اقتربتُ من سي عبد الرحمن، لأول مرة، خلال الفترة التي تَمَّ فيها الانفصال عن حزب الاستقلال وإِنشاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في سنة 1959. ومنذ هذا الانشقاق الفاصل المُدَوِّي في تلك السنوات الأولى من عهد الاستقلال، سيَتَبدَّى الرَّجُلُ في عَيْنَيَّ كأحد المحركين الكبار لهذه الحركة الرافضة في قلب الحزب الوطني الكبير، والتي كانت تطالب بإِصلاح الحزب وإِعادة بنائه الفكري والإِيديولوجي والتنظيمي. كما لَمعَ إِسْمُه وصِيتُه كأحد الصُّنَّاع الحقيقيين لحركة اليسار الاشتراكي في المغرب، إِلى جانب وجوه مؤثرة أخرى من أبرزها المهدي بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله إِبراهيم، الفقيه محمد البصري والمحجوب بن الصديق.
وإِذن، فإِن دينامية التصحيح التي انبثقت داخل حزب الاستقلال هي التي جَعَلَتْ بعض الوجوه تتقدم إِلى المشهد فَنَراها بوضوح أكبر، ومن ثَمَّ غَدا اليوسفي وجهاً بارزاً في حركة المطالبة بالإصلاح الحزبي والوطني والتجديد الفكري.
كان في الثلاثينيات من عُمْره، في الواحدة أو الثانية والثلاثين تحديداً، وكان أُفُقُه واضحاً بل كان يعرف ما عليه أن يفعل، وإِلى أين يريد أن يمضي. وكنت أَشَرْتُ إِلى أنه هو نَفْسَه سيقول لي لاحقاً جدّاً، في سياقٍ شخصي كُنَّا نستعيد فيه الماضي البعيد: «إِنه لم ينتظر حدث الانفصال عن حزب الاستقلال في سنة 1959، وإِنما قَرَّر تطليق الحزب منذ 1956 !».
مع ذلك، ورغم هذا الإحساس الفكري الذي تَوَلَّد لديه مبَكِّراً في علاقته بحزب الاستقلال، سَنَرَاهُ كعضو في اللجنة السياسية داخل الحزب التي أُنشئت إِلى جانب اللجنة التنفيذية، تلك اللجنة التي كان يُرَادُ بها استيعاب الأُطُر القيادية الشابة لكي تظل العناصر القيادية التقليدية في مَوَاقِعِها الأَصْلِية بدون تبديل أو تعديل.
وسيترأس اليوسفي، إِلى جانب الفقيه البصري، تجمع الجامعة المستقلة لحزب الاستقلال في الدار البيضاء، بينما ترأس المهدي بن بركة تجمع الجامعة المستقلة في الرباط، وذلك في سياق الجامعات المستقلة التي انطلق تأسيسُها آنذاك لتأطير عملية عزل القيادة التقليدية للحزب. ونفسُ الشيء في الوقتِ نَفْسِهِ كان يجري في باريس. اجتمعنا –نحن أيضاً- في زنقة لاسيربونت (Serpente)، في الحي اللاتيني – هناك حيث أسسنا جامعة مستقلة لحزب الاستقلال، بمعنى إشراك جميع المُناضلين والمناضلات والطلبة والعمال والتجار الاستقلاليين في فدرالية فرنسا للحركة الجديدة.
ونعرف تاريخيّاً أن سي عبد الرحمن هو الذي ترأس الجلسة الافتتاحية للمؤتمر التأسيسي لهذا الحزب الجديد، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي احتضَنَتْهُ قاعة سينما الكَوَاكِبْ في شارع الفداء، في الدار البيضاء. ومنذ ذلك الحين، سيصبح اليوسفي في مقدمة المشهد السياسي الوطني. وسيَزداد إِشْعَاعُه غداة تَسَلُّمه رئاسة تحرير صحيفة «التحرير» التي أطلقها الاتحاد لساناً ناطقاً باسمه ومعبِّراً عن توجهاته ومواقفه، إِلى جانب الفقيه محمد البصري الذي أصبح المدير المسؤول عن هذه الصحيفة. ثم سَيَتَّسِعُ الإِشعاع في إِثر كتابته لافتتاحيةٍ قويةٍ في «التحرير» اعتبر فيها أَن الحكومة ينبغي أن تكون مسؤولة أَمام الشَّعْب. ونعرف أَيضاً أن تلك الافتتاحية قادت المدير المسؤول ورئيس التحرير معاً إِلى الاعتقال والمحاكمة. وربما من هناك، يمكننا الحديث فعليّاً عن بداية ظاهرة الاعتقال السياسي في مغرب الاستقلال.
كان اليوسفي قد بَرزَ كمثقف ورَجُل قانون، قبل أن يبرز لنا كصحافي كفْء بقَلَمٍ كان يعرف ما ينبغي أن يُقَالَ ويُكْتَبَ، تَدْعَمُه نخبة خَيِّرة من الكفاءات الشابة التي لَمعَتْ منذئذٍ كان من أبرزها –دون شك- الأَخوان محمد عابد الجابري ومحمد باهي حُرْمَة رَحمَهُما لله.
إلى جانب ذلك، كنتُ أَعرفُ أبعاداً أخرى في شخصية اليوسفي كانت تُوَطِّنُ حضوره الرمزي في أَذهاننا آنذاك كأحد أبرز وجوه حركة المقاومة المسلحة المغربية ضد الاستعمار الأجنبي بل إِليه أُسْنِدَتْ رئاسة أول مجلسٍ وطني لحركة قدماء المقاومين وأَعضاء جيش التحرير. وبهذه الصفة، وَشَّحَ صدر الأَميرة لَلاَّ أمينة رحمها الله بوسام المقاومة باسم حركة المقاومة، وذلك عَقبَ رجوع الأُسرَة الملكية من المنفى، في تحية رمزية ذات دلالة على البعد النضالي المُقَاوِم للملك المغفور له محمد الخامس وولي عهده وأُسْرَته. وكنتُ أسْمَعُ الكثير عن تحركات اليوسفي إِبان المرحلة الاستعمارية، في صفوف المقاومة وفي صفوف الحركة العمالية في الدار البيضاء، وفي مراكش وباريس كطالب جامعي، ثم كمحامٍ شاب لامع بل وكنقيب لهيأة المحامين في طنجة مع بدايات الاستقلال. بمعنى، كان صِيتُ الرَّجُل قد سَبَقَهُ إِلى عِلْمي وأُفُقي وتَعَاطُفي وتقديري.
وكمناضل ومسؤول طُلاَّبي، بَدأْتُ أُخَالِطُ سي عبد الرحمن خلال عَدَدٍ من الاجتماعات الحزبية التي كان يرأَسُها. فابتداءً من المؤتمر الوطني الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في ماي 1962، في الدار البيضاء، الذي انْتُخِبتُ فيه كعضو في المجلس الوطني، حَضَرتُ جميع لقاءات المجلس الوطني التي كان هو مَنْ يترأسها في الغالب بما فيها اجتماع 16 يوليوز 1963 حيث اعْتُقِلْنَا معاً ضمن مَنِ اعْتُقِلَ من المناضلين والمناضلات مِنْ داخل المَقَر الحزبي في زنقة لُورْلُوجْ l›horloge في الدار البيضاء. وقد سَبقَتِ الإِشارةُ والتفاصيل.
بعد المحاكمة، ومغادرةُ سي عبد الرحمن السِّجْنَ، التحق بنا في الفَريقِ البرلماني الاتحادي كمستشارٍ فعليٍّ مواظب، وذلك بالرغم من أنه لم يكن يمتلك الصفة البرلمانية، إِذ كان ضحية التزوير الانتخابي في مسقط رأْسه، طنجة، حيث رشَّحَهُ الحزب فَحِيلَ بَيْنَه وبين ناخِبِيه عُنْوةً.
بطريقةٍ تلقائيةٍ، أَصبح سي عبد الرحمن –كما سبق وأَشَرْتُ في فصلٍ سابق- يقوم بوظيفة التوجيه والنُّصْح والتأطير. فلم يكن ليترك الفريق البرلماني بمعزل عن خدماته الفعالة. ولي اليقين، لو أن الأمور كانت قد مَضَتْ في صورتها الطبيعية، لكان رئيس الفريق البرلماني لحزبنا سيكون أَحَدَ إِثنين لا ثالث لهما، المهدي بن بركة أو عبد الرحمن اليوسفي.
كان قد غَدَا واضحاً للجميع أن اليوسفي لم يكن قائداً عادياً، وكنتُ قد أصبحتُ أعتبره منْ ثَمَّ أحد مُنَظِّري الحزب ومن أُطره الفكرية المُؤَهَّلَة واللاَّمِعَة.
انطلاقا إِذن من تلك الفترة البرلمانية، من سنة 1964، ستتطور صِلاَتُنا معاً، وتُتقَوَّى علائقنا. ومن موقعه في القيادة الوطنية وموقعي في المجلس الوطني للحزب وفي الفريق البرلماني، أصبحت خطواتنا تتشابك ونقَاشَاتُنا تتقاطع. توحَّدَ مسارنا وأُفُقُنا معاً. وسنعمل، بكثافة وعن كَثَب، خلال اجتماع أول مُصَغَّر، وضمن مجموعة ضيقة، على بلورة قرار سياسي وبرلماني، وذلك بأن نتقدم بملتمس رقابة ضد حكومة «الفْديكْ». وهُنَا، اتخذنا القرار في غياب أَخينا سي عبد الرحيم –كقائد وطني وكعضو في الفريق البرلماني- وكانت موافقة سي عبد الرحمن هي ضَمانَتُنا –كفريق نيابي- بأن القيادة الحزبية تُبَارك قَرَارنَا.
وأَذْكُر أن تلك النواة المُصَغَّرة تكوَّنَت من عبد الرحمن اليوسفي، عبد اللطيف بن جلون، محمد الحْبَابي، المعطي بوعبيد، محمد التّْبَرْ وعبد الواحد الراضي. وكنا قد قُمْنا باجتماعات تحضيرية –داخل هذا الإِطار الضَّيِّق- لتحديد موضوع الملتمس ومضمونه، ورسم استراتيجية التحرك وسيناريو الأَداء والتفعيل، ولتوزيع المهام وإِطار التدخلات.
كانتِ المبادرة إِلى وضعِ ملتمسِ رقابةٍ ضد حكومة «الفْدِيكْ» قد شكَّلَت الحدث السياسي الأبرز في تلك الفترة التشريعية كُلِّها، وكانت عنواناً بارزاً مُميِّزاً لها بكل ما استَتْبَعها لاحقاً من تطورات حاسمة أصبح لها تاريخ.
وعَلَيَّ أن أقول إِنَّ سي عبد الرحمن، أَثناء سيرورة أَداء ذلك الملتمس الرقابي كان هو قائد الأوركسترا الذي كان يعرف كيف يتجاوب مع الكفاءات المتوفرة داخل فريقنا البرلماني. وتحت إِدارته، حَدَّدْنا جدول أعمالنا وتدخلاتنا ومحتويات تدخلاتنا وتعقيباتنا. كما دأَبْنا، بعد كُلِّ جلسة من جلسات البرلمان – على عقد اجتماع لتقييم نتائج المعركة السياسية القوية بين المعارضة الاتحادية وأَعضاء الفريق الحكومي.
كانت المساجلات تتم بعد الظهيرة، انطلاقاً من الساعة الرابعة، في المجلس النيابي وعلى شاشات التلفزيون، في حين كانت الصباحات مخصصة للاجتماعات الإِعدادية: أعضاء الحكومة كانوا يلتقون تحت الرئاسة الفعلية للملك الحسن الثاني، بينما كانت اجتماعات فريقنا تتم في بيت سي محمد الحْبَابي غالباً بإِدارة وتوجيه الأَخ عبد الرحمن اليوسفي. وفي تلك الاجتماعات الصباحية، كان كُلُّ مُعَسْكَر يهيء الردود والحُجَح والضربات التي سيُوَجِّهها إِلى المعسكر الخصم. كنا على علْمٍ باجتماعات المعسكر الآخر، ولا شك أنه كان على علم باجتماعات معسكرنا. المواجهة كانت صريحة ومُعْلَنة.
وحتى وإِنْ لم نَكُن نتوفر على العدد الكافي من الأَصوات النيابية لإِسقاط حكومة «الفْديكْ»، كنا من وجهة نظر الرأي العام قد ربحنا المعركة السياسية. كانت تلك الحكومة قد سقطت أَخلاقياً وسياسيّاً ورمزياً.
أَذكُرُ، بعد تَدَخُّلي أَثناء مناقشات الملتمس، جاءني سي عبد الرحمن وهَنَّأَنِي بل وشجَّعَني على مواصلة بقية المراحل في تلك المعركة بنَفْسِ الرُّوح والإِرادة والفاعلية. وكانت تلك هي المرة الأُولى التي رآني فيها اليوسفي مباشرةً في قَلْب الصراع متناولاً الكلمة خائضاً في المناقشة والسجال، وليس من خلال ما كان يَصِلُه عني من أَصداء.
بَدَا سي عبد الرحمن مرتاحاً في أَعقاب ما حَقَّقْنَاه من نتائج سياسية وإِعلامية، وما أُحِطْنا به من تعاطفٍ جماهيري واسع. وسيقول لي في غمرة تلك الحماسة، وذلك الزَّهْو الهادئ: «لقد ارتفع مستوى النقاش، والآن يمكن لسي عبد الرحيم أَن يتناول الكلمة».
وستتواصل معاركنا البرلمانية في تلك الولاية التشريعية، في ثاني تجربةٍ برلمانيةٍ في تاريخ المغرب، وسيظل سي عبد الرحمن إِلى جانبنا يُوَجِّهُنا، ويُسْنِدُ خطواتنا خصوصاً حينما طلبنا عقد دورة استثنائية حول الإِصلاح الزِّرَاعي في صيف 1964، وكذا أَثناء محاسبة وزير التربية الوطنية والحكومة في أَعقاب أحداث 23 مارس 1965 التي شهدتها الدار البيضاء، وكذا حين خضنا معركة تعريب القضاء، وتأميم صحافة (مَاصْ) الاستعمارية. ومعلوم أننا استطعنا أَن نفرض مشروع القانون الخاص بهذا التأميم في اليوم نَفْسِهِ الذي سيَخْطُبُ فيه الملك الحسن الثاني رحمه الله مُعْلِناً عن حالة الاستثناء.
بعد إِقفال البرلمان، في يونيو 1965، اسْتَعدْنا أَنشطتنا الحزبية المعتادة. وبالنسبة إِليَّ شخصيّاً، فقد صادَفَ ذلك انتهاء السنة الجامعية. فَاستَثْمرت جانباً من الوقت لإِجراءات إِدارية قصد إِنهاء حالة إِلحاقي بالبرلمان، واستئناف مهامي كأستاذ جامعي في مقر عملي بكلية الآداب – جامعة محمد الخامس في الرباط. وهكذا، قضيتُ جزءاً من الصيف في إِعداد محاضراتي ودروسي استعداداً للموسم الجامعي الموالي. وسوف لا تتمُّ تَسْوِية وضعيتي المادية إِلا بعد سنتَيْن من ذلك!
الراحل عبد الواحد الراضي يتحدث في مذكراته 15- عبد الرحمن اليوسفي، التفاؤل التاريخي والتناوبُ الذي لم يَحدُث
بتاريخ : 14/04/2023