الذكرى الخمسون للمسيرة الخضراء في الفضاءات التخييمية: من التلقين إلى التمكين الوطني

 

في عمق الصيف، حيث تتهجّى الطفولة نشيدها على إيقاع الأمواج وظلال الأمل، وفي حضرة الضوء الذي يسكن العيون ، يبرز سؤال جوهري يتجاوز حرارة الشمس ,كيف نُحَوِّل موسم التخييم من فسحة مؤقتة إلى ورشة دائمة لبناء المواطنة؟ وكيف نجعل من الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء لحظة استثنائية لتخليق الشعور بالانتماء، لا عبر خطابات ، بل من خلال تنشيط ذكي يحوّل الذاكرة الوطنية إلى طاقة تربوية متجددة؟
ليس تخليد الذكرى الذهبية مجرد رقم في مفكرة الزمن، بل لحظة وجودية تَستدعي المغاربة، صغارًا وكبارًا، إلى محراب التاريخ من أجل استعادة بوصلة الفخر والانتماء. المسيرة الخضراء، التي خرج فيها 350 ألف مغربي ومغربية ذات نداء ملكي، لم تكن فقط مشيًا على رمال الجنوب، بل كانت ارتقاءً جماعيا نحو المعنى: معنى الوطن، معنى الوحدة، ومعنى الإيمان بقضية عادلة تُصاغ بالقرآن لا بالبارود، وبالسلام لا بالدماء.
المخيم الصيفي ليس مدرسة تقليدية ولا منصة تأطير سياسي، بل مختبر تربوي حرّ، فيه تتنفس الطفولة على سجيتها، وتعيد اكتشاف العالم دون قيود. وهنا تبرز أهمية الذكاء التربوي، الذي يجعل من الذكرى الخمسين جسراً تربوياً نحو المواطنة النشيطة.
على الجمعيات والمنظمات المدنية العاملة في مجال التخييم أن تغتنم هذا الظرف التاريخي وتحوّله إلى لحظة إشعاع تربوي. وكل طفل في المخيم يحمل في قلبه حكاية من ترابها، حتى إن لم يعشها. مهمتنا أن نوقظ تلك الحكاية في قلبه، أن نمنحها جناحين لتحلق.
التخييم بالقيم هو مشروع استراتيجي، لا موسمي عابر. وكل قيمة وطنية لا تُزرع في لحظة الانفتاح الوجداني التي يخلقها المخيم، لن تُغرس في المناهج ولا في الشعارات. التربية على المواطنة تبدأ حين يشعر الطفل أنه شريك، لا مجرد متفرج. حين يُمنح الحق في السؤال، في النقد، في الحلم، وفي التعبير عن حبه لوطنه بطريقته، لا بطريقة الكبار وحدهم.
وليس المقصود من هذا الحماس الوطني أن نُحوّل التخييم إلى فضاءٍ للمواعظ أو الخطب الجافة. بل أن نُعيد الروح إلى الفعل التربوي عبر التنشيط: أن نُعيد المسيرة إلى الذاكرة عبر التفاعل، لا عبر التكرار. أن نستثمر الفن، والمسرح، والألعاب، والشعر، والأغنية الوطنية، والإعلام التخييمي، لنقول للطفل: لك وطن يستحق أن تفخر به، أن تُحبَّه، أن تفهمه، وأن تبنيه ذات يوم.
لقد آن الأوان لأن ندعو إلى تعبئة وطنية داخل الفضاء التربوي التخييمي، تعبئة تستثمر الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء في صناعة ذاكرة جديدة منفتحة على المستقبل، ذاكرة تُجدد العلاقة بين الطفل والتاريخ، بين الأجيال الجديدة وأمجاد بلادها، بعيدًا عن النمطية. ولأن حب الوطن لا يُلقن في كتب التربية الوطنية وحدها، بل يُبنى في لحظات المشاركة والفرح والتفكير الجماعي، فإن المخيمات لهذا العام مطالَبة بأن ترتقي بالفعل الوطني التربوي إلى مستوى الحدث.
نقترح أن يُخصص محور تربوي في كل جماعة او فرقة بعنوان «المسيرة المستمرة»، فيه تُروى قصص المشاركين الحقيقيين في المسيرة، وتُعرض شهادات بالصوت والصورة، وتُقام ورشات إبداعية يُنتج فيها الأطفال محتوياتهم الخاصة: لوحات، أغانٍ، قصائد، فيديوهات قصيرة. وليكن لكل مخيم لحظته الخاصة في تخليد الذكرى: لحظة لا تنسى، لحظة تتسلل من الذاكرة إلى الهوية.
وننتظر كالعادة من وزارة الشباب والثقافة والتواصل قطاع الشباب والجامعة الوطنية للتخييم أن تدعم هذه الدينامية ببطاقات تربوية جاهزة، ودلائل تنشيطية حول استثمار الرموز الوطنية، وتكوين المؤطرين في كيفية تفعيل مضامين المسيرة الخضراء بطريقة مشوقة، تراعي الفئات العمرية وتنوع المرجعيات. فالتأطير الجيد هو أساس كل أثر تربوي دائم.
إن تخليد الذكرى الذهبية للمسيرة الخضراء في مخيمات 2025، يجب ألا يكون مجرد لحظة رمزية، بل مشروعًا تربويًا متكاملاً، يندرج ضمن رؤية شمولية للتخييم باعتباره فضاءً لبناء الإنسان. فلا معنى لأي نشاط وطني لا يخاطب القلب والعقل، ولا معنى لأي حديث عن التاريخ لا يتقاطع مع المستقبل.
فلنَصنَعْ من هذه الذكرى، لا تمجيدًا للماضي فقط، بل استثمارًا فيه لبناء أطفال يُحبون الوطن لأنهم فهموه، ا. أطفال يحلمون بوطن أجمل، لأنهم عاشوا فيه لحظات فخر.
إن المسيرة الخضراء لم تنتهِ بعد، ما دام هناك طفل يحتاج من يروي له الحكاية، لا ليستمع فقط، بل ليُكملها بطريقته.


الكاتب :   محمد قمار

  

بتاريخ : 01/07/2025