الراحل عبد الواحد الراضي يتحدث في مذكراته -7-

الحَسَنُ الثاني: «أنا أعرف عبد الرحيم أكثر منك وأكثر

منكم جميعاً، وما عشتُهُ معه لم تعيشوه أنتم»

 

ودعنا المناضل الكبير عبد الواحد الراضي، رجُل الدولة الذي ترك بصمات في الحياة السياسية والجمعوية، حيث كان من الرعيل الأول داخل مؤسسة البرلمان، الوحيد الذي انْتُخب وأُعيدَ انتخابُه منذ أول برلمان مُنْتَخَب سنة 1963 إلى اليوم. وهو أحد مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، الذي سيُصبح كاتبَه الأول سنة 2008. رافَقَ عدداً من زعماء الحركة الوطنية والديموقراطية بينهم بالخصوص المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد. كما لَعِبَ دوراً مؤثراً في صياغَةِ مشروع التناوب. وكفاعل ورَجُلِ دولةٍ، عُيِّنَ وزيراً أكثر من مرة في عَهْدَيْ الملِكَيْن الحسن الثاني ومحمد السادس. شَغَل منصب رئيس مجلس النواب لأكثر من عشر سنوات، وترأس عدداً من المنظمات والمؤسسات البرلمانية الأورومتوسطية والإسلامية والمغاربية، قبل أن يُنْتَخبَ سنة 2011 رئيساً للاتحاد البرلماني الدولي، وذلك في علاقاتٍ مواظِبَةٍ لم تَنْقَطِع مع نساء ورجال وشباب منطقته، سيدي سليمان، بصفته البرلمانية.
نعيد بعضا من سيرته الذاتية التي أنجزها الزميل والكاتب حسن نجمي بعنوان ” المغرب الذي عشته ” عَبْرَ سَرْدِ رَجُلٍ ملتزم، يحكي هذا الكِتَابُ تَاريخَ المَغْربِ وتحولاته منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى المصادقة على دستور 2011 مروراً بالأحداث الكبرى والصراعات والتوترات التي عَرفَها المغرب المعاصر، والدور المتميز الخاص الذي لعِبَهُ الرَّجُل، خصوصاً على مستوى ترتيب العلاقة والحوار بين الملك الراحل الحسن الثاني واليسار المغربي بقيادة الراحل عبد الرحيم بوعبيد والأستاذ عبد الرحمن اليوسفي…

وجرت بيننا مناقشة حول محتوى تصريحات الرئيس الليبي، وحول مدى ما إِذا كانت مناسبة أَم لا، وطبيعة السياق، وما هي الطريقة الناجعة والممكنة لردّ جلالة الملك على القذافي؟
وفي نهاية صباح اليوم التالي (25 غشت)، جَمَع جلالة الملك ممثلي الأَحزاب السياسية مُجَدَّداً. كان يريد أن يَضَعَنا في صورة المحادثات التي كانت تجري آنذاك بينه وبين الأمين العام للأمم المتحدة السيد بيريز ديكويَّارْ.
وكان الملك قد تَوصَّل، في نفس الأَثناء، بمكالمة هاتفية من وزير الخارجية المرحوم عبد اللطيف الفيلالي (1928-2009) الذي كان في باريس على أُهْبةِ مواصلة طريقه إِلى بيكين، وقد أَخْبَرَهُ فيها بأن الأَمين العام للأمم المتحدة يطلب إِجراء مكالمة هاتفية مع جلالة الملك.
وفعلاً، في ذلك الصباح، تلقَّى الملك مكالمة الأَمين العام للأمم المتحدة الذي كان يحاول أن يعثر على أَرضية تَوَافُق مع العاهل بخصوص تفعيل مخطط السلام مع أَخْذِهِ بالاعتبار محتوى الخطاب الملكي الذي أَلقاه في 20 غشت 1991. وقد وافَقَ الملك على أَن تُوضَع القُبَّعات الزرقاء على الحدود المغربية الجزائرية والحدود المغربية الموريطانية. وينبغي التذكير هُنَا أنه، بعد الاتفاق بين الطرفَيْن، بإِشْرافِ الأمم المتحدة، على مُحتَوى «مخطط التسوية» في سنة 1988، تقرر أيضاً أن سنة 1991 ستكون سنة انطلاق تفعيل الاتفاقية التي كانت تبدأ بِوَقْف إِطلاق النار متبوعاً بإِجراء إِحصاء المشاركين في الاستفتاء.
أراد الأمين العام أن يقدم بعضَ المقترحات الأخرى إِلى جلالة الملك، ولكن هذا الأَخير طلب منه إِرْجَاء هذه المناقشة إِلى موعدٍ آخر، وبطريقة أخرى غَيْرِ الحديثِ هاتفياً. وكان السيد ديكْويَّارْ حريصاً –حسب ما فهمنا- على أَن يجعل الملك يثق في خطواته بل التَمَس ثقة الملك مباشرة. فقد كان يريد معالجة نهائية لهذا الملف قبل نهاية ولايته.
وحسب تقديرات الملك، كان لابد من أربعة أشهر لإِطلاق المسلسل. وفيما يخص لوائح التصويت الخاصة بالاستفتاء الخاص بأَقاليمنا الجنوبية، كان يبدو أن الأمور تتجه نحو المنهجية التي تقضي بتوجيه طلبات فردية مُوَقَّعَة عَبْر الفاكس إِلى الأمم المتحدة. وهذا يُطبَّقُ على جميع الأشخاص المسجَّلين في اللوائح التكميلية المغربية بعد إِنهاء جميع المراحل المُضَمَّنة في مخَطَّط الأَمين العام والشروط التي حَدَّدَها الملك في خطاب 20 غشت المذكور (نشر لائحة السكان لإحصاء سنة 1974، تحديد مقاييس الهوية الصحراوية La sahraouité وطريقة اشتغال لجنة تحديد الهوية).
وأكد الملك أَمامنا أَن المهام التقليدية للملكية المغربية كانت دائماً هي الدفاع عن الأصول الدينية بمحاربة الانحرافات والدفاع عن الوحدة الترابية. ولهذا، لا يمكن لأَيِّ عاهل أن يفرط في شبْرٍ واحد من التراب الوطني بدون أَن يفرط في ماضيه وفي مستقبله. ولهذا ستبقى الصحراءُ مغربيةً كما ظل يردِّدُ هو نَفْسُه في كُلِّ المناسبات.
وأَخبرنا الملك أَيضاً، عَطْفاً على نقاشِنَا حول العقيد القذافي، أَن السيد مولاي أحمد الشرقاوي، كاتب الدولة في الخارجية آنذاك، والذي كان قد كُلِّفَ من طرف جلالة الملك بإِجراء الاتصالات الضرورية مع سفارات البلدان الأوروبية المُعْتَمَدة في الرباط، أَخْبَرهُ بأن الدبلوماسيين المَعْنِيين أكدوا بأن قرار بلدانهم هو أن سُفرَاءَهم سيكونون حاضرين في بنغازي. ومعناه أَنهم يمتنعون عن الحضور السياسي، لكنهم لا يرفضون حضورهم دبلوماسيّاً خلال الاحتفالية الليبية.
ثم عاد الملك إِلى دعوتنا إِلى اجتماع آخر، في اليوم الرابع من الرحلة (27 غشت). وكانت قضية وحدتنا الترابية هي النقطة الوحيدة على جدول العمل، وذلك في مستوياتها الداخلية، والعسكرية والدبلوماسية.
على المستوى العسكري، أكد لنا جلالة الملك أن القوات المُسَلَّحة الملكية قامت بعَمَلٍ جَيِّد، إِنْ على صعيد تطهير وتمشيط المنطقة العازلة (نَاوْمَانْسلاَنْدْ No man’s land)، وإِنْ على مستوى الانتشار الذي قامت به في المواقع التي كان الانفصاليون قد تسللوا إِليها من قبل.
وبخصوص الجانب الدبلوماسي، يتَّضح أن الصعوبات التي كانت ستتسبب في تأخير انطلاقة مسلسل الاستفتاء قد وقَعَ التَّغَلُّب عليها، الشيء الذي يسمح بأَلاَّ يتَعدَّى التأخير في تنفيذ الأَجَنْدة شهراً واحداً. وهو ما يجعل تاريخ الاستفتاء وارداً في آخر يناير أو بداية فبراير 1992.
وأعطى الأمينُ العام للأمم المتحدة إلى الملك الضماناتِ اللاَّزمةَ فيما يخص تموقُع قوات الأمم المتحدة المكَلَّفَة بمراقبة وقف إِطلاق النار. كما يتضح من مراسلة بين الأَمين العام وجبهة البوليزاريو الانفصالية، فإِن القُبَّعات الزرقاء ينبغي انتشارها على الحدود وليس على الجدار الأَمْني.
وجرى الاتفاق –يخبرنا الملك في السيَّاقِ نَفْسِه- على أن لوائح إحصاء 1974 (الإحصاء العام لسكان الصحراء الذي أنجزته إسبانيا في تلك السنة) ستتم تكمِلَتُها بجميع الراغبين في تسجيلِ أَنفُسِهم مع احترام المسطرة المُضَمَّنة في مخطط الأَمين العام للسلام، بمعنى التسجيل الفردي. وبالتالي، فإِن الشروط متوفرة لإعطاء الانطلاقة قصد تنفيذ مسلسل السلام.
وأَما من الناحية الداخلية، فإِن الأَهم هو الإِجماع الوطني المغربي حول الهدف، وإِنْ لاحظ الملك أن هناك، من حينٍ لآخر، بَعْضُ الخِلاف حول الوسائل، و«هذا ما يُخِيفُني‏»‏ ‏–يقول الملك- وهو‏ «‏أن الخِلاَفَ حول الوسائل يؤثر سَلْباً على تعبئة الشعب المغربي وعلى المشاركين في الاستفتاء بالخصوص‏»‏.‏
وأضاف قائلاً:‏ «‏فإِذا واصل الاتحاد الاشتراكي القول بأَنه لا ينبغي إِجراء الاستفتاء، وواصل حزب الاستقلال القول بأن الاستفتاء أصبح متَجَاوَزاً، فإِن المغاربة سَيُصَابُون بنوعٍ من التَّيْه والدوران (الدَّوْخَة) فيذهبون إِلى المعركة في شروط غير إِيجابية. أَما بالنسبة إِلى المُصَوِّتين في الاستفتاء، فإِن هذا الخلاف يمكن أن يدفَعَهم بكُلِّ بساطة إِلى الإِحباط والامتناع. ولذلك، ينبغي توحيد الخطاب لتأمين وتوضيح وتعبئة وخلق شروط الحماسة المطلوبة وضمان تحقيق الانتصار‏»‏.‏
وفي لحظةٍ جمعتني بجلالة الملك الحسن الثاني على مَتْنِ الباخرة، (أنظر الصورة التي التقطها الفوتوغرافي محمد مرادجي)، صعدنا معاً إلى سطح الباخرة. وتجاذبنا أطراف الحديث عن الحزب وعن سي عبد الرحيم. وفجأةً طلَبَ مني جلالة الملك أن أتصل هاتفياً من الباخرة بسي عبد الرحيم بوعبيد لوضعه في صورة ما كان يجري، من أشغال ونقاشات تخص قضية الوحدة الترابية، والعلاقات مع ليبيا، والعلاقات الخارجية للمغرب. وفوراً، أعطى التعليمات لطاقم الباخرة. إذْ لم يكن متَاحاً لأَيٍّ كان أن يستعمل أجهزة التواصل التي تتوفر عليها الباخرة، بدون إذنِ الملك شخصيّاً.
وعلى ذِكْرِ سي عبد الرحيم، فقد أخذ الملك يحدثني عن ذكرياته مع عبد الرحيم خلال فترة الحركة الوطنية وبدايات الاستقلال، وقال لي: «أنا أعرف عبد الرحيم أكثر منك وأكثر منكم جميعاً، وما عشتُهُ معه لم تعيشوه أنتم». وفي سياق ذلك التقريض لشخص عبد الرحيم، قال لي: «كان عبد الرحيم متشائم التَّفكير». وأضاف: «هل ترى هذه السماء، كم هي زرقاء صافية تَماماً؟ لو كان معنا سي عبد الرحيم لوجدناه يسْتَخْرِجُ غيمةً (كَيْطلَّعْ شي غَمامَة. غادِي يَبْقَى يقَلَّبْ حتى يَجبرْها!».
وفعلاً، بعد هذا الحوار مع جلالة الملك الراحل، اتصلتُ بسي عبد الرحيم وأبلغتُه تحياتِ جلالة الملك، ووضعتُه في صورة حديث الملك، وكذا في صورة ما كان يَجْري على متن الباخرة من اجتماعات ومحادثات واتصالات.
*
أَذْكُر لقاءً آخر مع الحسن الثاني في 5 أبريل 1992.
كان ذلك في القصر الملكي في الرباط، بمناسبة عيد الفطر. وكان السيَّاق العام في البلاد مطبوعاً بأَجواء الإِصلاح الدستوري المرتقب، وكذا بتفاعلات تصريحات نوبير الأموي الصحفية.
فجأةً، طوَّقَني الملك بالسؤال تلو السؤال، فيما بَدَا أَنه غاضب ويحاول أن يكتم غَيْضَه (ماذا يحدث؟ كيف جرى أنكم تمارسون الخلط؟).
وكان عَلَيَّ أن أُنْصِتَ أكثر لأَسْتَوْعِبَ عما كان يتحدث. فقد تَعَوَّدتُ على الكيفية التي كان يُفْضِي بها الملِكُ الحسن الثاني، عادةً، بأَفكاره وملاحظاته حول الاتحاديين. دائماً، كان في أحاديثه عَنَّا إِحساسٌ شخصي خَاصٌّ لا يَخْفَى على من يعرفونه يتَداخَلُ فيه العام بالخاص، الآني بالتاريخي، حتى إنني حين أذكر ذلك اليوم، أذكر أَيضاً –ولا أعرف مَنْ قال- أن السياسة هي التعبير العام عن العواطف الخاصة. وهذا صحيح إِلى حدٍّ مَّا، فما من سياسة عامة بدون أن يَشُوبَها قَدْرٌ من المشاعر الشخصية للفاعلين. والميكياڤيلية فهمت ذلك مبكراً جدّاً حين أوصت بالحزم والصلابة.
قال لي جلالة الملك:
«ماذا يَحدُثُ؟ كيف جرَى أنكم تمارسون الخلط؟ هناك مسألتان مختلفتان: مسألة الإِصلاحات الدستورية والانتخابات من جهة، ومسألة الحكومة مع الأَمَوي هي مسألة أخرى.
«بخصوص الإِصلاحات الدستورية والانتخابية، فقد اختَرتُ طريقاً هو طريق الحوار والاتفاق، لكن إِذا كان ضرورياً سأَختار طريقاً آخر.
«لقد فَضَّلتُ التهدئة، ولو كنتُ شخصيّاً راغباً في اعتقال الأَموي، ففي الاستجواب مع‏ «‏حرية المواطن‏»‏ ‏ما يكفي من العبارات لِيُحْكَم بثلاثين سنة.‏ «‏على الملك أَنْ يسُودَ ولا يحكم»؟ وماذا ستفعلون بالبَيْعَة؟ أَستطيع أَن أَعتمد فَتْوَى لأُحاكِمَه. ولكنني لم أفعل ذلك، لأنني اخترتُ (j’ai fait mon choix) بأن أقوم بالإِصلاحات والانتخابات في جو من الهدوء.
«وإِذن، بالنسبة إِلى ما يهمُّني شخصيّاً فأنا، حتَّى الآن، أغلقتُ عيْنَيَّ. أما فيما يخص اتهام أَعضاء الحكومة باللصوص، فإِن عليه أَنْ يُدْليَ بالحجج عَمَّا يقوله. وأنا لا أَتدخل في هذه القضية.
«في سنة 1972، لم أَتردد في تقديم خمسة وزراء إِلى القضاء، حوكموا بالحبس النافذ، من بينهم الأَزرق الذي كان مرتبطاً بأوفقير الذي حاول إِسقاط البْوِينْغ. أنا لا أحمي الفاشلين (les déffaillants)‏»‏.‏
وأَضاف الملك:
«ليس لي أَيُّ مشكل مع الحزب. أَفهم أنكم يجب أَن تُعَبِّروا عن حَدّ أدنى من التضامن. ولكن لا يجب البحث عن واقعة فَتُقْحِمونني أو تُقْحِمون الحزب، لا. لا. لا. وأما فيما يخص الإصلاحات السياسية فأنا هو مُخَاطَبُكُم وليست الحكومة، لا أحمد العلوي ولا عز الدين العراقي. هذا شُغْلي أنا‏»‏.‏
أجبتُ جلالته بالتهذيب المعتاد بأننا منشغلون باقتراب الاستحقاقات. وقد قلتُم إِن الانتخابات ستبتدئ في غشت (1992) بينما أخذ الوقت يضغط علينا لنحقق الإِصلاحات والانتخابات. فَرَدَّ عليَّ بالقول:‏ «‏أؤكد أن إِصلاح الدستور سيتم قبل الانتخابات. وقد التزمتُ، ولا أَستطيع أن أكذب على شعبي‏»‏.‏ قلت لجلالته:‏ «‏كان ينبغي أن تتم المشاورات في شهر رمضان…‏»‏،‏ وأجابني على الفور:‏ «‏لقد اشتغلنا طيلة شهر رمضان على الوثيقة التي تقدم بها حزبكم وحزب الاستقلال، ووثيقة حزب التقدم والاشتراكية. ونحن الآن في مرحلة التحرير. ولكن ليس ذلك سهلاً، لأنني لا أريد أن أُهَيِّئَ شيئاً لن يُقْبَلَ، ولا دستوراً قد يصبح مُتجَاوَزاً خلال سنتَيْن. فأنتم تَطْلُبُون أن الحكومة التي يعيِّنُها الملك، ينبغي أن تكون مسؤولة أَمام البرلمان. وإِذن، ينبغي أَن نجد الصيغة الملائمة. وهذا ليس سهلاً‏»‏.‏
قلت لجلالة الملك:‏ «‏إِذا أَخَذَ الإِصلاح بعين الاعتبار اقتراحنا الذي يحدِّدُ افتتاح الدورة البرلمانية في شتنبر، لم يَبْقَ الوقت الكافي لذلك‏»‏.‏ فردَّ الملك قائلاً:‏ «‏إِذا أَردنا تمديد الدورة فلا شيء يمنَعُنا. البرلمان اشتغل عِدَّةَ مراتٍ بهذه الطريقة، أي تمديد الدورات. ودائماً فإن مجلس النواب هو الذي يقَرِّرُ تاريخ إِنهاء الدورة. والحكومة لم يسبق لها قَطُّ أَن أخذت مبادرة إِصدار المرسوم الخاص بإنهاء الدورة. ولذلك، فليس بشهر أو بشهرين سنَضَعُ القضايا الجوهرية مَوْضِعَ مساءلة. شهران من قَبْلُ أو من بَعْدُ ليس هذا مشكلاً. أما بخصوص القوانين الانتخابية، فإِن الدورة الرَّبيعية ستُخَصَّص لدراستها. ولكنَّ نمط الاقتراع الذي اختاره الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال يختلف عن النمط الذي يقترحه حزب التقدم والاشتراكية. هناك مشكل، إِذْ ينبغي تفادي التشتيت كما حصل في فرنسا مؤخراً. وفي الوقت نَفْسِه، لا ينبغي إِقصاء حزب كحزب التقدم والاشتراكية، لاسيما أن علي يعتة له مقاربة بيداغوجية للمشاكل السياسية‏»‏.‏
ثم خاطبتُ جلالة الملك مستدركاً موضوع الأموي:‏ «‏فيما يخص استجواب الأَموي مع جريدة‏ «‏البَّاييسْ‏»‏ ‏الإسبانية، هو لم يستعمل كلمة (اللصوص)، عِلْماً أَن الكلمة المستَعْمَلة في النص لا تفيد معنى (لصوص). ومن جهة أخرى، فهو يتكلم العربية فقط، ولا يتقن لا الإسبانية ولا الفرنسية…‏»‏،‏ فقاطَعَنِي جلالة الملك حاسماً:‏ «‏ليس هذا ما قاله للبوليس. على العكس، لقد أكد للبوليس ما قالته الصحافة. وعلى كل حال، هناك فَرْق بين هذا المشكل الذي يهم الحكومة –وسوف لا أَتدخل فيه- والمسائل السياسية الأخرى التي هي من اختصاصي. وأُحَذِّرُكُم، لن أَتسامح مع أَيِّ خلط بين المسألَتَيْن أو مع أي طريقة تغتنمون بها الفرصة للمس بالمؤسسات الوطنية المقَدَّسَة‏»‏.‏

وإن أَسْعَفَتْني ذاكرتي، أَظن أنه في ذلك اللقاء مع جلالة الملك الحسن الثاني، سأَلني عن الوضع الصحي للأَخ عبد الرحيم بوعبيد (كيف حال سي عبد الرحيم؟ كيف هي وضعيته الصحية على العموم؟). ثم قال مسْتَفْهِماً: «منذ فترة لم أَرَكُمْ. الحملة الانتخابية اقتربت، وقد أخبرني سي ادريس [البصري] بأن لديكم مطالب. عندما سيكون لديكم وقت، أريد فعلاً أن أَلتقيكم لِنُنْجز (pour régler) ذلك كُلَّه». وأَردَفَ جلالة الملك قائلاً، في ذلك السياق نَفْسِهِ: «لا يمكنني أن أكون عضواً في منظمة من المنظمات، لكنني معكم وجدانياً وعقلياً».
*
بعد شهر على لقاء الرباط، سألتقي المرحوم الحسن الثاني في قصر الصخيرات. كنا آنذاك قد حَسَمْنا في خلافة عبد الرحيم بوعبيد، وأصبح سي عبد الرحمن قائدنا الجديد على رأس الاتحاد الاشتراكي. كما كان الملك قَدِ اسْتَقَْبَلَه استقبالاً بروتوكوليّاً بمعية نجلَيْه، ولي العهد الأمير سيدي محمد والأمير مولاي رشيد.
كان ذلك يوم الأحد 7 يونيو 1992، كما دَوَّنْتُ ذلك في أَوراقي الشخصية. دعاني الملك إِلى مرافقته على متن سيارته التي كان هو مَنْ تَولَّى سياقَتَها شخصيّاً. بَادَرَ جلالتُه إِلى الحديث، وهو يَتَّجهُ في طريقه من الصخيرات إِلى الرباط.
قال لي:
«آخر مرة التقيتُ فيها عبد الرحمن (اليوسفي)، سارت الأُمُور على أَحسن ما يُرَام. سي عبد الرحمن، كانت له صورةُ رَجُلِ المقاومة، ورجُل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ثم عاش طويلاً في الخارج. وأَخيراً، أصبح رَجُل الاتحاد الاشتراكي وخَلَفَ عبد الرحيم.
«لقدِ اخْتَرْتُم الاختيار الأَفضل. وليس لي أَيُّ حكم مُسْبَق على ذلك، وحتى وإِن كانت ستصدر عنه بعضُ المشاكل، فسيتم التسامح معها، ذلك لأنه في حاجة إِلى وقت كي يدخل في الواقع المغربي. ولكنْ في حدود سَنَة من هذا المكوث المستمر في المغرب، مع القيام بزيارات إِلى المناطق والمدن، ورزازات والجَنُوب، والغَرْب والشمال، بدون شك سيشكل رؤية أكثر دقة حول وقائع البلاد. في هذه الحالة، إِذا أَخطأ فلن يكون هناك مُبَرِّر لأَخطائه.
«إِنه كَاتِبُكُم الأَول، ولديَّ فَهْمٌ عسكري للسياسة نظراً لحرصي على التَّرَاتُبِيَّة. ومعنى ذلك، أنه مُخَاطَبِي الرئيسي. إِنه رَجُلٌ لَبِقٌ، وأَنا أَضَعُ اللباقة فوق كُلِّ اعتبار. أُفضِّل شخصاً يقول لي (لا) بلطف على شخص يقول لي (نعم) بطريقة غير لَبِقَة.
«قُلْ له، إِنه منذ فترة طويلة، ظَلَّ بِمنْأَى عن المسؤوليات الحكومية. فمن المسؤول عن ذلك؟ لا أعرف. ربما يعود الخطأ، شيئاً مَّا، إلى عبد الرحيم (بوعبيد)، وشيئاً مَّا يَعُودُ إِليَّ. باختصار، أصبح ذلك جُزْءاً من الماضي.
«الآن، تَغيَّرتِ الأَشياء. ولقد تغَيَّرنا، تغَيَّرنا جميعاً، تغيرتُم أنتم أَيضاً. إن قرارات الاتحاد الاشتراكي لم تَعُد رهينة برجال من أمثال المكناسي [المقاوم محمد بنعلي المكناسي] الذي يبدو من جهة أخرى رجلاً جديراً بالاحترام. الاتحاد الاشتراكي يقودُهُ رجالٌ مسؤولون وأكفاء. تَتَوفَّرون على رِجَالٍ وعلى أَفكار، وليس هناك من سبب أو مبرر لكي تستمر الوضعية القديمة. يكفي، وعلى ذلك أن يتوقف. ينبغي طي الصفحة والانطلاق على أُسُسٍ جديدة. لقد سَئِمْتُ هذه الخصومات والتفاهات.
«إن الوقت الذي تركتُه (خلفي) أكثر من الوقت الذي أمامي.
«وأريد أن أتعاون معكم في جوٍّ من الثقة المتَبَادَلة لأنني أَشْعُر في هذه اللحظة بأن أفكارنا متقاربة ولنا نفسُ الرؤية، ونَسْتعمل القاموس نَفْسَه، واللغة نفسَها. ولا أستطيع أن أعمل مع هؤلاء أو أولئك إِلاَّ بهذا الشرط.
«لا أبحثُ عما يحْرجُني معكم ولا أن أخلق بعض المتاعب أو أكون في تناقض معكم. لا أريد أن أستدعي (هؤلاء أو أولئك) لأقول لهم الشيء نفسه، إِذْ لا أفعل ذلك سوى معكم لأنها قناعتي العميقة.
ينبغي أن تكونَ الأُمُور واضحة.
إِن البَعْضَ استَنْفَدَ زَمَنَهُ. كما أنهم لم يتَوفَّرُوا على بدائل.
«إن حزب التقدم والاشتراكية يتوفر على بعض الأطر الصالحة. أما بالنسبة للبعض الآخر فهم فقط des nébuleuses. لم أعد أعرف الكثير من الأشخاص على كل حال.
«لقد كان لديَّ زملاء دراسة مثل الطاهري [محمد]، عبد الحفيظ القادري وآخرون من الذين تابعوا دراسة جيدة، ولكنْ ليس لهم إشعاع سياسي.
«أريد أن نَتقَدَّم. كفَى.
«ولكن، إذا ما اخترتُم المواجهة فأنا لدي ما يكفي من الطاقة، ومن القوة، لأبدأ من جديد (لأعاود). ولكن لا أتمنى ذلك. ما زال رأْسي صَلْباً عنيداً، وأنتم تعرفون ذلك إِذا ما كنتم مضطرين إليه. ومع ذلك، فأَنا أَمدُّ يدي.
«ينبغي أن تعرفوا أن قضية الصحراء لم تَنْتَهِ بعد، وأن خُصُومَنا لم يتَخَلَّوا عن أسلحتهم المُشْهَرة ضِدَّنا. وهم يستعملونها لكي يَرُصُّوا صفوفهم. وقد وصلوا إلى أكثر من أربعين حزباً بينما عندنا نحن تسعة أحزاب بدون أن نعدّ حزب الشورى والاستقلال (PDI) الذي يريد من جديد أن يخرج إِلى الوجود، وشقيق الدكتور عرشان الذي يحاول أن ينشئ حزباً جديداً كما لو لم يكن لدينا ما يكفي.
«إن المغرب رغم كل شيء يوجد في وضع صحي جيد، الشيء الذي يدفع المجموعة الأوروبية إِلى أن ترغب في بناء علاقاتٍ خاصةٍ معنا.
«هل تعرف بلداً واحداً من العالم الثالث قادراً على تنظيم انتخابات بعد سنة فلاحية كارثية؟
«لم تتوقفوا طيلة الثلاثين سنة الأخيرة عن ترديد أَنَّ المَغْرِب لم يعرف غير التراجع والتزوير. وذلك ما يوحي بأنكم تستهدفونني أَنا، وحتى أبي لأنه لم يَتَوفَّ إِلاَّ في سنة 1961.
«وماذا فعلتم بالسدود؟ باسترجاع الصحراء؟ ببناء الجامعات والكليات؟ والمستشفيات؟ والمدارس؟ والبنيات التحتية، الاقتصادية والصناعية والفلاحية؟ وإِدماج هذا الانفجار الديموغرافي؟
«إن هذا الخطاب يُؤْلمُني. فأنا كأي إِنسان حَسَّاس لما يُقَال، وما يقال يؤلم بالمُبَالَغات في الخطاب. والآن، هذا يكفي.
«هل تَعْلَم أن محمد البَصْري (الفقيه) مازال يقُومُ في الخارج بأَنشطة مع السرفاتي والديوري و«فرانس ليبرتي‏»‏ ‏وغيرهم؟ إِن تصرفاته غير مفهومة. لقد ذَهَب ليلتقي الفرنسيين كي يطلب منهم البحث عن إِمكانيات لضمان عودته إِلى المغرب. وأنا أتوفر في الموضوع على وثيقة مكتوبة من وزير الداخلية الفرنسي، مسيو مارشان.
«مع ذلك، فقد بعثتُ مَنْ يتَّصِل به لأَقول له، ما دمتُ أَعْرفُ علاقاتِه، أن يختم حياته كما بدأَها كمقاوم، كوطني يجعل بلاده تستثمر الإمكانيات التي يتوفر عليها لدى خصوم وحدتنا الترابية وتستفيد منها.
«إِن عملاً من هذا النوع، إِضافة إلى أنه يخدم به مصلحة بلاده، كان في نفس الوقت سيُذيب بقايا الماضي. غير أَنه بدَأَ يَضَع الشروط، وأَخَذَ يناقشُ موْقِعَه ووضعه الاعتباري واعتبارات أخرى.
«عندما أرسلتُ إليه من يتَّصِل به، فإن عبد الرحيم بَدَا وكأنه أُخِذَ على غَفْلةٍ منه ولم يستحسن ذلك، إِذْ نَظَر إِلى هذه المبادرة كما لو كانت مناورة تهدف إلى خلق مشاكل داخل الحزب وتحرج كاتبه الأول بالأخص‏»‏.‏
قُلْتُ له:‏ «‏صاحبَ الجلالة، سيكون من المفيد جدّاً لو تَفَضَّلتُم بقول هذا كُلّه مباشرة لسي عبد الرحمن‏»‏.‏
فأجابني على الفور:
«إِن ذلك في نيتي، سألتقيه رأساً لرأس، لكن لا ينبغي أن يأتي ليحدثني عن بعض الأَشياء مثل‏ «‏القوانين الانتخابية‏»‏.‏ سيكون من المفيد أكثر أن نتحدث عن المستقبل والمشروع الكبير.
«والآن، أَطْلُبُ منكَ أن تُبَلِّغَ إليه هذه الرسالة، لَهُ شخصياً، وَحْدَهُ لا غير. فإذا أراد أَن يُخْبِرَ بها آخرين فهذا خيارُهُ، ولكن ليس من الضروري أَن يُعْرَفَ من هُوَ الرَّسَول.
«لماذا أَنْتَ الرَّسُول؟ لأنني أَعرفُك منذ فترة طويلة. أجل، فأنْت مسؤول في قيادة الحزب، وتنقل الرسائل بأَمانة. أنتَ أحد أقدم مُسَاعِدِيَّ والذي لا أملك إلاَّ أن أُعَبِّرَ عن كوني راضياً عما قام به، سواء كوزير أو كأمين عام للاتحاد العربي الأَفريقي. وبالمناداة عليكَ أنْتَ فلكونك مناضلاً قديماً وعضواً في القيادة وأنا أحترم تراتبيتكم التي يوجد على رأسها سي عبد الرحمن الذي سيكون، بناءً على هذا، مُخَاطَبيَ الأساس. هكذا رَبَّاني والدي.
«سأَجمع يوم الثلاثاء المقبل (9 يونيو) القضاة وعمال الأقاليم، وسأوجه خطاباً إِلى الأُمة. ستكون بداية الإعلان عن اللجنة الوطنية للإِشراف على الانتخابات وسيكون على رأس هذه اللجنة السيد محمد ميكو، وكمساعد له السيد محمد الشَّدَّادي. هذا الأَخير الذي سيكون من السهل عليه التنقل في البلاد.
«قل لسي عبد الرحمن إِن اختصاصاتٍ وسُلَطاً ستُمنَحُ لهذه الهيأة. كما أن إِدريس البصري، قال لي إن الأحزاب الأخرى ستواصل حضورها داخل لجنة التوافق‏»‏.‏
*
ستكون لي مناسبة أخرى مع جلالة الملك الحسن الثاني، بعد حوالي عشرين يوماً من هذا الحوار على متن السيارة. ففي 26 يونيو 1992، جرى مع الملك حوار آخر، وكنتُ أيضاً برفقته وهو يقود سيارته في الطريق من قصر الصخيرات إِلى الرباط.
وكعادته، كان الملك المرحوم يفتح الملفات ويغلقها، وينتقل من موضوع إلى آخر بتلقائية، وهدوء، ونظرة حصيفة إِلى الأُمور والقضايا.
كنتُ هذه المرة أكثر حرصاً على الإِنصات. ظَلَّ الملك يخوضُ في التداعيات المختلفة، وتَنَقَّل من الحديث عن قضية الوحدة الترابية (انشغاله المركزي الأَبرز والأول)، عن الغابون، وعن داكار. وعن الجزائر، كان تقديرُه أن العسكريين في الجزائر سيتَخلَّصُون، بطريقة أو بأخرى، من بوضياف. وأَنهم عازمون على التَّخَلُّص من جبهة الإِنقاذ. وسيدخلون في المواجهة أو في حرب أهلية.. أو في ما لا أعرف.
وكان جلالة الملك، على مستوى آخر، يعتقد أن وقت التناوب يقترب مع اقتراب الانتخابات الجديدة. وتمنَّى‏ «‏أن يساهم الاتحاد الاشتراكي في هذه التجربة. ليس الاتحاد وحده بطبيعة الحال، يقول لي، فهو لا يستطيع أن يحصل على 90% من الأَصوات، وإِلاَّ سيكون بمثابة الحزب الوحيد، ولكن بالاتفاق مع شركاء آخرين‏»‏.‏
ثم قال الملك:
«ولإِنجاز التغيير، ينبغي تغيير الأَشخاص مع الحفاظ على الأَهداف‏»‏.‏
وأضاف:
«إِن تغيير الأَشخاص لاَ يَعْني إِقصاء المساعدين القدماء أو إِهمالهم، ولكن كما في جميع الحالات، هناك أشخاص ملائمون وآخرون بدرجة أقل. والظروف تتغير كذلك. في الاتحاد الاشتراكي، هناك رجال أكفاء. أَنْتَ مثلاً، أنْتَ محترم وتحظى بالتقدير (Apprécié) من طرف الجميع. الحْبَابي (محمد الحبابي) رجُل صادق (Il est de bonne foi) سواء كان على حق أَو لم يكن. وهذا ليس هو الوضع نفسه بالنسبة لآخرين [أَعْطَى بعض الأَمثلة الشَّخْصية أُحْجِمُ عن ذِكْرِها]. أعتقد أن رجال الاتحاد الاشتراكي الذين مكثوا خارج الحكم، لمدة ثلاثين سنة، لن يأتوا إلى الحكومة كي يَفْشَلُوا. لديكم إِرادة النجاح ولن تَقْبَلُوا بالإِخفاق. وإِضافة إلى هذا، لديكم سُمْعَة جيدة […]‏»‏.‏
«ينبغي أن تستعدُّوا. إِن أَسْبَقيات المغرب هي التشغيل، الاستثمارات، والحوار الاجتماعي. وما زلتُ غير موافق على التأميمات وفلسفة مكتب المساهمات الصناعية (BPI). ليس لديكم أَيُّ مبرِّر للبقاء بعيداً (à l’écart) بعد إِصلاح الدستور الذي يجعل من الوزير الأول وزيراً أولَ حقيقيّاً يُعَيِّنُه الملك ويكون مسؤولاً أمام البرلمان‏»‏.‏
في دفاتري وأَوراقي الشخصية كنتُ قد دَوَّنْتُ بعض الخطرات التي قالها لي جلالةُ الملك الحسن الثاني رحمه الله في أَحَدِ لقاءاتنا. ويبدو لي من الأَهمية أن أَسُوقَها في هذا السياق للاقتراب من نظرة الملك الراحل إلى الفكرة الديموقراطية، وإلى الاشتراكية. كما عَبَّر بوضوح عن قلقه من رغبة الاتحاد الاشتراكي في الالتحاق بمنظمة الأممية الاشتراكية. ومما قاله وحاولتُ تَدْوينَهُ على قَدْر ما أَستطيع:
«الديموقراطية ليست قضية شخص واحد بل هي تَوَافُق حول المؤسسات التي ينبغي العمل داخلها واحترامها.
«إنها اتفاق (Un accord). الديموقراطية هي النظام الوحيد الذي يضمن الاستمرارية والانسجام. والمَلَكِية لا يمكنها أن تكون إِلاَّ ديموقراطية لأن الرئيس يمكنه أن يكون ديكتاتورياً، ولكنَّ الملك لا يمكنه أن يكون ديكتاتورياً. لا يمكنُ للملك، بمساعدة قبيلة أو فَخْدَة قبلية، قمع باقي شَعْبه.
«الديموقراطية أهم من الاشتراكية. لماذا؟ لأن الاشتراكية هي الشِّعْر (الرومانسي) والمثال أن لامارتين وبْلاَنْكْ كانا اشتراكيَيْن، لكن كل واحد منهما سلك طريقاً مختلفاً.
«ليست هناك شيوعية حقيقية، ذلك لأن الشيوعية تقتضي الفضيلة، وإذا ما كانت لدينا شيوعية فسيكون عالمنا افتراضياً. لينين نفسُه كان يقول إن الحقيقة وحدها هي الثورية.
«وأنا مع التعددية ولست مع التشتيت. وفيما يخص المغرب، سبعة أحزاب هذا كثير لكن ستة أفضل. وذلك في الوقت الذي تكون فيه ثلاثة في الحكم، تبقى الثلاثة الأخرى في المعارضة، وهذا يسمح بالتناوب الذي عليه أن يتحقق كل خمس أو ست سنوات. أما عشرون سنة [ما بين التناوب والتناوب] كما حدث في فرنسا [ميتران ظل في المعارضة 26 سنة] هذا طويل جدّاً، ذلك لأن هذا ليس بالتناوب تماماً. إنَّهُ الانتقام.
«وكملك لا أستطيع أن أكون رئيس حزب. فأنا مِلْكٌ للجميع. والاشتراكيون المغاربة، رغم أنهم في المعارضة فهم أبنائي. ولذا لا أريد أن يصبح الاتحاد الاشتراكي داخل الأممية الاشتراكية وجهاً لوجه مع الإسرائليين. شمعون بيريز لن يفعل شيئاً، لن يقصف بيروت ولن يقوم بـ«صَبْرا وشاتيلا» أخرى، لكنه لن يُقْدِمَ على السلام أبداً. سيعطي الأَسْبرين فقط.
«الإسرائيليون رَبحُوا الحرب دائماً، ولذا فهم لا يعرفون التَّفاوُض.
«بيريز فيلسوف [يعيش في الخيال]، بيغينْ أحمق. والإسرائيليون لا يريدون السلام الآن، ذلك أنك ما إِنْ تفتح لهم باباً إلاَّ ويسارعون إلى إِغلاقه… وهكذا. [لكن] دايان كان سيكون قادراً على السلام، فقد كان يتكلم العَرَبية، وولد في الحي نَفْسِه الذي وُلِدَ فيه أبو خالد، وهو ليس مثل غولدا مايير التي جاءت من ماساشوسيت.
«وإِذا كنت مُوقناً من أنهم يريدون السلام، كنْتُ سأساعد على عَقْدِ اجتماعٍ سري إسرائيلي-مغربي وكنت سأطلب من «الاشتراكيين خاصتي» (Mes socialistes) الذهاب إلى داكار لملاقاة شيمون بيريز [كان يتحدث في أفق لقاء للأممية الاشتراكية في دَاكار] فحين وُجِدَ عبد الرحيم بُوعْبيد مصادفة في لندن، وعثَرَ بكيفية عفوية على بيريز، مما اخْتَلَقَ حملةً من الاستياء في الشرق الأوسط، تم استغلالها من طرف خصومه داخل المغرب.
«الآن، فإِن هذا ليس وقته.
«[الآن، ليس الوقت وقت دخول في الأممية الاشتراكية]. لا أريد أن يجلس المغاربة خاصتي (Mes marocains) وجهاً لوجه مع الإسرائيليين».
*
أعتقد أن الملك الحسن الثاني كان يملك حِسَّ مسؤوليةٍ عالياً، تُجَاهَ نَفْسِهِ كملك أولاً له متطلبات لممارسة الحكم وتُجَاهَ البلاد ومصيرها، البلاد التي كان له شعورٌ مُضْنٍ بكونِهِ مسؤولاً عنها.
يمكنني القَوْل إِن حالة من التَّغَيُّر كانت قد بَدأَتْ تتلَبَّس الملك الحسن مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، من سنة 1989 إلى سنة 1991 بالخصوص. عشْر سنوات قبل رحيله تقريباً، بَدأَ يفكر في أُفُقِ البلاد، وفي مصير الدولة وشروط استمراريتها التاريخية. فهو رجُلُ تاريخ، وصَانِعُ تاريخ –لكي لا نَنْسى- بل‏ «‏إِن له مكانَتَه في روَاقِ ملوك المغرب الكبار‏»‏،‏ بتعبير أخينا عبد الله العروي. ومنْ ثَمَّ أدرك أنَّ عليه أنْ يشرع في الإعداد للتغيير الذي بَدَأَ يمتلئُ به بفعل تطورات الواقع من حوله، والتحولات الكوْنية التي كان يراقبُها بدون شك. ولكنَّه في الوقت نَفْسِه، كان لا يزال مشدوداً إِلى نهج البُطْءِ الذي طبَع مسار حَياتِهِ السياسية، أي التغيير الفعلي بجُرْعَاتٍ، جُرْعَةً جُرْعَةً وخطوةً خطوةً.
كنتُ سمعتُ الحسن الثاني مباشرة يقول في أحد لقاءاتنا:‏ «‏أَنا باغي التغيير، ولكن à doses homéopathiques (بجرعات موزونة وبكيفية تدريجية)..‏»‏.‏ يُذَكِّرُ ذلك بالمغفور له محمد الخامس، وكنتُ أَشَرْتُ إِلى ما قاله لوفد الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، حين ذَهَبْنا نَزورُهُ، بأَنه مع الإِصلاحات، لكن ليس بسرعة، وينبغي أن نترك الوقت للمواطنين كي يهضموها. والمرحوم الحسن الثاني كان في ذلك أكثر من والده، فقد كان يحرص على الإِصلاحات على أن تكون بجرعاتٍ مع أنه كان يعرف أن الوقت يَمُرُّ والساعة لا تنتظر.
أظن أن المَلِكَ الحسَن تَفَوَّقَ في إِرساء الترتيبات التي رأَى أَنها كانت ضرورية لكي تَعْبُرَ المرحلة الانتقالية –حين لن يكون حاضراً- بسلاسة، وفي سلامٍ، وأَمْنٍ، واستقرار.
لقد كان له حَدْسُه السياسي النَّفَّاذُ القوي.
وفي السياسة، كان رحمه الله يدرك أنه لا ينبغي أَن تتقَدَّمَ العَرَبةُ على الحصان. كُلُّ شيء في وَقْتِهِ، وكلُّ واحدٍ في مكانه، والأمور تتم في مواعيدها، لا ينبغي أن تسبق وقْتَها ولا أَن تتأخر عنه. ومن ثَمَّ استِعَارَتُه الأثيرة التي ردَّدَها كثيراً بأن‏ «‏السياسة كالفلاحة لها فصولها‏»‏.‏
كان رَجُلَ دولةٍ كبيراً وكان له رأْيُه. كما كان رجُلَ تاريخٍ لَهُ حُجَجُه.
وكان يمكنُه أن يُقْسِمَ أو يضَعَ الكِتَابَ الكريمَ بينه وبين مُخَاطَبِه لكي يُقْنِعَ بوجاهة رَأْيِهِ، وبصِدْقِ مشاعره ومقاصِدِه.
لقد لفَتَتِ الانتباهَ إِشارةُ سي عبد الرحمن اليوسفي، في محاضرته التي أَلقاها في بلجيكا سنة 2003، إِلى العَهْدِ بينه وبين الملك الراحل.
لم أَكُنْ شاهداً على ذلك. وطبعاً، لم أسأل سي عبد الرحمن ولا هو حَدَّثنِي عن ذلك. ولكنني أَفْهَمُ ذلك جيِّداً عبر معرفتي بطبيعة الملك الحسن الثاني وسَجَايَاه وتفكيره ونظرته إِلى الأَشياء كملكٍ وكمغربي. كما أفكر في أن اليوسفي، رَجُل الكتمان النبيل، كان دائماً رَجُلَ العهود والكَلْمة، أي رَجُل الالتزام في كُلِّ ما كان يَخْدُمُ بلادَهُ وشَعْبَه.
وهذه فرصة لأَقُولَ ربما كان الأَمْرُ، في العمق، يَتَعلَّقُ بالثقة التي تنعَقِدُ في ممارستنا السياسية، ومثالها الشهير تلك الثقة بين السلطان محمد بن يوسف والحركة الوطنية، وهو ما أُطْلِقَ عليه في تاريخنا المعاصر إسْمَ (ثورة الملك والشَّعْب)، والتي يُفْتَرَضُ أَنها تواصلت في مغرب الاستقلال، بصيغةٍ أو بأخرى (رغم بَعْضِ لحظاتِ المجابهة التي جرَتْ بين الدولة والمجتمع بل وتُبُودِلَتْ بعنف أحياناً)، فقد ميزتِ الثقةُ مستوياتِ الفضاء السياسي المغربي، خصوصاً في بُعْدِهِ التقليدي الذي ظَلَّ مؤثراً دائماً.
إِنَّ الثقَةَ هي رأسمالُ رجُلِ السياسة وامرأةِ السياسة، وهي القانونُ الخَفِيُّ لشرطنا السياسي بل لشرطنا الاجتماعي والثقافي. ذلك العنصر الخاص الذي تَنْهَضُ به وتقوم عليه المَادَّةُ الإِنسانية ككل، والذي يُشَكِّلُ السِّرَّ الكبير بين الكبار، من أَجْلِ أَفعالٍ تاريخية كُبْرى. ذلك السِّرُّ الذي يُحَصِّنُ مساراتِ التاريخ الأَساسية ويبتعد بالدول عن أسباب اليأس أو الانتحار، ويُوَفِّرُ الشَّرْطَ الأَهم لكي تعود المصائر من بعيد (Pour que les destins puissent retourner de loin).
وأتحدثُ هُنَا – عَلَيَّ أن أؤكد على ذلك مرةً أخرى في هذا الكِتَاب –بمنطق التاريخ الذي قد لا نُدْركُه عندما نكُونُ بداخِلهِ ولا نَتَبيَّنُهُ عندما نراهُ عن قرب، أي بذلك المعنى الذي أَشارت إليه جين غاردنر بقولها:‏ «‏لا يبدو التاريخ كتاريخ عندما تَعيشُ فيه‏»‏.‏
وهَذَا ما يستدعي توضيحاً تقتضيه أخلاقُ المسؤولية التاريخية التي تَحمَّلتُها، بصدقٍ وتَجرُّدٍ، كمناضلٍ بروحٍ وطنيةٍ وبِحِسٍّ تقدمي (ولا أمدَحُ نَفْسي هُنَا، فلا حاجَةَ الآنَ في هذِهِ السِّنِّ إِلى تمجيدٍ للذَّات أو مُرَاكَمَةِ المدائح)، أقصِدُ هذا المَجْرَى السياسي، هذا الذهاب والإِياب في نادي الكبار، معَهُم وبينَهُم، برأسمالٍ رمزي إِسْمُه الثّقَة، واسْمُهُ الآخَرُ العَهْد، واسمُه الرسمي القَسَم: أَنْ تُقْسِمَ أَمَامَ نَفْسِكَ، أمام ضميركَ، أمام تاريخِكَ وأمام اللهِ أولاً وأَخيراً بأَن تخدُمَ مشروعَ بلادِكَ وشَعْبِكَ.
والحقيقة أَنني تعلَّمتُ ضمن سيرورة عملي السياسي، وعَبْرَ ساحات النضال التي خُضْتُها كتقدمي ديمقراطي، وكاتحادي أساساً مع حزبي وداخل حِزْبي –من الاتحاد الوطني إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حيث عدَّلْنَا الاِسْمَ تعديلاً طفيفاً وعميقاً بدون أن نُعدِّلَ هُويتَنَا وأفكارنا ومبادئنا وقيمَنا- تَعَلَّمتُ أن بلادنا كانت في حاجة إِلى كفاءتنا، وهي بالتأكيد في حاجة على الدوام إِلى كفاءات جميع أَبنائها وبناتها، وبالأَساس كانت في حاجة إِلى اختيارنا الديموقراطي.
وقد أَدْرَكْتُ مبكراً أن الاختيار الثوري الوحيد الممكن بالنسبة لبلادنا وشعبنا هو اختيارنا الديموقراطي. ولكننا كنا جميعاً في حاجةٍ إِلى إِنضاج المسارات والأَفكار والمشاريع البرامج، وبالخصوص إِنضاج العلاقات والمسالك بين مختلف الفاعلين السياسيين الكبار.
لم تَكُنِ الأَفعال التاريخية والسياسية الكبرى لتتحقق –وأتحدثُ بصفة عامة- لو لَمْ يتوفر لها دائماً أَشخاصٌ لهم نَصِيبُهم من الكفاءة والأهلية والواقعية والتَّبَصُّر والقدرة على التَّكَتُّم والتواصل والإِنصات ويحظَوْن بالتقدير والثقة.
أولئك وحدهم القادرون على تَجْسِيرِ العلاقات، وتقريب المسافات، وتركيب الرُّؤى والمقاربات والمواقف. وهم يفعلون ذلك، وقد فَعَلُوهُ دائماً، في صمتٍ كاملٍ تقتضيه أولاً طبيعةُ مهامهم كرُسُل ومبعوثين خصوصيين مثلما تقتضيه العفةُ والمروءةُ والتواضع. وبذلك ظلوا ينجزون دوراً تاريخيّاً بدون أن يكون لهم الحق في إِبرازه أو التعبير عنه علانيةً أو الاستعراض بِسَبَبِه.
عَلَيَّ أن أَقُولَ ليسَ من السَّهْلِ أَنْ يُنْجِزَ المرءُ عمَلاً قد يتَلَقَّى عَنْهُ آخَرُونَ الثناء، وقد يتلقى عنه هو –أَحياناً- أنواعاً من الإشاعات التي تُسَمِّمُ النَّفْس وتلحق الضرر براحته وطمأنينته وصحته بل وقد تسيءُ أحياناً إِلى نزاهةِ وصدقِ انتمائِهِ ونقاء تاريخه وكرامته ووضعه الاعتباري كمناضل.
لقد عِشْتُ شيئاً من ذلك، مما يَجِلُّ اللسانُ عن ذِكْرِهِ.
كَمْ كانَ الألمُ الصَّامِتُ هو امتيازي الوحيد !
ولكنني كنتُ أَذْكُرُ دائماً ما قَالَتْهُ الراحلة السيدة أنديرا غَانْدي مرةً:‏ «‏عَلَّمني جَدِّي أَنَّ هُنَاكَ نوعَيْن من الناس: الذي يُنْجِزُ العَمَلَ، والذي يتَلقَّى الثَّنَاء. وحَثَّنِي على أَنْ أَكُونَ من الصِّنْفِ الأول، فالمُنَافَسَةُ هناك تكونُ أَقَلَّ بكثير‏»‏.‏
*
عندما توفي الملك الحسن الثاني رحمه الله في 23 يوليوز 1999 (عن سبعين سنة)، كنتُ في باريس. ومن عجائب المصادفة، يا سبحان الله، أنني كنتُ في باريس كذلك عندما توفي الملك محمد الخامس طيب الله ثراه في 26 فبراير 1961.
كنتُ أجريتُ بعض الفحوصات في المستشفى العسكري في الرباط حول المثانة (البّْروستاتْ)، وذلك في إِثر بعض الآلام التي كنتُ أُعانيهَا. وبَلَغَ الخبر إِلى علم جلالة الملك الحسن فطلب من طبيبه الخاص أن يتصل بي ويقول لي إِن الملك يأمرك بأن تعرض نفسك في باريس على الطبيب المختص البروفيسور أدي سْتيگْ Ady Steg، الذي كان يُتَابعُ الوضع الصحي للملك في هذا التخصص، وهو نفسُه الطبيب الذي كان يتابع حالة الرئيس فرانسوا ميتران. والحمد لله، لم أكن أُعاني من أَيِّ إِصابة خطيرة أو أَعراض داء خبيث، وإِنما كانت المثانة تعاني من حالة تضخم أو شيءٍ من هذا القبيل فحسب. وكنت أُتابع علاجها بتناول الأَدوية.
فعلاً، حددت لي المصالح الطبية الملكية موعداً مع البروفيسور الفرنسي المذكور فسافرت إِلى باريس، كان يوم أربعاء والموعد في اليوم المُوَالي، الخميس، وكنتُ في عيادة الطبيب في الوقت ذَاتِهِ الذي كان الملك الحسن –ودون أَنْ أعلَمَ- يُسْلِمُ الروح. كان المسْيُو سْتيگْ قد تَقَاعد عن عمله الرسمي وأصبح يستقبل، في عيادة خاصة في بيته، عدداً من مرضاه المخصوصين أو بعض الحالات القليلة التي ظل يتابعها.
حوالي الساعة الرابعة مساء، كان الطبيب يقوم بالفحوص اللازمة فيما هو يسألني عن أحوال الحسن الثاني، وبما أنني تركتُ الوضع الصحي للملك مستقرّاً، كنتُ أطمئن طبيبه الباريسي وأحدثه عن أَنه استقبل مساء أمس الأربعاء الرئيس اليمني علي عبد الله صالح.
تركت العيادة، وقبل عودتي إلى الفندق عرجتُ على إِحدى المكتبات لاقتناء بعض العناوين الجديدة، ثم وصلتُ الفندق حوالي الخامسة والنصف إِلى السادسة. وفي الغرفة، ما إِن فتحتُ جهاز التلفزيون حتى صعقني خبر نقل جلالة الملك الحسن الثاني من قصر الصخيرات إِلى مصحة القصر الملكي في الرباط قبل نَقْلِهِ من جديد إلى مستشفى إبن سينا. لم يُشِرِ الخبر إِلى وفاة الملك، وإِنما ألْمَحَ إِلى وضعيته الحَرِجَة جدّاً، والتي قد يكون ميؤوساً من أن يتجاوزَها.
حاولت أن أعثر على طائرة متجهة إِلى المغرب ذلك المساء، ولم أعثر على أي إِمكانية إِلى ذلك. وفي حوالي الساعة السابعة والنصف، اتصل بي سي عبد الكريم بناني من الكتابة الخاصة للملك، وكان يعرف أنني أُوجَد في باريس لسَبَبٍ صحي، فقال لي إِنَّ عليَّ أن أدخل فوراً في أول طائرة متاحة. سألتُه عن الوضع الصحي لجلالة الملك فأَجَابَني:‏ «‏سِيدْنَا رَحِمَهُ الله‏»‏.‏
وكنتُ في صباح اليوم التالي، في أول طائرة متجهة صَوْبَ المغرب. ومباشرة، بعد وصولي، اتَّجهتُ إِلى القَصْرِ الملكي، إِذْ طُلِبَ مني الإِسراع في الحضور قصد المشاركة في التوقيع على كتاب البَيْعَة، مُبَايَعةً للملك الجديد، جلالة الملك محمد السادس. قدمتُ التعازي الأولى لجلالته وقمتُ بواجب التوقيع من موقعي كرئيسٍ لمجلس النواب، وذلك قبل أن ألتحق ببيتي لأُغَيِّر ملابسي وأَتهيأ للانخراط في هذه اللحظة الصعبة. وبقية الوقائع ذات الصلة بهذا الحدث الكبير باتت اليوم معروفة.
ما يظل في ذاكرتي بالخصوص من الحدث، ذلك النهر البشري الدافق الذي أحاط بالجنازة، ونحن نمشي خلفها بين جمع من قادة الدول الشقيقة والصديقة ورجال الدولة وعدد من الشخصيات الوازنة والرمزية يتقدمهم ملك شاب في أولى خطواته على طريق المسؤولية التاريخية، في تلك اللحظة المَهيبَة التي لاشك أنه، قبل غيره وأكثر من غيره، كان يدرك مدى هَوْلها لا من حيث فداحةُ الفقدان، ولا من حيث الأمانة التي آلتْ إِليه وسيكون عليه أن يتحملها إِلى ما شاء الله.
حضرنا مراسيم الدفن وصلاة الجنازة، يا لهول وهيبة تلك اللحظة ونحن نقف أمام جنازة رجل عاش ومات في خدمة بلاده وشعبه ! وككل رجالات الدولة الكبار في العالم وفي التاريخ كانت لهم لحظاتُ القوة والحضور والعطاء والأَداء مثلما كانت لهم حدودهم ونقصهم الخاص.
ثم أتيح لي بعد الصلاة على الملك الراحل أن حظيت –بصفتي كرئيس لمجلس النواب- بأن أكون ضمن أحد عشر فرداً إلى جانب جلالة الملك محمد السادس والأمير مولاي رشيد، وبعض أفراد الأُسْرَة الملكية الشريفة، وسي عبد الرحمن اليوسفي كوزير أول، ورئيس مجلس المستشارين. أَنْ أَقِفَ في القاعة الصغيرة التي ضمت قَبْرَ الفَقِيدِ الكبير إِلى جانب قَبْرِ وَالدِهِ المغفور له محمد الخامس وقَبْرِ شقيقه الأَمير مولاي عبد الله رحمه الله.
لقد كانت وفاةُ الملك الحسن مفاجئةً، بالنسبة إليَّ، بالرغم من معرفتي المسبقة بمقدماتها من خلال تتبعي في صمت لوضعه الصحي على الأقل منذ 1994. وقد شعرتُ شخصياً حين عَلِمتُ بوفاته بنوع من الغُصَّة لا أعرف كيف أسميها (الشَّمْتَة، كما نسميها في المغرب)، إِذْ أصيب بنزلة برد، وامتلأت الرئة بالماء، وضَعُف نبض القلب فجأةً فاختطفه الموت إِلى رحمة ربه. ومن ثَمَّ لا يسَعُ المرء إِلاَّ أن يقول بينه وبين نفسه، كان بالإِمكان إِنقاذ حياته ! وكيف تحدُثُ تلك الأعراض دفعةً واحدةً في ليلة واحدة ولا تستدرك الإِسعافاتُ المتوفرة الوضع الطارئ فتنقذ حياته؟ ولكن لا أحد يمكن أن يتحمل مسؤولية أمر كان موقوتاً، فحين يأتي النداءُ ويَحُلُّ الأَجَل تبقى مثل هذه الوقائع الصغيرة مجرد تفاصيل. ولا يملك المرء إِلا أن يترحم على الفقيد، وإِنا لله وإِنا إليه راجعون.
طبعاً، هناك الأَلم الشخصي الذي يبقى عندما يتعلق الأَمر بمَلِكِ البلاد الذي له مَكَانَتُه في التاريخ الوطني ولصيته امتدادٌ في العالم العربي والأَفريقي وفي العالم. كما يتعلق بالأخص بملكٍ اختار أن يجعل بينه وبيني مسافة قصيرة أَسَاسُها التقدير والاحترام والمحبة، وجَوْهَرُها الثقة والأَمانة والصدق.
أَتَمثَّلُ، وسأظل أَتمثَّلُ، دائماً دور الملك الحسن الثاني داخل المغرب وخارجه. وقد شاءت الأَقدار أَنني قطعت معه رحمه الله مسافاتٍ على الطريق وفي الزمن والتاريخ، فاشتغلتُ معه وإِلى جانبه، وتَعَاونْتُ معه في كُلِّ ما يخدم القضايا العليا لبلادي والمصالح الوطنية لشَعْبي أولاً وقبل كُلِّ شيء، وفي كُلِّ ما يُقَرِّب بينه وبين القوى الوطنية والتقدمية وفي مقدمتها الحركة السياسية التي كان لي الشرف أنِ انتميتُ إِليها وإِلى أُفُقها النضالي والأخلاقي والفكري، ثم في كُلِّ ما يجعله رَحمَهُ الله ينزع نحو المرونة والانفتاح وتعزيز الفكرة الديموقراطية وبناء صَرْحها.
أستحضر أَيضاً كيف قَرَّبني منه، وجَعَلني أُنْصِتُ إِليه ويُنْصِتُ إِليَّ.
أستحضر، وسأظل أستحضر نَبْرتَه المشحونة بصدْقٍ لا يَخْفَى، وهو يقول لي كما سَبَقَتِ الإِشارة:‏ «‏كنَشْعُر بأنَّك ما عارفشْ قيمتَكْ عنْدي. خَاصَّكْ تَعْرفْ أَنِّي كَنْقَدّْرَكْ، وكَنْحتَرمَكْ، وكَنْحَبَّكْ‏»‏.‏
أَستحضر حَجْمَ الثقة التي وضَعها في شخصي المتواضع في عدة مناسبات، وفي عدة مسؤوليات، وعدة مهام تحملتُها دائماً بصدقٍ.
أستحضر حرصَهُ الشخصي المداوم، الذي لم ينْسَ دعوتي إِلى قصره بل إلى بيته، وإِلى مُجْمَلِ المناسبات بما فيها المناسباتُ العائلية التي لم يكن يحضرها إِلا خاصة الخاصة من أهله ومحبِّيه. وما كان يُبْديه نَحْوي خلالها من سابغ العناية الشخصية وواسع الاهتمام، خصوصاً حين كان يلمس من جانبي التَّقَلُّل والعِفَّة والركون أَبْعَدَ قليلاً عن مقدمة المشْهَد في كُلِّ مناسبة.
ثم لابد أن أستحضر جُرأَتَه وذكاءَهُ وبَراعَتَه في قيادة المغرب، ولم يكُن حُكْمُ المغرب سَهْلاً دائماً، حتى وإن كنتُ لا أقاسمُه رحمه الله، لعدة عقود من الزمن، طريقته غير الديمقراطية في الحكم.
وسأظل أَصُونُ للملك الحسن الثاني أمراً لم يكن معروفاً أو شائعاً عنْهُ، وهو أَنه احترم دائماً انتمائي السياسي والحزبي. فقد ظل يُقَرِّبُني منه، ويُسرُّ إِليَّ بأَفكاره وهواجسه وانشغالاته بثقة وهو يعرف أنني كنتُ ما كنتُ عليه من اختيار وانتماء وتَموقُع. كان على علم بحيثياتي وإِحْدَاثِيَاتي الكاملة منذ سنة 1963.
أبداً، لم يسمح لنفْسه بأَنْ يتدخل في انتمائي الشخصي إلى الاتحاد الاشتراكي، ولا سَعَى إِلى مساءلتي في ذلك، ولا إِلى رَدِّي عن ذلك. صحيح، كان ينتقد الحزب الذي أنتمي إِليه وينتقدُني بالطبع فيما هو ينتقد هذا الإِطار الحزبي لأنني جزء منه، ولكنه أحاطني كاتحادي بالتوقير والتقدير دائماً. وأَحسستُ أَنه كان يتصرف كما لو كان يحمي انتمائي هذا من بعض المحيطين به، أولئك الذين كانوا قد اعتادوا الضغط أو الإِغراء لإِبعاد البعض (من المقَرَّبين أو المدعوين إِلى دائرة المَلِك) عن اختياراتهم السياسية. ولا داعي إِلى التفاصيل. المهم أن الحسن الثاني لم يكُنْ يُخرِجُ أحداً من حزبه إِلاَّ من كان مستعدّاً أو راغباً في ذلك. على العكس مما قد يظن البعض، كان الملك الراحل عندما يحترم أَحداً يَحْمِيه ولا يدع أحداً من محيطه يتَجاسَرُ عليه أو يضَيِّق عليه في اقتناعه وانتمائه.
أذكر أيضاً كيف كان يحرص –كلما تقدمتُ للسلام على جلالته أمام الحضور- على أن يخُصَّني ببعض عبارات التقدير كما لو كان يتَقَصَّد أن يشير أمام الآخرين إلى المكانة التي كنْتُ أحظى بها لدَيْه.
ربما عَلَيَّ أَلاَّ أَنْسَى ذلك الدفق البشري الشَّعْبي الذي حَجَّ إِلى الرباط بكل وسائل النقل، وحتى مَشْياً، لحضور جنازة الملك الحسن الثاني. يذكّر المشهد، بدون أَدنى مفاضلة، بجنازة بطل التحرير الملك محمد الخامس، لكن جنازة الحسن الثاني كانت أكبر وأوسع وأكثر حشداً. طبعاً، الحجم الديموغرافي للمغاربة كان قد أصبح أكبر، لكن التعبير الشعبي سنة 1999 كان أَقوى بكثير. ولقد هزَّني مشهد آخر، حين وصلنا إِلى مسجد حسان بالرباط خلف الجنازة فَلَفَتَتْ انتباهي الجموع البشرية الممتدة على طريق سلا. مَقْطَعٌ واحد أتيح لي أن أراه بأُمِّ عيني أدهشني. أما ما رأيته أثناء سير الجنازة، وما بلَغَنا عن قوى الأمن والدرك التي اضطرت إلى أن تقطع الطرق المتجهة نحو الرباط، وتوقف القطارات والحافلات والسيارات، حين غَدَا من المستحيل، في لحظة من اللحظات، أَن تستوعب الرباط شعباً يريد أن يُودِّع ملكه.
من المؤكد أن الملك الراحل كانت له أخطاؤه مثلما كانت له حسناته؛ وظني أن المغاربة، بما عرفْتُه وأعرفُهُ عنهم من فضائل وقيم، سيحتفظون للملك الحسن الثاني بحسناته وأياديه البيضاء فحسب. وأما ما تَبقَّى فهو شأن متروك للتاريخ وللمؤرخين.
*
من جانب آخر، أَذْكُر حين طلبتُ –أياماً بعد أن وارَيْنا الملك الحسن رحمه الله التراب- موعداً لأقابل جلالة الملك محمد السادس وقد خلَفَ والده على العرش، وذلك لأَتقدم إِليه رسمياً بتعازي مجلس النواب. سلمتُ على جلالته وقدمتُ عبارات العزاء أصالةً عن نفْسي ونيابة عن أعضاء مجلس النواب الذي كنتُ أَتشرف برئاسته، في وفاة والده، قال لي جلالتُه:‏ «‏أَنا بدوري أُعزِّيك، فقد كنتُ أعرف العلاقات الخاصة التي كانت تَرْبطُ بينَكَ وبين والدي رحمَهُ الله‏»‏.‏
ولعلِّي في تلك اللحظة أو بَعْدَها، وربما قَبْلَها، استعدتُ الشريط كاملاً في ذهني لأرى الملك الراحل وهو يهيء ببُعْد نَظَرٍ وبصيرةٍ نَفَّاذَة، المرحلة المقبلة التي كان قد بدأ يدرك أنه لن يكون فيها حاضراً. ذلك الإِلحاح من جانبه على أن نتحمل المسؤولية في التسيير كي لا تصاب البلاد بالسكتة القلبية، وإِلاَّ قد‏ «‏يتَابِعُنا بسبب عدم إِسعاف بلد في حالة خطر‏»‏ ‏بمداعبته الأَثيرة. وكذا إِلحاحُه بأنه ربما كان قد أخطأ في المحاولتين السابقتين، ولا يريد أن يخطئ مرة أخرى في إقناعنا، وغير ذلك من المَشَاهد واللحظات التي لا تُنْسى.


بتاريخ : 05/04/2023