الذاهب إلى الحرب بوردة في اليد، وجيش في القلب

 

لماذا جعلنا الشاعر عبد الحميد في ديوانه الأخير» جاؤوا لنقص في السماء.. في ديوان حالتي» ندلف حديقته الشعرية على إيقاع الرصاص وأزيز الطائرات.. هكذا وجدنا أنفسنا عزلا أمام هذه «الغارة الشعرية» وقد وقف بباب الديوان يستقبلنا بقصائد «نسيتها الحرب في جيب الشاعر» بتعبير الشاعرالكردي جان دوست.
وكما يقود الحب الشاعر إلى غرف الخيال، فقد يقوده أحيانا لحروب خاسرة يدخلها بوردة في اليد وجيش في القلب. يدخلها وهو بكامل يقينه بأن طعنات جمة ستستقر في روحه حتى وإن جمعت الحرب أوزارها وعاد محملا بهزائمه؛
«فرِحًا بشيء ما،
حالمًا بقصيدة زرقاء
من سطرين « كما قال الشاعر محمود درويش؛
هذا الـ» شيء ما».. هو ما يبقيه شاعرا منذورا لترميم الخراب حتى يعيد للحواس أصواتها وأعضاءها التي فقدتها في غمرة النار والغبار.
ونحن «في انتظار الحرب»، يداهمنا من «جاؤوا لنقص في السماء»، فنجلس «بقرب القسوة» الرحيمة نربي الأمل ولو أننا «جديرون باليأس» منذ أن جرب أبونا آدم أول «محاولة انتحار فاشلة» وترك «الحياة بلا اسم مهملة في الزحام».

الملائكة لا تسكن أعشاش الرماد

ولأن لا بطل بدون تراجيديا، يفتتح الشاعر ديوانه بالبحث عن هذا البطل وقد رسم له سماء في انتظار الصرخات التي يعقبها الانحدار والمأساة، كما في الإلياذة، هذه المأساة التي لن تكون إلا حربا أو لحظة مشهدية أشبه بالكسوف أو حلقة النار التي يرسمها الموتى، فيما الأحياء يتجولون في تفاصيل المشهد، وقد صاروا مفتونين برائحة الرماد الذي يسبق النار.
«دليني على البطل
وسأدلك على تراجيدياه
كما في الإلياذة
نطلق له سماء تتبعها صرخة
(….)
أسرعي
حتى نلقي نظرة أخيرة على الحرب..»

لقد أصبحت الحرب عنوانا لكل شيء حتى أنها تحولت الى عقيدة وطريقة لها مريدون وأتباع يريدون العبور إلى الجنة من باب المأساة. أتباع يعتقدون أنهم يرممون نقصا في سماء الله في ما يشبه ديكتاتورية تأويلية تضعهم أداة لتصريف إرادة الله في العالم. «جاؤوا» أم جاء بهم الشاعر عبد الحميد جماهري ليعري جسد هذه الحرب التي تُخاض اليوم بأشكال وأدوات جديدة، وتفتح النار من فوهات السماء؟.
إن اختيار عنوان «جاؤوا لنقص في السماء» لم تمله أية اعتبارات جمالية أو مجازية بقدر ما رام التأسيس لمحاورة بين الشاعر والعالم من زاوية ما عشناه من خلال تراجيديتين متقاربتين هما تفجيرات 11 شتنبر 2001 بـأمريكا و16 ماي 2003 بالمغرب: تراجيديتان حاول الشاعر عبد الحميد جماهري محو المسافة بينهما جغرافيا وتاريخيا، معبرا عن وعيه، شعريا، بهذه التراجيديا العالمية التي اسمها الحرب باسم الدين، يقودها جزء من البشرية يعتقد، بغير قليل من الغرور، بأنه لابد أن يكون على دراية بخطط الله في تدبير البشرية، وأنه منذور دون غيره ليرتق نوايا الله في هذا التدبير.
فهل كانت السماء باهتة إلى حد أن ما من دليل لاستعادة زرقتها وصفائها واكتمالها سوى بالعبور من نهر الدم المسفوح على قارعة الإنسانية؟
يقول في ص31:
اليوم، قبور طائرة في
الفنادق
والمطاعم
والبنايات الناطحة للسحاب
اتركوا التاريخ سليما يرعى، كخراف، أحداث الكتب،
ترابهم راحة الموتى أيضا.»

هل بمقدور الشاعر أن يكتب قصيدة وهو يتحسس جثة متفحمة مفتوحة العينين دون أن يحاور ذاكرة الطلقة منذ خروجها من مصانع بائعي الأسلحة إلى أن تستقر في جماجم الأطفال:
يقول في ص20:
الأطفال
يجربون مزحة جديدة
ويولدون شيوخا
حتى لا يستثمر باعة الأسلحة في جماجمهم الطرية..»
وفي هذا الحوار يقول الشاعر في نص «لولا الجثث» ص18:
الجثث تحدثت بصمت بارد جدا
مع قلوب من بقوا
على قيد الحياة.

اشتباكات شعرية

إن التراكم الذي حصل في تأويل الحدثين والأدبيات والمقاربات التي تناولته، يدفع إلى التساؤل عن قراءة الشاعر ومساءلته لهذه التراجيديا، وهو ما حاول الشاعر عبد الحميد جماهري طرحه في هذا «البيان الشعري»، متكئا على ما اختزنته الذاكرة من نصوص دينية وأسطورية في مساءلة ما حدث، مغترفا مما تربى في غرف الخيال من أساطير ومحكيات الجدة، أو الموروث الديني عن الأب.. في ما يمكن وصفه بالاحتماء بــ»الذي كان» ولايزال يحتفظ بحرارته مادام غير منتم إلى هذا العالم الذي نعيشه، هو احتماء من أجل الإعلان عن موقف شعري مما يحصل. ولهذا فالعمل والعنوان، يسبقُه، متفرعان عن تجربة شخصية جوانية ربما فيها رؤية معينة للعالم، لكنها تحمل في طياتها تشعبا فرعيا وذاتيا للتعبير عن الوعي بالأحداث، شعريا وجماليا.
يقول في ص14:
لماذا اختار الفراغ أن يكون هادئا
بالرغم من ارتطامي المتكرر مع نفسي
حول أصدقائي الجنود
الأخيرين في معارك السفح»

إن الشاعر لايزال مصرا على المقاومة وإن تخلى عنه الرفاق وأعلنوا الهدنة أو حتى الاستسلام وعقد صفقات أو توافقات مع الأعداء.

يقول في ص16:
«اتركوا لي حصتي من الأعداء
وخذوا حصصكم
واحدا، واحدا
أحبوهم إذا شئتم

أنا حر في عداوتي
لن أصالح
لم هذه الضجة
حول حقي في الاعداء
أنا لن أصالح
انا لا أعرف سوى
حقي في التراب
كي أقيم للأعداء محكمة !»
ص16

يقيم الشاعر، وهو يشتبك مع الواقع، نوعا من المواجهة مع الذات بعين الشاعر لتصفية حساباته مع الهواجس الحبيسة، بإطلاقها وإثارة أسئلة الوجود والعدم. يسائل الذات والآخر والمحيط ، تصريحا وتلميحا، هي أسئلة تختزل قلقه الوجودي ومواقفه من أعداء الحياة. ففي كل قصائد الديوان يقيم الشاعر حوارا مع النصوص الدينية والصور والقَصص: آدم وحواء قابيل وهابيل، يوسف… في مساءلة مستمرة لهذه النصوص التي عشناها وتعايشنا معها دون أن نفكر في ابتكار قراءات ومداخل جمالية جديدة لها كـقصة (آدم وحواء مثلا) التي لم تخرج من شرنقة القراءة الوحيدة والمطمئنة دون استحضار تمثلها إبداعيا للانفلات من الموروث الأخلاقي الذي يحاول احتكار تأويل الأشياء والمعاني، مموضعا إياها في خانتي المقدس والمحرم، والتي حاول جماهري في هذا الديوان قراءتها شعريا في ربط للمقدس الثابت بالبشري المتجدد، فكان أن أضحت «قصة آدم وحواء»،» محاولة انتحار فاشلة» دشنت لبداية مأساتنا البشرية:
يقول في ص59:
بدأت الإنسانية
بمحاولة انتحار فاشلة
لما ألقى آدم
بنفسه من أعلى السماوات
إلى الأرض..
وظل حيا..
حدث ذلك بدون قصد
في ما يبدو..

إن الشاعر في هذه المحاورة مع القَصَص الديني يحمل نظرة إلى السماء، نظرة تستحضر جذورنا التي في السماء، جذورنا الإنسانية والأسطورية والدينية وتحملها إلى الكتابة عبر محاورة قلقة مع نوع من الاطمئنان الديني والعقدي ليس بالشكل الذي ورثناه، بل مساءلة مستمرة وإشعار للكائن البشري بأنه هو أيضا ناقص سماء وأرض وكينونة وعليه مواصلة استكمالها، حتى وهو محاط بالحروب، الحقيقية منها والوهمية.

لغة أعلى
من سقف المأساة

ولأن « الحرب تنقصها قصيدة كي لا يولد المجاز ميتا» كما يقول الشاعر الفلسطيني غياث المدهون، فإن على اللغة أن تبقى دائما أعلى من سقف المأساة. فالشاعر يعتبر أن الأرض إرث شخصي له ولسلالته من الشعراء وأن الاقامة في العالم لا يمكن أن تكون إلا لغة وشعرا، وهو بهذه اللغة التي تعبر الى أقاصي إيغالاتها في الروح والذات المنكسرة، يحاول إعادة تركيب الحياة والعالم بالشكل الذي يمنحه طمأنينة لا تتحقق إلا من داخل الشعر، وهو ما يطرح سؤالا حول نوع العلاقة التي يريد الشاعر اليوم ربطها مع العالم بعد عقود من الصدام والاشتباك لم تخل من تجاذب السياسة والإيديولوجيا.
يقول في ص39:
ليس لي من بحر سوى
ما تركته اللغة من زبد على لساني
ومن نشيد
وليس لي من لغة سوى ما تخلق من موج البحر
في وجداني
أنا الشاعر أوزع قسطي من إنسانيتي
على أشباحي
وشبهاتي»

طمأنينة الشعر قد تصل حد مجالسة القسوة وعقد رباط وجداني معها، بعد أن نسج معها الشاعر ألفة فصارت كلما ابتعد الشاعر، ركضت إليه وكلما أحس بضغط اليومي، ركض إليها متوددا لتسعفه برائحة التراب وبقلب طري ليواصل الكتابة وعبرها الحياة .
يقول في ص44:
اجلسي بالقرب مني أيتها القسوة
أحتاجك لأتحدث إلي..
لأعطيك حزنا رقراقا
لا يسألني أمامك
من أين أتيتُ به.
وليحقق لمتخيل هذه اللغة توهجه، فإنه يهرب بلغته الى أبلغ ممكناتها وانزياحاتها عبر الاستعارات والمجازات  التي تشيد وجودها الشعري.

يقول في ص9:
«بهذا سأسعف اللغة..
لابد أن تكون النافذة مفتوحة
على سماء
صحوة، بديعة
وطائر يحلق قريبا
حتى تستطيع اللغة إعداد المشهد اللائق بوصول الجنود»

«جاؤوا لنقص في السماء» ديوان بمثابة إعلان حرب على الحرب، يخوضها جماهري بصدر عار وبطلقات شعرية تصدرها عين قناص لا تخطئ الطريدة التي قد تكون ظبية شاردة أو خرابا. ربما هي دعوة من وسط الضباب والأدخنة، وعلى وقع أحذية الجنود لكل الشعراء لإعادة تركيب أطراف العالم في جسد سائل يتحسس أعضاءه كل دقيقة من كثرة الضربات. فالحرب تحتاج دوما الى قصيدة تنازل بندقية وتحوّل الجرح إلى سوسنة.
ولأن ما تبقى يؤسسه الشعراء كما قال الشاعر الألماني هولدرلين، فإن ما تهدمه الحرب، يبنيه الشعر. فالشاعر وهو يقرأ سيرة هذا العالم غير العطِرة، ينذر نفسه لحمايته وحماية أسباب الجمال فيه، فهل حقا باستطاعته القيام بهذه المهمة الثورية؟ وهل يهزم دُورِيُّ القصيدة عُقابَ الموت؟


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 22/04/2022