الرؤية الفنية في رواية «راهب بيت قطرايا»

تتناول الرواية الجديدة للدكتور خالد الجابر” راهب بيت قطريا”، جدلية الدين والسياسة والإنسان في القرن السابع الميلادي، وهي الحقبة التي انتهت معها الحروب الرومانية الفارسية وازدهرت فيها طوائف الديانة المسيحية في منطقة الخليج والجزيرة العربية. في نفس الحقبة انتشرت الدعوة الإسلامية ووصلت الرسالة المحمدية إلى منطقة “بيت قطريا” والتي تشمل جغرافية دولة قطر حاليا وتمتد عبر الساحل الغربي للخليج العربي.
تستعرض سردية الرواية صراع الخير والشر، الحرية والعبودية، الإستقلال والتبعية،الحب والكراهية، العرب والعجم، الدعوة والإيمان، النّاسوت واللّاهوت، التوحيد والمعتقدات،الهوية والانتماء،السلطة والثورة، والتمسك بالمبادئ والقيم مقابل المصالح الذاتية والآنية.
يعكس النسق التاريخي في الرواية (أركيولوجيا) سردية متنقلة لمتابعة الأحداث والتوغّل في وقائع التاريخ في تلك الفترة الزمنية،وطرحها مقروناً بسيرة الشخصيّات التي تماهت مع تلك الحقبة، مما يضفي على الأثر جمالية التناول والتنقل في الفضاءات السردية والمزج بين الحقيقية والتخييل، وإعادة اكتشاف ما هو واقعي وتاريخي وفق المنظور الإنساني. ومما يعمّق من معاني هذا التشابك هو أنَّ الذات الإنسانية ومعايشتها تمثّل الركيزة أو العلامة المركزية. فالأحداث بصيغتها الفنيّة والتاريخية ترصد حركة الإنسان وصراعاته وتحوّلاته ومكابداته وتفاعلاته عبر المسار الزمني، والذي لاتزال امتداداته وارتداداته حاضرة الى الوقت الراهن.

الحبكةالروائية

تتشكل الرواية، من مقدمة، وأربعة مجلدات (فصول)؛ جاء المجلد الأول في خمسة عشر جزءًا، والمجلد الثاني جاء في ثلاثين جزءًا، والمجلد الثالث جاء في خمسة عشر جزءًا، والمجلد الرابع في خمسة عشر جزءًا.
يعتبر اختيار العنوان من العناصر المهمة والفاعلة في النص الأدبي، والعتبة الأولى للغوص في عالم الرواية، وقد اختار المؤلف الروائي د. خالد الجابر الاسم التاريخي الذي تميزت به قطر ومنطقة الخليج (بيت قطريا)، وهي منطقة ذكرت بشكل لافت في تاريخ الكنيسة النسطورية من القرن السابع الميلادي،وقد سجلت المجامع النسطورية عددا من أساقفتها الذين حضروا المجامع النسطورية، ومنها رجال دين لاقوا شهرة عظيمة مثل إسحق القطري،وداد يشوع القطري، وجبريل القطري، وإبراهيم برليفي، وتوماس القطري، وأيوب المفسر، وجبرائيل الطقساني، ومعظم من كان ينتهي اسمه باسم قطر ينسب إلى بيت قطرايا.
وصمم غلاف الرواية على شكل خريطة لمنطقة الخليج والجزيرة العربية تظهر فيها اسم «كتارا» (Katara) التي تدل على قطر، حيث كُتب اسم كتارا على شكل Katara بدلا من Catara، واستخدمت هذه التسمية من قبل الجغرافيين منذ صدور خريطة بطليموس عام 150 . وعلى الغلاف صورة متخلية للقديس اسحق القطري المعروف بالسرياني، والذي يعتبر من أكبر المعلمين الروحيينفي القرن السابع الميلادي.
أما مقدمة المؤلف، فقد كتبت بطريقة متميزة لكي تعطي إيحاء أن الرواية أحداثها وكأنها واقعية أو حدثت بالفعل، حيث طرحت على شكل مجلدات وجدت في الأرشيف السري الفاتيكاني أو “الأرشيف الرسولي الفاتيكاني”، الذي تمَّ إنشاؤه ليكون تحت إشراف البابا مباشرة وتحت تصرفه حصرا دون الآخرين واستمر الحال خلال القرون الخمسة الماضية، إلى أن تم السماح للباحثين والمختصين بالاطلاع عليها منذ سنوات قليلة فقط.
الاحياء الروائي للرواية أشبه بمحاولات استخدمت في روايات سابقة وحققت نجاحا وانتشارا كبيرامثل ما حصل في رواية “عزازيل “ليوسف زيدان و”سمرقند” لأمين معلوف؛ و”المخطوطة الشرقية” لواسيني الأعرج؛ و”ظلمةيائيل”، و”مملكة الجواري” للغربي عمران؛ و”مخطوطة ابن إسحاق” بأجزائها الثلاثة لحسن الجندي؛ و”سابع أيام الخلق” لعبد الخالق الركابي؛ و”دَيْر ورق» لمحمد رفيع؛ و”جسر بنات يعقوب” لحسن حميد؛ و”مجدلية الياسمين” لثابت القوطاري.
تشير الباحثة أميرة زيدان إلى أن تقنية الوثيقة (المخطوطة، الرسائل، الكتاب، الورق) تعد أحد أشكال البناء السردي، وتكشف عن وعي مقصود بهذه التقنية المتمثلة، أحيانًا، في البحث عن مخطوطة، أو مذكرات مفقودة، أو رسائل مكتوبة، يكشف فيها الراوي عن انشغالات عدة محكومة بشروط الكتابة.
تعتبر الرواية مزيجا من الوقائع التاريخية والتأليف الأدبي وقد بُنيت على طريقتين من طُرق السرد؛ العكسي – الاستباقي والتناوبي، فبدأت الرواية من حيث انتهت الحكاية، ثم بدأنا في سرد الحكاية بعد ذلك من حيث بدأت الأحداث، ولم تسر الرواية على النمط السردي التسلسلي؛ بل على طريقة التداخل والتنقل من حكاية لأخرى، وهو ما يعرف بالسرد التناوبي، تترابط في شكل حكائي مُتباعد، كأن نسردَ الحكاية في مدينة ما، ثم ننتقل في الجزء التالي إلى مدينة أخرى، ثم نعود إلى الحكاية الأولى استكمالًا على ما سبق، كذلك جاء السرد في بعض المواضع بشكل استباقي، فكانت الحكاية تُحكي بسرد عكسي داخل الرواية كذلك.
تحاكي الرواية من خلال أحداثها وبطلها “ الأشرف أو إيلياء” الذي يتنقل بين العديد من الأماكن، مثل يثرب التي هرب منها إلى عمق الجزيرة العربية وديرها المعزول الذي خرج منه مسيحيًا إلى روما ليعود مرة أخرى بمهمة سريةكلفه بها أسقف روما.
كانت رحلة العودة من دمشق إلى الحيرة متخفيًا بصفة تاجر ذهب، تعصف به الاحداث ليخسر الأموال الممنوحة له في الحيرة، ويخسر أيضًا دعم كنيسة روما بسبب سقوط الاسقف الداعم له. أخيرا يستقر به الحال في كنيسة بيت قطرايا ليصبح واحدًا من أهم أعمدتها.
شكلت الرواية عالمها الذي يمتزج مع الأحداث التاريخية في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية في حقبة اتسمت بالتغيير السريع قبل ظهور الإسلام وبعده جعلها تخوض سيرورة سردها على خطين:
الأول يتمثل في تأثير الأحداث على الشخصيات مباشرة عبر الزمن الحقيقي لتلك الحقبة والمتخيل السردي الذي اتكأ على شخصيات عامة.
والآخر يشمل الصراع الذي حاكته الرواية من جانبه التاريخي والذي أضاف أبعادا مهمة للأحداث ليكون محركها الصريح والمؤثر فيها ليبدأ التخييل منه وينتهي بتأثر الشخصيات به.
دفعت الرواية بجرعات من التشويق، عبر ما اعتمدته من حيلٍ استباقية، قامت من خلالها بالإشارة إلى الحدث الذي مثل حجز الزاوية، وأرجأت تفسيره لمرحلة لاحقة من السرد، كما جسدت المساحة التعبيرية والسردية حركة وصراع وتحولات وإعادة تشكيل لشخصيات الرواية، وصولاً إلى المعنى الإنساني الكلي الذي تمركزت حوله وعبرت عنه بصدق وعفوية عميقة ودالة.

الإطار التاريخي

إن التاريخ لا يُحفظ بمتون الكتب التاريخية الجامدة فحسب؛ بل يحفظ بالأدب كذلك، وربما كان الأدب أقرب للقلب والوعي من المادة الجامدة التاريخية في كتب التاريخ، فالأدب يخاطب الوعي الشعوري للإنسان، مما يجعله شريكًا في تخيل وصناعة النص الأدبي، إذ يشاركه الأديب في سرد الأحداث بإتاحة مساحات زمنية مثل “التجاوز الزمني، والإيجاز، والفجوات الدرامية”؛ لكي يقوم المتلقي القارئ بصناعة النص صناعة فردية لذاته بالتشارك.
تتميز وظيفة الكاتب الروائي عن الكتابة التاريخية التقليدية، نظرًا لأنه يحكمها الخيال والإبداع، ولا يقيدها بالضرورة الدقة التاريخية. فالروائي يهدف إلى إنشاء قصة تحكي عن البشر والمجتمع والعالم، ويستخدم الأحداث التاريخية والشخصيات التاريخية كخلفية لهذه القصة، وليس بالضرورة لتصوير الواقع التاريخي بشكل دقيق.
وعلاوة على ذلك، يمكن أن يستخدم الروائي الأحداث التاريخية والشخصيات التاريخية لتسليط الضوء على قضايا معاصرة والتعليق على الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي في المجتمع الذي يعيش فيه. لذلك، يتميز الكاتب الروائي بمهارته في دمج الماضي والحاضر في قصته، ويعتمد على تخييله وإبداعه لإنشاء قصة فريدة وغنية بالمعاني والدلالات.
يعتبر “التخيّل التاريخي” نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المعزَّز بالخيال والتاريخ المدعم بالوثائق، حيث يقوم الكاتب الروائي بالاستناد إلى الأحداث التاريخية المعروفة وصياغتها بشكل جمالي ورمزي يساعد على استخلاص المعاني والأفكار التي يريد توصيلها للمتلقي.
إن القراءة المتعمقة للتاريخ تولد نظرة ورؤية خاصة لدى القارئ، حيث يستطيع بدوره أن ينفذ إلى حياة الناس وظروف معيشتهم في ذلك الزمن البعيد، ويروي جوانب ومساحات لم يكتب عنها المؤرخون. ويعتبر هذا الخيال هو المادة التي يمكن للروائي أن يكتب عنها ويجعل منها عملاً فنيًا.
وفي رواية “راهب بيت قطرايا” نجد أحداث التاريخ تتجسد على شكل أدبي سردي نثري، يحفظ الذاكرة التاريخية وينبه المتلقي للزمن المبكر من تشكل الاحداث الزمنية والمكانية، التي تسعى الى أرخنة تاريخ الخليج والاراضي القطرية، من خلال الاعتماد على السردية التاريخية والمخطوطات التي تتناول تلك البقعة الجغرافية بزمن يسبق ظهور الإسلام، ويسبق ميلاد نبي الله عيسى عليه السلام، ويمتد قِدَمًا إلى ما قبل ذلك.
وكما جاءت الرواية على سياق تاريخي؛ جاءت كذلك على سياق سياسي، فكما أشرنا لمراحل متداخلة من انتشار اليهودية والمسيحية ثم ظهور الإسلام، ووجود الوثنية في تلك الآونة، كذلك أشارت الرواية بشكل بارز إلى الأحداث السياسية المتمثلة في التحالفات السياسية بين الفرس وحلفائهم من العرب كمملكة الحيرة، والروم وحلفائهم الغساسنة، وكيف تحكمت السياسة في انتشار طائفة دون طائفة، فكان الفرس يُرحبون بالطوائف المسيحية الثورية كالنسطورية والآريوسية، وكان الروم يناهضون ما يزعزع الرؤية التأليهية لعيسى عليه السلام.
وجاءت أيضًا على السياق المجتمعي، وهو السياق الرئيسُ الذي بُنيت عليه أركان الرواية، وتحركنا من خلاله في أجزاء الرواية؛ كالنخوة التي حاربت الخسة والعار، والشرف العربي الذي غالب الضعة والهزيمة، والكرم الذي حفظ المروءة والأخوة بين العرب.
يتخلل الأحداث بعض الأخبار عن ظهور والإسلام، ودعوة النبي محمد (ص)، ثم وفاته، وانتشار الرسالة المحمدية على شكل كبير في المنطقة التي تحكم من قبل الروم والفرس. وقد ترك الكاتب النهاية مفتوحة. فهل غادر بطل الرواية الى بيت المقدس واعتزل الحياة والناس وكل الذين يعرفهم ويعرفونه، أم ذهب لكي يلتحق بالدين الجديد في مكة. وكانت النهاية رمزية تشير الى ما حدث بعد ذلك من نهوض الحضارة العربية -الإسلامية التي قامت على أنقاض الفرس والروم،وشارك في بنائها أبناء المنطقة باختلاف عقائدهم وأعراقهم وأجناسهم.

الخاتمة

تتناول احداث الرواية تاريخيا أدبيا لقدم رسوخ التواجد البشري والديني والثقافي في قطر ومنطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية، وهي تصنع عالما نابضا بشخوصها وحكاياتها وأزماتها وتصاعد أحداثها، وانفراجاتها، وسياقاتها، وتقاطعاتها الإنسانية والتاريخية والجغرافية والحضارية.


بتاريخ : 22/05/2023