الراحل عبد الواحد الراضي يتحدث في مذكراته: «جلالة الملك محمد السادس أنصفنا وأخرس دستوريا أصواتا ضدنا»

عَلِمتُ بخبر ميلاد ولي العهد سيدي محمد خلال إِقامتي القسرية في زنازن كوميسارية درب مولاي الشريف بالدار البيضاء، في إثر الاعتقالات الجماعية التي شملت القيادة الاتحادية ضمن ما سُمِّي آنذاك ب «مؤامرة يوليوز 1963»، وذلك غداة عملية تعذيب وحشية تعرضتُ لها طوال الليالي التي سبقت ميلاد الأَمير.
كان الجَلاَّدون الذين يُقيمون في ذلك المكان الرهيب يَرفَعُون صَوْتَ الراديو إِلى حَدِّه الأقصى، ولا أعرف لماذا؛ هل كان لمجرد الاستماع فحسب أم كان للتَّغطية على أصوات المعتقلين الذين كانوا يتعرضون لأقسى صُوَر التعذيب؟ وبالنظر إلى الوضعية التي يُرثى لها التي كُنْتُ أُوجَدُ فيها، تَلقَّيتُ ذلك الخَبَر بتفاؤل وسكينة دون أن أعرف سبب ذلك الإِحساس. أَذْكُرُ أَنني رَجَوْتُ أَنْ يَشْهَدَ المغرب مستقبَلاً جيداً مع ولادة الأمير الجديد، ولي العهد، ملك المستقبل.
لاحقاً، عِشْتُ مثل جميع المغاربة المراحل المختلفة التي عَرفَها ولي العهد، وكذا الأصداء التي كانت تَصِلُنا عنه والتي كانت إِيجابية وتقريظية (élogieuse) تَصِفُه لنا كشاب متشبع بمغربيته، يقتسم مع الشباب من أبناء جيله الرغبة في أن يرى المغرب بلداً حرّاً ديمقراطياً حديثاً حيث تسود العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، وبالخصوص بين النساء والرجال. كما كان يقتسم تطلعات جميع المغاربة من أَقْرَانِهِ. وظَلَّ يطمح إلى مغرب غَنِيّ مُرَفَّهٍ يضمن الحياة الكريمة وكرامة المواطنين.
كان سيدي محمد منخرطاً بقوة في الأَنشطة الملكية بِصَبْرٍ وانضباطٍ وحِسّ عالٍ بالواجب. وكنتُ أعلم بأنه يتَابعُ باهتمام الحياة السياسية الوطنية وأنشطة الأحزاب والنقابات وما يمور في قلب المجتمع المغربي. كما كان يواكب النقاشات الرائجة في البرلمان. وله دراية جيدة بشؤون البلاد.
كانت له اختياراته الشخصية واقتناعاته الخاصة.
ابتداءً من بداية الثمانينيات، منذ أن التحقتُ بمعية أخينا عبد الرحيم بوعبيد، بالحكومة، أصبحتُ أرى أكثر، وعن قرب، سمو الأمير ولي العهد الذي كان دائم الحضور إِلى جانب والده الملك الحسن الثاني في مختلف المناسبات الكبرى.
وقد صادَفَ تعييني كأمين عام للاتحاد العربي الأَفريقي الفترةَ التي كان يهيء فيها سمو الأمير بحثه الجامعي لنيل الإِجازة في الحقوق، إِذ اختار كموضوع لبحثه تجربة الاتحاد العربي الأَفريقي. وقد أَشرتُ إلى أنني استقبلت لهذا الغرض، بمقر وزارة التعاون، السيد رشدي الشرَايْبي الذي جاء بِاسْمِ سمو الأمير يبحث لديَّ عن الوثائق اللازمة التي كنتُ أَتوفر عليها لإنجاز هذا العمل الجامعي، وكانت الابتسامة تعلو وَجْهَ سي رشدي مُبْدياً قَدْراً ملحوظاً من التهذيب والعناية والامتنان. (…)
كان سمو ولي العهد، خلال جميع أَسفاره الرسمية، يُبْدِي جانباً إِنسانياً تُجَاهَ مرافِقِيه جميعاً، ويهتم بظروف سفرهم وراحتهم. ونفس الشيء كنتُ ألْمسُه أيضاً لدى صِنْوِهِ سمو الأمير مولاي رشيد، ما يَدُلُّ على أنهما معاً تخَرَّجا من المدرسة نَفْسِها.
قبل أن أصبح رئيساً لمجلس النواب، وأَثناء تلك المرحلة، كنتُ في أحيان كثيرة وفي مختلف المناسبات الرسمية، أُدْعَى إِلى مائدة ولي العهد. وخلال الوجبات، كان يتخذ المبادرة لفتح النقاشات حول بعض المواضيع الهامة والمختلفة مثل التعليم، الاقتصاد، الفلاحة، وكذا حول بعض القضايا الدولية مراعياً طبيعة واهتمامات جلسائه في المائدة. ولاحظتُ أن تحليلات سُمُوه كانت متلائمة. كما كانت أسئلته الدقيقة تَبِينُ عن معرفة بالمواضيع التي كان يتحدث فيها والاهتمام الذي كان يُبْديهِ تُجَاهَ كُلِّ ما كان يَهُمُّ المغرب داخلياً وخارجياً. (…)
كنتُ أُدْعَى بانتظام من طرف جلالة الملك الحسن الثاني لحضور مختلف الاحتفاليات الخاصة بسمو الأمير، نهاراً في الاحتفالات الرسمية ومساء في الاحتفالات المحدودة. وبما أن ميلاد سمو الأمير كان قد تَمَّ في شهر غشت 1963، فغالباً ما كانت تنظم تلك الاحتفاليات في القصر الملكي بالصخيرات. كما شاركتُ في حملات الصيد الملكية إِلى جانب الملك الحسن الثاني، كما سَبَقَتِ الإِشارة إِلى ذلك، وكنتُ دائماً – عند الاصطفاف في مسارب الصيد – أَحظى بمكانٍ مُحاذٍ لأمكنة الأميرَيْن سيدي محمد ومولاي رشيد اللذين كانا يرميان في اتجاه الطرائد التي كانت تَعْبُر أولاً من جانبهما من حيث لم يكونا يتركان لها الحظ كي تصل ناحيتي، حيث كنت أُوجَد. (…)
كنتُ في باريس حين بلغني خبر رحيل الملك الحسن الثاني. كنت هناك لأسباب صحية بأَمر من جلالة الملك نَفْسِهِ، ولذلك عُدْتُ إِلى المغرب على وجه الاستعجال، وأسرعتُ مباشرة للالتحاق بالقصر الملكي بالرباط للمشاركة في التوقيع على كِتَابِ البَيْعة، حيث لم أغادر القصر عمليّاً إِلاَّ بعد انتهاء مراسيم الدَّفْن. وقدمتُ التعازي على الفور للملك الجديد في الفسحة التي كانت متاحة لي في ذلك الظرف العصيب. وسأَعُودُ إِلى القصر، أياماً بعد ذلك لأقدم التعازي الرسمية إِلى جلالة الملك محمد السادس.
وقد تأثرتُ لمرْأَى التأثر البالغ العميق الذي كان بادياً على جلالة الملك بسبب فقدان والده المرحوم. وتحدَّثَ إِليَّ عن ظروف الوفاة غير المتوقَّعة لوالده. وحين خاطبتُ جلالته قائلاً: «جئتُ أتقدم إلى جلالتكم بالتعازي الصادقة في وفاة والدكم». تفضل فأجابني قائلاً: «وأنا بدوري أقدم إليك التعازي، فقد كنتُ أعرف العلاقات الخاصة التي كانت تَرْبطُكَ بوالدي رحمه الله». ورغم الطابع الخاص للظروف التي أحاطت بوفاة الملك الحسن، تبادلنا مع ذلك بعض العبارات حول سَيْرِ البرلمان. وذلك قبل أن يُحدِّدَ لي موعداً لكي أعود في أقرب الآجال إِلى لقائه من أجل جلسة عمل حول الموضوع. وهو ما قمنا به فعلاً.
وسأعود أَيضاً، يوم 30 يوليوز 1999 بعد مرور أسبوع على رحيل الملك الحسن، ضمن قلة من المدعوين، معظمهم كانوا رؤساء المؤسسات الدستورية، وذلك لأَحضر اللقاء المخصص لإِلقاء خطاب العرش، وهي المرة الوحيدة في ظني التي تَمَّ فيها ذلك (…).
استنتجت شخصياً، بكل ارتياح، بأن معجم وقيم جلالة الملك محمد السادس، المتضمنة في خُطَبِه، هي نفْسُها القيم والمفاهيم التي نجد أنْفُسَنا فيها تماماً.(…)
ينبغي أن لا أَنْسَى هُنا أَيضاً، في تلك الأيام، حين التمستُ من جلالة الملك أن يستقبل رئيس الكورتيس الإسباني السيد تْرِيُّو فيگيُروَا مارتينيز-كوندي فديريكو (Trillo – Figueroa Martinez Conde Federico) الذي كان في زيارة رسمية إلى المغرب بدعوة كنتُ وجهتُها إليه. وفعلاً، خصَّنا جلالة الملك محمد السادس باستقبال في القصر الملكي في مراكش. وفي آخر الحفل، وفي اللحظة التي كنتُ على أهبة مغادرة قاعة الاستقبال، اسْتَبقَاني جلالة الملك لحظةً ليُخْبِرني بتعويض السيد إِدريس البصري بوزير داخلية جديد، هو السيد أحمد الميداوي، وبوزير مُنْتَدب في الداخلية، هو السيد فؤاد عالي الهمة. ولم يَفُت جلالة الملك أن يقول لي: «لقد أَخْبَرتُ سي عبد الرحمن بذلك».
سيطبع الملِكُ، خلالَ أسابيع أو بعضِ أَشْهُرٍ، عهدَهُ الجديد بطابَعِهِ الخاص، في الخطاب والسلوك والإِشارات، وذلك في ظل ارتياح واضح وتجاوب ملموس من عموم المواطنات والمواطنين ولدى الطبقة السياسية والملاحظين النزهاء داخل وخارج المغرب.
بَدَتْ معالم شخصية الملك الجديد تتضح من خلال قرارات قوية وشجاعة ومتلاحقة، الواحد بعد الآخر. انفرجتِ الأَجواءُ العامة أكثر فأكثر، وجرى التأكيد على صيانة الحريات العامة، وتَمَّ إِقرار مدونة متقدمة جدّاً، بالنظر إِلى ما كان قائماً، تهم الوضع الاعتباري للمرأة والأُسْرة، ثم صدر قانون جديد للجنسية يمنح الأَولاد الجنسية المغربية باعتماد صلتهم بأُمهم المغربية، وهو ما اعتُبِر إِنجازاً مُهمّاً على طريق تحقيق المناصَفَة بين الجنْسَيْن. كما تم تشكيل لجنة وطنية للإنصاف والمصالحة لتصفية ملفات حقوق الإِنسان العالقة والسعي إِلى طيِّ صَفْحَةِ ما سُمِّي بسنواتِ الرصاص الكريهة، تلك السنوات التي كان فيها لليسار المغربي، وبالخصوص للمناضلين والمناضلات الاتحاديين، النصيب الأَوْفَر على مستوى الآلام والتضحيات والآثار الجسدية والنَّفْسية الجَارحَة (…).
كنا ندرك، بعد تجربة الحكومة التي ترأسها سي عبد الرحمن، أَن المغرب بَاتَ في حاجة مَاسَّة إِلى المرور من ملكية تنفيذية وُرِثَتْ عن عهد الحسن الثاني رحمه الله إِلى ملكية دستورية ديموقراطية اجتماعية برلمانية تتلاءم مع روح وتوجهات جلالة الملك محمد السادس. كان واضحاً أَن على الحكومة أن تتمكن من الوسائل والإِمكانيات لتنفيذ الاختيارات القوية للملك، والتي تتجاوب مع تطلعات الشعب المغربي، خصوصاً منه الشباب والنُّخَب الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية والحقوقية والنسائية.
وبهذا المَعْنَى عبَّرْنا عن رأينا، بكلِّ وضوح ومسؤولية، في مؤتمرنا الوطني الثامن للاتحاد الاشتراكي في نونبر 2008 في بوزنيقة، وضمن البيان الختامي للمؤتمر(…).
وانسجاماً مع رؤية جلالة الملك محمد السادس أَيضاً، واستجابةً لإِرادة وتطلعات القاعدة الاتحادية من خلال المؤتمر الوطني الثامن، بَعَثْتُ شخصياً – باسم قيادة الحزب – بمذكرةٍ إِلى جلالة الملك تتضمن المقترحات الخاصة بالإصلاح الدستوري المنشود، وذلك في 8 ماي 2009.
والواقع، كان أَملي أن أَنجح في إِقناع مكونات سياسية أخرى، خصوصاً مكونات الكتلة الديموقراطية، في توجيه مذكرة مشتركة، لكننا لم نجد التجاوب المطلوب بل اطَّلَعْنا في تلك الفترة على كتابات صُحفية متسرعة تنال من حزبنا وإِرادتنا في الإِصلاح الدستوري، لكننا لم نُولِها أَدنى اهتمام ومضَيْنا قُدُماً في خيارنا، فكانت المذكرة التي رفعناها إِلى جلالة الملك.
كان مطلب المرور إِلى ملكية دستورية ديموقراطية اجتماعية برلمانية يُقَوِّي إِرادة الملك ويعطيها عمقها وامتدادها المجتمعي. فقد كنا نعتقد أن اعتماد صيغة حكم قادرة على تفعيل الاختيارات الأَساسية الجديدة تتجاوب مع تطلعات شعبنا المغربي، وأَننا بالنضال الديموقراطي، بالمواظَبَة، بالتضحيات، بالصَّبْر والإِيمان بالقضية الديموقراطية، نستطيع التوصل إِلى تحقيق أَهداف ونتائج قد تبدو مستحيلة للبعض من قِصَار النظر أو ضِعَافِ النفوس.
صحيح، لم نَتلَقَّ جواباً مَلَكيّاً في حينه عن مذكرتنا، ولكنَّه سيظهر لنا وللعَالَم في الخطاب الملكي بتاريخ 9 مارس 2011. لم ننتظر طويلاً، ففي ظل التحولات المتسارعة لما سُمِّي بالربيع العربي والدينامية التي عَبَّر عنها حِرَاكُ الشارع في المغرب وحركة شباب 20 فبراير، وضمنهم شبيبتُنا الاتحادية، تلقينا الجواب الذي أَردناه. وقد اعتبرنا أَن الشعارات الجدِّية الموضوعية لحركة 20 فبراير كانت في العمق منبثقة من مطالبنا وبياننا العام لمؤتمرنا الوطني الثامن، إِذْ لم تتَخَطَّ هذه الشعارات على العموم ما كنا تقَدَّمْنا به وَحْدَنا إِلى جلالة الملك.
لقد أبرز الشارع أن المغاربة كانوا في حاجة إِلى إصلاحات جوهرية هي نفسها التي طالب بها الاتحاديون في مؤتمرهم ومذكرتهم.
بَدَا واضحاً، كما كنا نُؤكد دائماً، أن المغرب لم يكن في حاجة إِلى ثورة بل كان في حاجة إِلى إِصلاحات، إِلى المزيد من الإصلاحات العميقة لطريقة الحكم وتجاوز كل ما يمكنه أَن يعرقل تحقيق الانتقال الديموقراطي. منطقُ الإِصلاح إِذن لا منطق الثورة، هذا اقتناع المغاربة. وهذا ما أَدركه جلالة الملك محمد السادس فاختار باقتناع وتجاوب وإِدراك أَن يستبق الشارع إِلى الأفق المطلوب، ومنْ ثَمَّ دعا إلى إِصلاح دستوري متقدم، شامل، عميق وجريء في خطابه يوم 9 مارس 2011، حوالي عشرة أَشهر فقط على تقديم مذكرتنا. وتقريباً، فإن هندسة الخطاب الملكي ورؤيته لمرتكزات الإصلاح الدستوري كانتا أقرب ما يكون إِلى هندسة مذكرتنا المرفوعة إِلى جلالة الملك.
كان جلالة المَلِك في مستوى تَوقُّعاتنا بل أَنْصَفَنا بينما أُخْرِسَت تلك الأصوات الإعلامية التي قالت عنا سنة 2008 إِننا فقط «نُعَلِّقُ فَشَلَنا الانتخابي على مشجب المطالبة بإِصلاحات دستورية «، فلم نَسْمَعْها تقول شيئاً للإِنصاف أو تراجع تَسَرُّعها في إِصدار الأحكام الجاهزة (…).


بتاريخ : 28/03/2023