بعد الاستقرار والشروع في عَمَلي الجامعي، جاءَتْ الخطوة الثالثة، وهي العمل الحزبي. اتجهتُ إِلى مقر الكتابة الإقليمية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكان في بَابْ الحَدّ، بجوار المقر القديم لشركة النقل (ستيام). وانخرطت في العمل التنظيمي وسط ثلة من الإِخوة كان بينهم محمد الحيحي، عبد الفتاح سباطة، الهاشمي بناني، الحبيب الشرقاوي، ثم الإخوة الذين عادوا من الخارج ومنهم محمد الناصري، عبد الرحمن القادري. كما سيلتحق بنا أَخونا عمر بنجلون. وكل سنة، كنا نستقبل فوجاً جديداً من المناضلين العائدين من الخارج الذين كانوا يعززون صُفُوفَنا، فضلاً عن المناضلين الذين بدؤُوا يتخرجون من الجامعة في الداخل ويلتحقون بنا.
وسوف لا تمر سوى خَمسة أَشهر حتى قَرَّر المهدي أن يَدْخُل من فرنسا. وكنت سعيداً جدّاً بأن أجدد اللقاء بالمهدي واستئناف الأنشطة إلى جانبه. وكنا في غمرة التحضيرات للمؤتمر الوطني الثاني للحزب. وبَدأْنا نُكثّف الاتصالات التنظيمية داخل الجهة ككل، ونفتح فروعاً جديدة. وفي تلك الفترة، بدأ اهتمامي التنظيمي بمنطقة الغرب بحكم الجذور التي لي هناك والامتدادات العائلية والاجتماعية. كما كنت أَتردد على منطقة سلا وزَمُّورْ-زْعَيْر، وعلى المناطق المختلفة التي كان هناك دَاعٍ للانتقال إِليها. وطبعاً، فالحضور النضالي في الرباط كان له بُعدُه الوطني، مما كان يحفز عدداً من الإِخوة من أَقاليم ومدن أخرى إِلى الاستعانة بها في التنظيم والتكوين والإِشعاع.
لا ننسى الأَجواء التي كنا نتحرك فيها آنذاك. كانت مرحلة تَوتّر سياسي واجتماعي كبير، فمن جهة كان الانفصال عن حزب الاستقلال ما زال حديث العهد مثل جرح لم يندمل بعد وله انعكاساته التنظيمية والعائلية والنفسية. وكان هناك النداء إلى الإِضراب العام الذي شَمَل عددا من القطاعات بما فيها القطاعات الأكثر حساسية آنذاك وأشهرها قطاع وزارة الشؤون الخارجية. في تلك الأَثناء، فَاوَضَ الاتحاد المغربي للشغل أحمد رضا اگديرة حول إِلغاء قرار الإِضراب العام، لكن قطاعَيْ البريد والخارجية نَفَّذَا القرار، فطرد عدد من الموظفين الملتزمين بقرار الإِضراب كان بينهم إِخوان مناضلون منهم المرحوم محمد زنيبر (المؤرخ والكاتب المعروف الذي كان قد اختار في البداية مساراً دبلوماسيّاً). كما طُرد أَخي عبد الحميد ضمن مَنْ طُرِدُوا من قطاع الخارجية. والحق أن نتائج الإِضراب والقمع الذي استَتْبعَهُ شَغَلَتْنا لفترة طويلة، وألقت علينا مسؤوليات إضافية كان في مقدمتها كيف نُدَبِّر معاشات الإِخوة المطرودين، وكيف نجد لهم بدائل، وكيف ننظم عملية التضامن…
عندئذ بدأ الخلاف عمليّاً داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
كان التوتر عالياً، ونبرة القمع تملأ اللحظة وتبدو الآفاق منغلقة.
ويكفي أن نتذكر أن مدير الأمن الوطني آنذاك كان هو الجنرال أُوفْقِير ومساعده هو الدليمي، وأَن الحكومة آنذاك كانت هي نفسها تقريباً التي أَعْقَبَتْ حكومة عبد لله إِبراهيم في ماي 1960، وأن على رأس وزارة الداخلية رضا اگديرة. وأنها حكومة تشكلت من جميع المكونات السياسية المتوفرة باستثناء الاتحاديين.
يكفي أَيضاً أن أشير إِلى أن الكتابة العامة للحزب كانت مشلولة. وهو وضع شاذ ومحْزِن حقّاً، أن يكون هناك حزب قَويّ، يتحرك على الأَرض بفعالية في المدن والمناطق وقيادته الوطنية مُعَطَّلَة. فالمهدي بن بركة في الخارج، وعبد الرحيم بوعبيد في الرباط ولا تفاهم بينه وبين بقية أعضاء القيادة الآخرين من الجناح النقابي. والاتصال يكاد يكون شِبْهَ منقطع، والاجتماعات متوقِّفَة.
كان القمعُ سائداً بوضوح ضد المناضلين الاتحاديين. الاعتقالات لا تتوقف، عادةً، هنا وهناك، والملفات تُطْبَخ. وكل أَنواع العراقيل والصعوبات كانت مسلطة على رؤوس مناضلينا، فلا يمكنهم فتح مقر جديد، أو كراء مقر، أو تأسيس فرع حزبي، أو تنظيم محاضرة أو ندوة أو تجمُّع. تنظيم حزبي وطني معارض يعيش حالة استثناء دائمة، فقد كنا مطوَّقين وكل أجهزة الدولة مجنَّدة لعزلنا ومحاربتنا. كنا عمليّاً في حكم الحزب المحظور. ولكنْ في المقابل، كنا نَشْعُر بارتياح كامل، بغبطة عميقة، بزَهْوٍ تقريباً حين كنا نحس بالتجاوب مع شعبنا، وحين كنا نُدرك ونلمس كم كان شَعبُنا يثقُ فينا ويَحْتَضِنُنا، ناهيك عن النخبة الفكرية والثقافية والمجتمعية التي كانت ملْتَفَّةً حول الحزب وتُسْنِدُه ضدّاً على لحظةٍ رسمية كانت فَاقِدَةً صَوَابَها.
كنا نخرج للإِشراف على فرع من الفروع أو نقابة فلاحين. ولكوننا كنا نحترم القانون، كنا نحرص على طلب ترخيص. وما إِن كنا نشرع في الاجتماع، حتى كان يلتحق بنا رجال الدرك وأعوان السلطة فيتابعون خطاباتنا وينجزون تقاريرهم التي لم نكن نعرف طبيعتها.
ولم نتوقف عن الحِرَاك والانتشار، كان القمع يَخْلُقُ نقيضه، فقد كنا نعزز تنظيماتنا القاعدية بكل إِصرار، وبكل ما نملك من إِمكانيات للصمود والتحدي. وأَذْكُر كيف كنا نؤسس بعض الجمعيات الفلاحية بحضور عناصر الدرك الملكي والسلطات المحلية. وكلما تحركنا، هُنَا أو هناك، كانت المُلاَحَقَات والمطاردات والتضييقات لا تتوقف.
وفي ذلك الظرف العصيب، تَقرَّر عقْدُ المؤتمر الوطني الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
كان الرهان أَن يجد المؤتمر أفقاً جديداً للوضع الداخلي للحزب ذاته، ويعثر على وصفاتٍ وحدوية لحلّ المشاكل والتوترات التي ظلت عالقة منذ تأسيسه، خصوصاً على مستوى التواصل بين أعضاء الكتابة العامة، وفي العمق السعي لإيجاد صيغة معينة لترتيب الخلافات التي طرحَتْها العلاقة بين الحزب والنقابة.
كنا نفكر في أن صفحة جديدة سيفتحها لنا رجوع المهدي إلى المغرب، خصوصاً في ظل القمع الذي كان سائداً والأجواء التي سادت الحزب وانصراف عدد من الذين ساهموا في تأسيس الاتحاد وكانوا قَدِمُوا إِليه من أحزاب أخرى.
كانت عودة المهدي بن بركة، في 15 ماي 1962، حدثاً حزبياً حقيقياً. وقد استقبلناه في مطار سلا استقبالاً حاشداً مع أن ذلك اليوم صادف عيد الأضحى. تلقائياً، تَحوَّل الاستقبال إِلى عرس كبير. ومنذ المطار حتى مدينة الرباط، كان موكب السيارات يشكل خَطّاً واحداً ممتدّاً يبعث على الفرح ويعيد الثقة إلى نفوس الاتحاديين والاتحاديات. ولا شك أَن صورة ذلك الاستقبال كانت لتثير الذّعْر في أوساط الخصوم فالمهدي، وصيتُ المهدي، ودينامية المهدي، وكلّ هذا الالتفاف الذي تَوَاصَلَ حوله، حتى في غيبته، ما كان لِيمُرَّ مروراً عابراً.
كُنَّا على بُعْد أيامٍ من انطلاق أَشغال المؤتمر. وآنذاك، لم نكن على علم بأَنَّ المهدي سيقدم وثيقة سياسية إِلى المؤتمر ولا هو أخبرنا بذلك. سيظهر أَنه عَادَ وهو يحمل في حقيبته تقريراً سياسياً، خلال اجتماع الكتابة العامة. آنذاك، لم تكن الأَخبار تتسرب عن اجتماعات القيادة الحزبية. لم يكن الأَمرُ كما هو عليه الحال اليوم. كان الخلاف بين أعضاء الكتابة العامة في ذروته، لكنك لن تجد أَيَّ عضو يخرج من الاجتماع ليعطي تصريحاً أو ليكشف عما رَاجَ.
عندما كانت اجتماعات اللجنة الإِدارية للحزب تنعقد في الستينيات، كنا نصل في الساعة الثالثة بعد الزوال، ونظل ننتظر لساعتين وأكثر أن تنهي الكتابة العامة اجتماعها لتنطلق اللجنة الإدارية. وحين كان أعضاء الكتابة يخرجون، لا يبدي أحدهم ما يدل على عمق الخلاف. تجدُهم قرروا محدِّدات اجتماعنا، من سيرأس، ومن سيتناول الكلمة باسمهم…، وكأن شيئاً لم يَحدُث. ونفس السرية أحيطت أَيضاً بمعطيات رجوع المهدي، وبما كان يفكر فيه ويقترحه، وبما كان يَقُولُ بِهِ زملاؤُه في الكتابة العامة وكيف كانوا ينظرون كلهم إِلى الوضع العام للبلاد، وما هي الوصفاتُ المُقْتَرحة لتجاوز «البْلُوكاجْ» داخل الحزب وخارجه، وما هي الأجوبة التي يمتلكها الحزب للرد على الأسئلة التي كانَتْ مطروحةً في الساحة حول طبيعة الدولة وانعدام الممارسة الديموقراطية والحياة المؤسساتية الطبيعية. كما كنا نتابع ما كانت الصحافة الدوْليَّة تَنْشُرُهُ حول بلادنا، وكان في معظمه حقيقيّاً وواقعياً ويبعث على القلق. كما استمعنا إِلى افتتاحية فظيعة أُذيعَتْ على أمواج الإذاعة المركزية للرباط، ليلةَ عودة المهدي بن بركة من فرنسا. كانت افتتاحية تُتَرجم مدى الحنق الذي كان يتملك الدولة وأجْهزَتها تجاهَ المهدي والحزب والاتحاديين ككل، وصِيغَتْ بلُغَةٍ أُريدَ لها أَن تُبْدِيَ غضباً وتهديداً في الآن نَفْسِه، حتى إِنها رُصِّعت ببعض الآيات القرآنية التي اجتُزِئتْ من سياقها الديني والروحي لِتَفيَ بغَرَضٍ سياسي، من قَبِيل «فَأَهْلكْنَا أَشَدَّ منهم بَطْشاً ومَضَى مَثَلُ الأَوَّلين» إلى الآية «وإِنَّا إِلى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ». كانت تلك الافتتاحية إشارة إِلى أفق للتصعيد والمواجهة، والملخص كان واضحاً وصريحاً: «سَتَرْوْن ما ينتظركم !».
في تلك الأَثناء، يمكنني القول إن شعوراً بالخوف على حياة المهدي كان قد بدأ يخالجني. كما أحسستُ بأن الحزب سيعيش لحظات عصيبة.
مرت تلك الأيام، والمناضلون يتوافدون على بيت المهدي لتهنئته على سلامة العودة إِلى أَرض الوطن. لم تنقطع الزيارات، وكان الفَرحُ بادياً على وجوه الاتحاديين كأنما استجمعُوا أَنفاسَهُم من جديد، وبَدَوا مَزْهُوِّينَ بهويتهم وتَميُّز خيارهم النضالي الذي لم يكن سهلاً فقد كانوا وَحْدَهم في طول البلاد وعَرْضها من يقولون لا للاستبداد والقهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
الراحل عبد الواحد الراضي يتحدث في مذكراته 27.. عودة المهدي، قمع الدولة، والمؤتمر الوطني الثاني
ودعنا المناضل الكبير عبد الواحد الراضي، رجُل الدولة الذي ترك بصمات في الحياة السياسية والجمعوية، حيث كان من الرعيل الأول داخل مؤسسة البرلمان، الوحيد الذي انْتُخب وأُعيدَ انتخابُه منذ أول برلمان مُنْتَخَب سنة 1963 إلى اليوم. وهو أحد مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، الذي سيُصبح كاتبَه الأول سنة 2008. رافَقَ عدداً من زعماء الحركة الوطنية والديموقراطية بينهم بالخصوص المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد. كما لَعِبَ دوراً مؤثراً في صياغَةِ مشروع التناوب. وكفاعل ورَجُلِ دولةٍ، عُيِّنَ وزيراً أكثر من مرة في عَهْدَيْ الملِكَيْن الحسن الثاني ومحمد السادس. شَغَل منصب رئيس مجلس النواب لأكثر من عشر سنوات، وترأس عدداً من المنظمات والمؤسسات البرلمانية الأورومتوسطية والإسلامية والمغاربية، قبل أن يُنْتَخبَ سنة 2011 رئيساً للاتحاد البرلماني الدولي، وذلك في علاقاتٍ مواظِبَةٍ لم تَنْقَطِع مع نساء ورجال وشباب منطقته، سيدي سليمان، بصفته البرلمانية.
نعيد بعضا من سيرته الذاتية التي أنجزها الزميل والكاتب حسن نجمي بعنوان ” المغرب الذي عشته ” عَبْرَ سَرْدِ رَجُلٍ ملتزم، يحكي هذا الكِتَابُ تَاريخَ المَغْربِ وتحولاته منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى المصادقة على دستور 2011 مروراً بالأحداث الكبرى والصراعات والتوترات التي عَرفَها المغرب المعاصر، والدور المتميز الخاص الذي لعِبَهُ الرَّجُل، خصوصاً على مستوى ترتيب العلاقة والحوار بين الملك الراحل الحسن الثاني واليسار المغربي بقيادة الراحل عبد الرحيم بوعبيد والأستاذ عبد الرحمن اليوسفي…
بتاريخ : 02/05/2023