ملحمة خالدة من أجل الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية والوحدة الترابية
يخلد الشعب المغربي من طنجة إلى الكويرة، ومعه أسرة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير، من 16 إلى 18 نونبر 2024، الذكرى 69 لعودة بطل التحرير والاستقلال جلالـة المغفور له محمد الخامس من المنفى إلى أرض الوطن، معلنا عن انتهاء عهد الحجر والحماية وبزوغ فجر الحرية والاستقلال، والانتقال من الجهاد الأصغر التحرري إلى الجهاد الأكبر الاقتصادي والاجتماعي، وانتصار ثورة الملك والشعب المجيدة التي جسدت ملحمة بطولية عظيمة في مسيرة الكفاح الوطني الذي خاضه الشعب المغربي الأبي بقيادة العرش العلوي المنيف من اجل نيل الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية والوحدة الترابية.
وتعد ذكرى عيد الاستقلال المجيد من أغلى الذكريات الوطنية الراسخة في قلوب المغاربة لما لها من مكانة وازنة ومتميزة في رقيم الذاكرة التاريخية الوطنية، وما تمثله من رمزية ودلالات عميقة تجسد انتصار إرادة العرش والشعب والتحامهما الوثيق دفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية. وبتخليد هذه الذكرى المجيدة، نستحضر السياق التاريخي لهذا الحدث العظيم الذي لم يكن تحقيقه أمرا يسيرا أو هينا، بل ملحمة كبرى طافحة بمواقف رائعة وعبر ودروس بليغة وبطولات عظيمة وتضحيات جسام وأمجاد تاريخية خالدة صنعتها ثورة الملك والشعب التي تفجرت إيذانا بخوض غمار المواجهة والمقاومة، وتشبثا بالوطنية الحقة في أسمى وأجل مظاهرها.
لقد شكلت عودة الشرعية والمشروعية التاريخية بعودة بطل التحرير والاستقلال، نصرا مبينا وحدثا تاريخيا حاسما، توج بالمجد مراحل الكفاح المرير الذي تلاحقت أطواره وتعددت مظاهره وصوره في مواجهة الوجود الاستعماري المفروض منذ 30 مارس سنة 1912، حيث خلد المغاربة أروع مواقف وقيم الغيرة الوطنية والالتزام والوفاء، وبذلوا أغلى التضحيات في سبيل عزة الوطن وكرامته والدفاع عن مقدساته وثوابته. فكثيرة هي المعارك البطولية والانتفاضات الشعبية التي خاضها أبناء الشعب المغربي بكافة ربوع المملكة في مواجهة مستميتة للوجود الأجنبي والتسلط الاستعماري. ومن هذه البطولات، نذكر معارك الهري وأنوال وبوغافر وجبل بادو وسيدي بوعثمان وانتفاضة قبائل آيتباعمران والأقاليم الجنوبية وغيرها من المحطات التاريخية التي لقن فيها المجاهدون للقوات الاستعمارية دروسا بليغة في الصمود والمقاومة والتضحية.
ومن روائع الكفاح الوطني، ما قامت به الحركة الوطنية مع مطلع الثلاثينات من القران الماضي بالانتقال إلى النضال السياسي والعمل الوطني الهادف بالأساس إلى نشر الوعي الوطني وشحذ العزائم وإذكاء الهمم في صفوف الناشئة والشباب وداخل أوساط المجتمع المغربي بكل أطيافه وفئاته وطبقاته. كما عملت الحركة الوطنية على التعريف بالقضية المغربية في المحافل الدولية، مما كـان لـه أكبر الوقع وأبلغ الأثر على الوجود الأجنبي، الذي كان يواجه النضال السياسي الوطني بإجراءات تعسفية ومخططـات مناوئة للفكر التحرري الذي تنشره وتشيعه الحركة الوطنية بتشاور وتناغم مع أب الأمة وبطل التحرير والاستقلال جلالة المغفور له محمد الخامس قدس الله روحه.
ومن أبرز هذه المخططات الاستعمارية، مشروع التفرقة بين أبناء الشعب المغربي الواحد وتفكيك وحدتهم وطمس هويتهم الدينية والوطنية بإصدار ما سمي بالظهير البربري يوم 16 ماي 1930. لكن المخطط العنصري والتمييزي سرعان ما باء بالفشل حيث وقف الوطنيون والمناضلون في خندق مواجهة ومناهضة الوجود الاستعماري، وتمسك المغاربة بالدين الإسلامي الحنيف وبالهوية المغربية وبالوحدة الوطنية.
ومن تجليـات وإفرازات النضـال الوطنـي، إقدام صفوة من طلائع وقادة الحركة الوطنية على تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال الى سلطات الحماية يوم 11 يناير 1944، بتشاور وتناغم تامين مع بطل التحريـر والاستقلال جلالة المغفور له محمد الخامس، وما أعقب ذلك من ردود فعل عنيفة من لدن السلطات الاستعمارية، حيث تم اعتقال بعض قادة وزعماء ورجالات الحركة الوطنية والتنكيل بالمغاربة الذين أظهروا حماسا وطنيا منقطع النظير وعبروا بشجاعة وشهامة عن تأييدهم للوثيقة التاريخية. كما أن من ابرز هذه المحطات التاريخية التي ميزت مسار الكفاح الوطني، رحلة الوحدة التاريخية التي قام بها أب الوطنية وبطل التحرير والاستقلال إلى طنجة يوم 9 ابريل 1947 تأكيدا على تشبث المغرب، ملكا وشعبا، بحرية الوطن واستقلاله ووحدته الترابية وتمسكه بمقوماته وهويته وبانتمائه لمحيطه العربي والإسلامي.
لقد كان لهذه الرحلة الميمونة، رحلة الوحدة، الأثر البالغ على علاقة الإقامة العامة بالقصر الملكي حيث اشتد الصراع، خاصة وأن جلالة المغفور له محمد الخامس لم يرضخ لضغوط سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية المتمثلة أساسا في فك الارتباط بالحركة الوطنية ومع المد التحرري الوطني. فكانت مواقفه الرافضة لكل مساومة سببا في تأزم الوضع السياسي وإقدام سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية على تدبير مخطط تفكيك العرى الوثقى بين الملك وشعبه. وقد تصدى المغاربة لهذه المؤامرة التي تجلت خيوطها في الأيام الأولى من شهر غشت 1953 حيث وقف سكان مدينة مراكش بالمرصاد يومي 14 و15 غشت 1953 للحيلولة دون تنصيب صنيعة الاستعمـار ابن عرفة. كما انطلقت انتفاضة 16 غشت 1953 بوجدة، وانتفاضة 17 غشت 1953 بتافوغالت، وعمت مواقف الاستنكار والتنديد بالفعلة النكراء لقوات الاحتلال الأجنبي في سائر ربوع الوطن حينما أقدمت سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية على محاصرة القصر الملكي بقواتها الأمنية والعسكرية يوم 20 غشت 1953، مهددة ومتوعدة جلالة المغفور له محمد الخامس بالتنازل عن العرش، ففضل النفي على أن يرضخ لإرادة المحتل الأجنبي، مصرحا بكل ما أوتي من إيمان وقناعة بعدالة القضية المغربية، بأنه الملك الشرعي للأمة، وانه لن يضيع الأمانة التي وضعها شعبه الوفي على عاتقه وطوقه بها، والتي تجعل منه السلطان الشرعي ورمز السيادة الوطنية والوحدة الوطنية.
وأمام هذه المواقـف الوطنية النبيلة التي اتخذها بعزم وحزم وإصرار بطل التحرير والاستقلال والمقـاوم الأول جلالة المغفــور له محمد الخامس، وبكـل شجاعة وإقدام، أقدمت سلطات الإقامة العامة على تنفيذ مؤامرتها النكراء بنفيه ورفيقه في الكفاح والمنفى، المغفور له الحسن الثاني والأسرة الملكية الشريفة يوم 20 غشت 1953 إلى جزيرة كورسيكا ومنها إلى مدغشقر.
وما أن عم الخبر المشؤوم سائر ربوع المملكة وشاع في كل أرجائها، حتى انتفض الشعب المغربي انتفاضة عارمة، وتفجر سخطه وغضبه في وجه الاحتلال الأجنبي، وظهرت بوادر العمل المسلح والمقاومـة والفداء وتشكلت الخلايا الفدائية والتنظيمـات السرية وانطلقت العمليات البطولية لضرب غلاة الاستعمـار ومصالحه وأهدافه. وتجلى واضحا من الهبة الشعبية لثورة الملك والشعب عزم المغاربة وإصرارهم على النضـال المستميت من أجل عودة الشرعيـة والمشروعية التاريخية وتحقيق الاستقـلال. فمن العملية الفدائية الجريئة للشهيد علال بن عبد الله يوم 11 شتنبـر 1953 التي استهدفت صنيعـة الاستعمار، إلى عمليات فدائية بطولية للشهيد محمد الزرقطوني ورفاقه في خلايـا المقاومـة بالدار البيضاء وعمليات مقاومين ومناضلين بالعديد من المدن والقرى المغربية، لتتصاعد وتيرة المقاومة بالمظاهـرات والاحتجاجات العارمة والانتفاضات الشعبية المتتالية ومنها مظاهرات وادي زم وقبائل السماعلة وبني خيران وفي العديد من المناطق المغربية في 19 و20 غشت 1955، وتتكلل بالانطلاقة المظفرة لجيش التحرير بالأقاليم الشمالية للمملكة في ليلة 1-2 أكتوبر 1955.
ولم تهدأ ثائرة المقاومة والفداء إلا بتحقيق أمل الأمة المغربية في عودة بطل التحرير والاستقلال ورمز الوحدة الوطنية، جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه، حاملا معه لواء الحرية والاستقلال، ومعلنا عن الانتقال من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر من أجل بناء المغرب الجديد ومواصلة ملحمة تحقيق الوحدة الترابية. فانطلقت عمليات جيش التحرير بالجنوب المغربي سنة 1956 لتخليص الأقاليم الجنوبية الصحراوية من نير الاحتلال الإسباني، وقد أعلنها بطل التحرير صيحة مدوية في خطابه التاريخي بمحاميد الغزلان في 25 فبراير 1958، وهو يستقبل وفود أبناء قبائل الصحراء، مؤكدا مواقف المغرب الثابتة وتعبئته التامة لاسترجاع صحرائه السليبة، ومحققا في 15 أبريل من نفس السنة 1958 استرجاع منطقة طرفاية، كبداية انتصار مسلسل تحرير ما تبقى من المناطق السليبة من الوطن.
وسيرا على نهج والده المنعم، خاض الملك الحسن الثاني معركة استكمــال الوحدة الترابية، فتم في عهده استرجاع مدينة سيدي ايفني في 30 يونيو 1969، كما تحقق استرجــاع أقاليمنا الجنوبية بفضل المسيرة الخضراء المظفرة التي انطلقت يوم 6 نونبر 1975، وارتفع العلم الوطني في سماء العيون يوم 28 فبراير 1976، إيذانا بجلاء آخر جندي أجنبي عنها. وفي 14 غشت من سنة 1979، تواصل استكمال الوحدة الترابية للوطن باسترجاع إقليم وادي الذهب لتتحقق الوحدة الترابية من طنجة إلى الكويرة.
وإن أسرة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير وهي تستحضر بفخر واعتزاز هذه الملحمة التاريخية الغنية بالدروس والعبر والطافحة بالمعاني والقيم، لتؤكد وتجدد التعبئة المستمرة والتجند الموصول لسائر فئات وشرائح المجتمع والقوى الحية والشعب المغربي قاطبة وراء جلالة الملك محمد السادس من أجل الترافع عن قضيتنا الوطنية الأولى، قضية الوحدة الترابية، والتي دعا جلالته إلى الانتقال بها «من مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير» مشدداً على أنها «القضية الأولى لجميع المغاربة». كما أكد جلالته في خطابه السامي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية الحادية عشرة، يوم الجمعة 11 أكتوبر 2024، في نفس المضمار: «لقد قلت، منذ اعتلائي العرش، أننا سنمر في قضية وحدتنا الترابية، من مرحلة التدبير، إلى مرحلة التغيير، داخليا وخارجيا، وفي كل أبعاد هذا الملف. ودعوت كذلك للانتقال من مقاربة رد الفعل، إلى أخذ المبادرة، والتحلي بالحزم والاستباقية»، انتهى المقتطف من النطق الملكي السامي.
وفي هذا السياق، تثمن أسرة المقاومة وجيش التحرير عاليا الانتصارات الدبلوماسية المتتالية التي حققتها بلادنا في الآونة الأخيرة تحت القيادة الحكيمة والمتبصرة لجلالته الذي يقود باقتدار وبعد نظر مسلسل تسوية النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، حيث توج هذا المسار باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية واسبانيا ومؤخرا باعتراف كل من فرنسا وفنلندا الاسكندنافية ودولة الدومينيكان وغيرها من الدول بسيادة المغرب على كل ربوع الأقاليم الجنوبية المسترجعة. وقد أثمرت هذه الانتصارات الدبلوماسية فتح العديد من الدول قنصليات وتمثيليات لها بمدينتي العيون والداخلة بالصحراء المغربية، والتي وصل عددها إلى 30 قنصلية وتمثيلية منها 17 بمدينة الداخلة كان أخرها فتح قنصلية عامة لدولة تشاد تزامنا مع تخليد الذكرى 45 لاسترجاع إقليم وادي الذهب يوم 14 غشت 2024.