، و هذا الحزن العتيق الساكن في مغارة الروح يستيقظ، ونبضاتي على مسار خطوك قطارات تتهاوى .
وينمو التراب على جسدي، و أنا أتلو اسمك في كل صلاة، في كل خشوع، مع كل ابتهال، في ثنايا قواعد العشق الأربعين لجلال الدين الرومي، وأتذكر رحلة دانتي الشاقة من مدخل الجحيم إلى أعالي الفردوس، وأتذكر اختبار أورفيوس لاستعادة حبيبته وهو يفاوض الموت .. و أنا يا حبيبي لا أتقن التفاوض مع الله . لكنني كنت أهفو لأستعيد عزف أورفيوس لتلين قسوة الآلهة .. تلين .. تلين .
(ص 58 – 59 ).
يتوسل الأنا الشعري بكل الرمزيات الميثولوجية عابرا خرائط المعنى الشعري لاختبار الذات في ما وراء العزلة الحادة للواقع الذات التي تنشد الخلاص من أسر المحدود و النهائي، ورتابة الألفة ومختلف العناصر المؤثثة لمناخات الوجود الاغترابي .
وفي ذات المسرى يتشكل العالم الشعري للديوان الثالث «شامة في وجه البياض»، وهو على عكس الديوان الثاني يعود بالجملة الشعرية وبالصوغ الدلالي إلى حميمية الشغف الحلمي ومرايا البوح الشفاف، وانعكاس أثر صوت الذات المفتقد في رمزيات الأصوات الغيرية من الشعر الكوني:
هل نسكر يا بودلير
لكي لا نحس بعبء الزمن
أي قاع يأوي عناقنا المحموم
وهذا الليل لا أستطيع أن أقضمه لوحدي
هذا الليل
ليل هذا الليل
ليس كمثله .. ليل .
(ص 15)
تنتسب هذه التجربة إلى المجال الرحب لقصيدة النثر، ودونما ادعاء تنظيري، فإن السياقات التي تلجأ فيها الشاعرة إلى اللغة الميتاشعرية ( الحديث الجواني عن الشعري داخل الشعر) لا تعكس ولعا ولا هوسا بجعل الكتابة الشعرية مصادرة على انتساب معلوم ومحدد . كل سياقات اللغة الميتاشعرية في هذه التجربة الإبداعية تعكس مسار كتابة شعرية منشغلة بإعادة بناء صورة الذات في مرايا عالم من التشظي والانكسار والمحو والزوال ..
نوع من إنقاذ الكينونة من الاحتضار وتجسيد اللحظة بمؤبدها .. ثم ذلك الذهاب نحو كشف فاعلية الرمز والمجاز الشعريين اللذين يمنحان للذات كينونة مضاعفة وحياة ثانية .
مليكة فهيم هي واحدة من الشاعرات التي تكتب القصيدة مثل غرفة سرية لتصادي وتناجي وتماهي وتراجيع أصوات الذاكرة الشعرية .. هي تدرك أن الإبداع مجيء الى الكتابة من جسر القراءة، ولذلك فإن المعنى الشعري لديها في تشخيصه الرمزي لصورة الذات يتجاوب مع مرايا الغيرية و نصوصها الحاضرة / الغائبة ( بودلير – بيسوا – درويش – بورخيس – الحلاج – فيرجينيا وولف – فان كوخ – جياكوميتي – دانتي – جاك بريل .. ).
تتسع هذه الفسيفساء في انتساباتها إلى محايثة قلق السؤال الوجودي والأنطولوجي، وترويض هذا القلق بتمارين الإستطيقا الشعرية التي تتوحد فيها أقيسة الألخيمياء وأنسبة الفيزياء من أجل تأسيس جمالي للذات بحبر الدهشة وفتنة المتخيل .