«أخي محمد عنيبة، وأنت هناك.. بعيدا في صمتك الأبدي، لا تغيب لحظة عن التفكير، تحضر في بالي على الدوام، بدون انقطاع، أستحضر لقاءاتنا الكثيرة، البعيدة منها والقريبة، فأستغيث بتألقها، عسى أن تظل نفسي متماسكة، وأحتمي بفيئها، لعل دواخلي تبقى منضبطة. لكن هيهات أن يحصل ذلك التماسك، وأنا في خضم الذكريات التي مررنا بها معا، وبعد أن يحدث هذا الانضباط، وأنا في مجرى الحياة التي عشناها معا، أنهار وينكسر قلبي، بعمق وجداني رهيب، وتصاب روحي بصدمة عاطفية قوية، فأغيب عن الوجود، فلا أعود أشعر بالأشياء حولي، عندئذ أرى عنيبة قبالتي بقامته اللافتة، يحث الخطى نحوي، أقف لأعانقه، من مكاني بمقهى «لاشوب» ثم يجلس إلى طاولة بجانبي، ثم نطفق نتجاذب أطراف الحديث،،أسرح بذهني، أستعرض كل الأيام،تحضرني هذه الرسالة التي كتبتها له، ذات يوم بعيد، في البدايات الأولى من علاقتي بهː
«أنت الشاعر محمد عنيبة الشاعر النبيل الصادق الذي تصفو السماء بقربه، وينقشع الغيم، ويزول الكدر، وتنجلي الأحقاد على إثره. عند أول المساء حين نلتقي حيث تكون- بكامل بهائك ومنتهى أناقتك-جالسا تحكي بعض الوقائع التي يفرزها سياق الحديث بطريقة ماتعة وأسلوب شائق مثير لا يمل المرء من متابعتها لما فيها من بهاء وسحر .أنت الحكاء البارع المدهش لا تخذلك عوالم السرد، ولا تخيبك أدوار المسرح . فيك كل هذا العمق، وفيك كل هذا النغم، الذي يسري في شرايين القصيدة الحالمة منذ أن اعتلت دواوينك برج الماء وسحبت حروفك معاطف الليل إلى عمرك وجرحك الغائر في شرخ ذاكرة الوطن. أنت الرقيق اللطيف الذي تهب نسمات روحه على ذاكرة المكان فتحفر فيها وشوم الملائكة، وعثرات الرمل ولمع الصدفات .كم فيك من ألق ! وكم فيك من حياة ! معك يكون للوقت مذاق آخر، تعطيه من روحك، فيمسي ناعما كما لو كان فيه رقص الماء، وعذوبة الأحلام، ولون النوارس، على خدود البحر، وفيه هذا السفر إلى طفولة أبدية، وأراجيح معلقة على غصون الريح، وتحليق بلا نهاية مسماة .أنت أيها الشاعر الذي يرسم الجمال في الحياة ، قبل أن يرسمه في الحرف. كم فيك من سحر! وكم في حياتك من دهشة تصنعها كفراشة على أديم السماء، وعلى صفحة المساء الطويل الذي تعتليه بكل الضوء، وبكل العطر ، وبكل البذاخة العالية الشامخة.
وأنت بعيد هناك في صمتك الأبدي، لا تغيب لحظة عن التفكير، أشعر أن غيمة ثقيلة تجثم على قلبي، وتتراءى لي في المدى سحابة كثيفة شاردة، توشك أن تخنق الهواء الذي في رئتي، والهواء الذي في رئة الأرض، ينقبض قلبي بوطأة شديدة، يصعب تحملها ؟ وينسكب الحزن كالرصاص في روحي، عميقا،، عميقا كرحى قدر ضاغط، ينكتب في لوح العمر، ويدون بمداد الدم في سجل الحياة.
وأنت بعيد هناك في صمتك الأبدي، أحس أن الحياة أمست بلا أي معنى، وبلا أي مسوغ، لأكون هناك، أو هنا في هذه البقعة الضيقة من خريطة الوجود، أصبح سيان عندي، ذلك، لأن البقع تشابهت، في القحط والجفاف والجدب، والأماكن تماثلت في الجفاء والغلظة والفظاظة..
أشعر أن الأشياء، بدأت تفقد بريقها وقيمتها، والحياة طفقت تخسر طعمها ونكهتها، والوجود أخذ يضمحل سحره وبهاءه..لم يقع ذلك بالتدريج، الذي ألفت الحياة أن تسير عليه، ولكنه وقع بعجالة خاطفة، وبسرعة مفاجئة. حتى لكأن الأضواء خفتت فجأة، وبدون سابق إعلان.
آه أخي محمد عنيبة، على هذا الغياب ، الذي يرغمنا على تحمل ثقل الألم!، ويجبرنا على اجترار الأحزان والخيبات، بقلب محطم منهد، وروح منهارة مهشمة، أي شيء يبقى لنا في هذه الدنيا؟ إذا غاب الأصدقاء الحميميون، ونأوا بأرواحهم خلف بياض الصمت، وابتعدوا بوجدانهم وراء غيوم السكون، ، أي موقف هذا الذي يجعلنا نغلي من الداخل، ويجعل عقولنا جامدة مثل كومة ثلج، تغوص في غور الجليد، فتمسي حجرا كلسيا، كأن بلادة استوقفتنا، بلا نطق، أو كأن غباوة داهمتنا، بلا استئذان، يا له من موقف حرج وصعب، أن لا نلاقي فيه سوى هذه العيون تغرورق بالدموع، بما نراه من جسد مسجى وجثة هامدة ، وعيون غافية. إنها للحظات ارتباك قصوى! وإنها للحظات شرود عارمة، نتمنى فيها بكل جوارحنا، وبكل قوانا، أن يكون ما نراه وهما، مجرد وهم، يتبخر كدخان أمامنا، لنستعيد قوتنا التي كدنا نفقدها، أمام هذا المشهد المؤلم.
أخي محمد عنيبة ، سيبقى كرسيك فارغا، طوال العمر المتبقي، لكن حضورك سيصاحبني، ستصاحبني ابتسامتك الصافية، الخالصة، اللائقة، وسيصاحبني حديثك الرائق، الشجي، الشائق، الذكريات ستصاحبني مثل الظل الخافق، مثل ورق الشجر الأخضر، ستغمرني بالضوء، الذي كنت دائما، تصيبني به في وجداني، سأرى عشقك للحياة، مرحك الدائم، عند صفاء الذهن، وهناءة الروح، سأرى تحليقك الشعري، ونشدان الحلم في عيون الأطفال، سأرى كل ذلك، بعمق كبير، وبدهشة غامرة بالحياة، غامرة بالولادة المتجددة، كأنها الأزل والخلود..
طب راحة صديقي، وعم سكينة وليرحمك لله رحمة واسعة وانا لله وانا اليه راجعون».
( قدمت هذه الشهادة في حفل تأبين الشاعر الراحل محمد عنيبة الحمري يوم السبت 8 فبراير 2025، المنظم من طرف فرع المركز المغربي للثقافة والإبداع بمكناس)