الذاكرة السينمائية: عن السينما والمدينة والنوستالجيا

نافذة: قال لي محمد السوسي تقني العرض سابقا بسينما أبينيدا، وحاليا حارسها، ذات حديث عن الزمن الجميل، وكان الموضوع جمهور أبينيدا الذي كان يغادر القاعة بعد العرض الأخير عند منتصف الليل في اتجاه الاحياء الشعبية في جماعات، أن الذين كانوا يرتادون القاعة السينمائية لا يمكن البتة أن يكونوا متطرفين أو منحرفين في البدء كانت الشاشة كبيرة، فتحة نطل من خلالها على عالم آخر، كمحطة قطار توجد في قلب المدينة، تعدك بالسفر بعيدا وتهرب بك بعيدا من روتين مدينة صغيرة تحاصرك فيها نفس الوجوه، ونادرا ما تقابل وجها غريبا، في مدينة كانت تعيش على إيقاعها الخاص، إيقاع الغروب الذي لا يتكرر، يفاجئك كل يوم بلوحة جديدة، وإيقاع عودة مراكب الصيد وخروجها لعرض البحر. مدينة تكتفي بذاتها، ولا تحتاج من العاصمة إلا من شهادة الإعفاء من التجنيد، وبعض الوثائق الإدارية لا يمكن تسليمها دون حضور المعني بالأمر.
كان السفر لا يتعدى اليوم ويأخذ فيه النقل (المركوب)الحصة الكبرى، في زمن كانت فيه الطريق الوحيد التي تصلنا بالرباط هي الطريق الوطنية بكل ما تعنيه من عدد لا نهائي من التوقفات للراحة واقتناص الركاب. مدينة تأمن بالقيلولة حتى القداسة، وتسهر الليل حتى اخر ساعاته، مدينة يتحول فيها الليل نهارا والنهار ليلا. كان نجوم السينما شخصيات مألوفة، نتحدث عنهم بلغة محلية، تجعل منهم شخصيات تعيش بيننا، يمكن أن تقابل أحدا منها عند ناصية الشارع أو وأنت تقطع بلكون اطلنتيكو. نتحدث عن إنجازاتهم، وكأن الأمر لا يتعلق بفيلم، وكأن الفيلم ليس خيالات تتحرك على قطعة ثوب أبيض، ولكن نافذة نطل من خلالها على أناس يعيشون حياة خاصة، يصبح الفيلم كتعويض عن رتابة العيش في مدينة صغيرة، توجد خارج التاريخ والزمن الوطني، تعيش في زمانها الخاص. هذا الإحساس بالرتابة و الروتين هو إحساس مرتبط بالتذكر، ولم يكن الإحساس به في حينه. كان كل واحد منهمك في انشغالاته البسيطة. ترتيب جلسة مع الأصدقاء في البحر أو في الغرفة (المُصْرِيَة)التي غالبا ما كانت توجد على السطح مستقلة عن الجو العائلي، الوضع الذي كان يجعلها ارضا محررة وتتيح كل الحريات وممارسة كل الموبقات، البحث عن مكان لقاء الصديقة بعيدا عن أعين المجتمع، تبادل كاسيت الأغاني الغربية أو كتابة رسائل الغرام، ونادرا البحث عن عمل…
رغم أن الفوارق الاجتماعية لم تكن شاسعة، كانت الشاشة الكبرى بالإضافة إلى المدرسة العمومية، المكان الذي يقف عنده كل المجتمع المحلي بنوع من المساواة كحالة ديموقراطية مؤقتة، تجعل أحلامنا تلتقي في نفس مكان، وتخلق ذاكرة جماعية، وربما جرعة زائدة من النوستالجيا فيما بعد، وليس صدفة أن يكون هناك حنين جماعي لقاعة السينما والمدرسة العمومية قبل أن تتحول المدارس الخاصة من ملاد للفاشلين في المسار الدراسي إلى بحث عن التفوق والواجهة الاجتماعية.
قد يقول لك شخص وهو يتأسف على ما آلات إليه أخلاق المجتمع أنه في هذا الزمن الذي أتحدث عنه كانت هناك الحشمة والوقار، فعلا كانت الأمور كذلك، لكنه في هذا الزمن كانت بالمدينة التي لم يكن يتعدى سكانها ستون ألف نسمة أربع قاعات للسينما تعلن ملصقاتها عن برمجتها بدون برقابة في الشارع العمومي حتى وإن تعلق الأمر بفيلم إيروتيكي، كان الجيل الذي عاش هذه الفترة قبل أن تستعمرنا الكائنات الفضائية يشاهد ما تنتجه السينما العالمية بكل تنويعاتها وأصنافها، ومع ذلك يعرف لم الشارع العام مظاهر تخل بالحياء ولا بالنظام.
يعرف الجميع أن قاعات السينما كانت توجد غالبا بمركز المدينة، حيث توجد معظم الإدارات العمومية والوكالات البنكية والحانات والمحلات التجارية والمقاهي حيث كان يجلس الكبار والوجهاء وأعيان المدينة بكل اطيافهم. في هذا الزمن كان يجلس حول نفس مائدة المقهى الفقيه العائد من المسجد الكبير بسوق الصغير من إحدى الصلوات، ومرتاد الحانات. تجمعهم الصداقة أو الحزب أو ربما روابط عائلية أو الانتماء إلى نفس الحي والمدينة. وفي أغلب الحالات كان يعلق أحدهم على شخص في حالة سكر علني طافح «لله يعفو عليه» بهمس وبخفض البصر ودون التأكيد على ذلك والانتقال مباشرة إلى موضوع آخر.
عندما كانت القاعات تعرض أفلاما جريئة لم يقم أي فقيه بإثارة ذلك في خطبة الجمعة، محذرا الناس من خطر ذلك على المجتمع وعلى الشباب وعلى نسبة المطر التي ستسقط ذلك العام، حتى نهاية التسعينات من القرن الماضي وفي مسجد أحد الأحياء الشعبية من طرف أستاذ مادة الفيزياء ارتجل نفسه داعية، وأصبح في ظرف وجيز نجما، ومن المبشرين الأوائل بالإعجاز العلمي وتجارة الدين، بعد عرض نادي مجموعة البحث السينمائي للفيلم المغربي «حب في الدار البيضاء» وأفلام أخرى سبق لها أن عرضت قبل سنوات دون أن تكون قد أثارت مشكل، وهو نفسه أي هذا الداعية كان عضوا في النادي السينمائي قبل سنوات وغادره عند محاولته توقيف عرض فيلم بوضع يده على فتحة آلة العرض.
عندما حطت مركبات الكائنات الفضائية قادمة من كواكب قاحلة إلا من الذهب الأسود، حطت معها وتبعتها مراكب محملة بحاويات الكتب الصفراء. مع ملهاة «عذاب القبر» و»حوار مع صديقي الملحد» و «لا تحزن» وتفاهات أخرى كأدوات تبشير من أنظمة بعيدة في الجغرافيا والتاريخ جعلت من الدين الطريق المختصر لتأميم المجتمع، بدأت مأساة هدم القاعات وظهور بورجوازية حديثة تبدع في الاستثمار في مقاهي فاخرة مخصصة للعائلة والنفاق والفن النظيف. هاجر جل أبناء المدينة وحطت بالمدينة مركبة أخرى بساكنة أقل فضائية من الأخرى، ولكنها مستعدة لكل الاحتمالات، حل شعب الاستفادة اللانهائية وابتزاز الدول، بدءٌ بسبعين متر إلى احتلال الملك العام وتشويهه، ثم تفريخ جيل من المنحرفين لا يتقنون إلا لغة العنف، يجعل جزاء كبيرا من الساكنة تبحث عن العيش والترفيه والتنزه والاستهلاك والأوكسجين والمدنية في مدن مجاورة لتهجرها إلى الأبد. أصبح لهذه الساكنة في ظرف وجيز تمثيلية سياسية جعلتها تصل الى أعلى سلم الديموقراطيات المحلية، ليصبح مفهوم الاستفادة، والابتزاز مشروعا وموثق في برامج انتخابية.
قال لي محمد السوسي تقني العرض سابقا بسينما أبينيدا وحاليا حارسها ذات حديث عن الزمن الجميل، وكان الموضوع جمهور أبينيدا الذي كان يغادر القاعة بعد العرض الأخير عند منتصف الليل في اتجاه الاحياء الشعبية في جماعات، أن الذين كانوا يرتادون القاعة لا يمكن البتة ان يكونوا متطرفين أو منحرفين وهو كان يتحدث عن التطرف بكل أنواعه. كان محمد معروفا أيضا باختياراته الموسيقية التي كان يضعها قبل انطلاق عرض الفيلم، اختيار فيه الكثير من الذوق، والمزج بين الاغنية العربية الكلاسيكية والموسيقى الغربية لسنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي حيث كان يلتقي على نفس الشريط عبد الحليم حافظ وبوب مارلي، مجموعة الداي-استريت ومحمد عبد الوهاب في تعايش عفوي قبل أن يصبح التعايش موضوع نوستالجيا وحلما جماعيا. قلت لمحمد انه كان بالإضافة الى اشتغاله كتقني العرض كان مربيا بذلك الاختيار الموسيقي الذي كان يميز ابينيدا عن غيرها من القاعات. حينما كنا نتواجد في مكان ما ويتصادف نفس ترتيب الأغاني، كنا نعلق على الموقف بقول، وكأننا في سينما ابينيدا. كان الارتياد على قاعة سينما يعني التعود على سماع موسيقى معينة وتربية للذوق وللعيش المشترك في الفضاء العام.
عندما اختفت الشاشة الكبرى من حياتنا، اختفت معها أشياء كثيرة، اختفت وتحولت العلاقة مع الفضاء العام ومعها تحول المجتمع إلى فردانية جشعة تبدأ القيم عنده وتنتهي عند بداية الملكية الفردية. نعيش جماعة لكننا لا نتقاسم الا احاديث فارغة لا تلبي إلا حاجة رياضة قرع الشفتين وسماع أصوات لترويض حاسة السمع، نردد نشرات الاخبار القادمة من بعيد ونحتج على الدولة الظاهرة والعميقة، نحتج على اميركا وعلى فرنسا والدانمارك وكل الدول المتقدمة و عن المؤامرة الكبرى التي تستهدفا دون بقية الشعوب، ونعفي انفسنا من مسؤولية وضعنا، نلتقي في المقاهي لنتفق، ونعود الى شاشة التلفاز مطهرين من كل الذنوب والمسؤوليات، لا نمل من اننا نرتاد نفس الأماكن، ونتداول نفس الحديث ونعمل على نفس المكاتب ونعيش مع أشخاص لا نحبهم أو لا نحتملهم تحت نفس السقف لسنوات، لأننا منشغلين بتحرير العراق وفلسطين ومنشغلين بالسياسة الخارجية الأمريكية، اكثر من تحرير الملك العام الذي يوجد عندما مدخل مسكننا، اكثر من تحرير انفسنا من الهواتف الذكية وشاشة التلفاز ومن هذا الفراغ اللامرئي الذي يوهمنا كل مرة بقضية ما، لا تهمنا إلا مؤقتة وكمتفرجين، قضايا تأخذ أهميتها حسب رغبة الاعلام الدولي.
لقد علمتنا السينما عندما كان شاشتها كبيرة، ما لم تعلمه لنا كتب الدرس ونشرات الأخبار، علمتنا الكثير عن أنفسنا، علمتنا الحب واللباس والذوق وفن العيش والقبلة على الشفتين والرومانسية، والشيء الكثير عن معاناة الشعوب وتاريخ الإنسانية والمآسي التي عانتها شعوبها، لقد كانت مرآة حقيقية رأينا فيها ذواتنا لمدة طويلة، لكنها عندما أصبحت شاشتها صغيرة بحجم قطعة أثاث، علمتنا النسيان وحولت الثقافة الى تسلية، إلى مبرر للترويج لمواد استهلاكية.
اختفت القاعات السينمائية ولم تبقى إلا اطلالا تحيا مؤقتا كعلامات تشوير لميجنة افتراضية اختفت معالمها المميزة، مدينة لا تحكي ذاتها تعيش حاضرها ولا تتخيل المستقبل، لأن التعمير الجديد للمدينة لم يصنع احياء بهوية ومعالم مميزة ولكن صناديق اسمنتية تتشابه الى حد اليائس، ولا تتجاوز وظيفة بدائية. إنها فقط بناء، يناء لا يرقى إلى المعمار، وتعمير لا يراعي اختلاف الجغرافية ولا الانسان، تعمير اعمى تمليه دفاتر التحملات والحاجة إلى خلق صفقات والربح السريع ويغيب فيه الانسان وقيم العيش المشترك. لم تنجح الأحياء التي بنيت حديثا ان تصنع حياة اجتماعية ولا ذاكرة مشتركة وبقي مركز المدينة التاريخي رغم التوسع الهائل الذي عرفته المدينة هو الملاذ الوحيد لساكنتها لتنزه.
اختفت القاعة السينمائية ولا أحد يحن الى ذلك، إلا القليل، جزء كبير منه يتحسر، لأنه تعود على رياضة التحسر والاحتجاج، ومن المفروض اجترار ذلك بمناسبة حديث عابر لملأ الفراغ والبحث عن مبرر للجلسات الطويلة بالمقهى. وهم في الحقيقة هو في حالة مريحة، لأن وجود قاعة سينمائية ووجود حياة ثقافية حقيقية ستحرمه من الفراغ الذي ألفه كما يألف العبد السوط، لأنه لن يكون مستعدا لتغيير عاداته إذا افترضا عودة القاعات للوجود يوما.
اختفت القاعات السينمائية، ومعها مجموعة من التقاليد ومع هذا الغياب تغير إيقاع أيامنا. اختفت القاعات السينمائية نتيجة غياب قوانين لحمايتها وحماية التراث المعماري ومواجهة جشع المضاربين العقاريين. اختفت أيضا لأن أصحابها فظلوا الربح السريع الذي يضمنه بيعها كعقار لتحويلها إلى عمارات وقيصاريات، وأيضا لأن المجتمع تغير وتحول بإرادة البترودولار على خلفية العروبة واستعمال الدين وبتعميم القنوات الفضائية الخليجية والاخوانية التي كان أصحابها يريدون الهيمنة على المجتمع وتحويله إلى رهينة.
حاليا أشاهد الكثير من الأفلام أو جلها على منصات المشاهدة على الانترنيت وعلى القنوات التلفزيونية المقرصنة أو على الأقراص المدمجة، وفي بعض الأحيان اكتشف عند نهاية شريط أنني قد سبق لي ان شاهدته، وهذا بالنسبة لي مستحيل في حالة الفيلم شاهدته في قاعة سينمائية وحيدا أو مع الاصدقاء. قد أشاهد ثلاث أفلام في الليلية لا يبقى منها الا الوقت الذي ضيعته في مشاهدتها، فرجة بلا ذاكرة تحاول ان تمتلك بأنانية كل أنتج وحصل على الجوائز بعقلية هواية جمع الطوابع البريدية أو العملات القديمة، والتباهي بذلك على مواقع التواصل الاجتماعي. أفلام ليس لنا الوقت للحديث عنها لأن اخرى تنتظر على الرف. في غالب الأحيان يكتفي البعض أحيانا بعموميات على مواقع التواصل الاجتماعي، لا تتجاوز اسم المخرج أو الجائزة المحصل عليها والمرور إلى فيلم أخر.
يتبع


الكاتب : محمد الشريف الطريبق

  

بتاريخ : 05/02/2022