في البدء كان .. وسيحيا
يستلذ الشاعر برسم كلماته، وهو يصغي إلى جوانيته، مكتملا بنوابض أشيائه الواجمة، وهي تحرك نفائسها الخفية لمعانا، يزجي نظره بفرح أقل، غير مكترث بما تتعسره الحيوات الأخرى من حوله.
لكنه عندما يبعث حروفه حية، منقادة، هادرة، كمن كان ملحا على قولها بالكلمات والعبارات، لكنه لا يستريح دون تحميلها ما لا تطيق رسما وحروفية، في انعكاس صريح لإيتيقا ادوارد هوبر الذي يبني سببية الرسم أو الحرف بما تحبل به لواعج العبارات والرؤى، ليصيخ هذا المعنى المهراق والمتجاسر لصوت شعري وحروفي متفرد، غادرنا قبل نحو عام ونيف إلى ملحفته الأبدية. مولاي الحسن حيضرة، ذلك الروض الفاخر في إسار الجمال، المقترب إلى مسرة المحبة الصوفية وتجلياتها، عشقها ومعشوقها.
الكتابة برزخية:
لا يحتمل هذا النص المحدود، إصابات في العين ولا إحسانا بنظم حفاوة لا تمتلكها نضاوة، حسنا المفجوع بلظى الغياب، أو صدمتنا إزاء مصاب لا يتوقعه القلب قبل العقل، ولكنني، ولأني أعبر عبر هذه المساحة الثاوية المنتصبة قهرا، على جرف متعب، فإنه لا يندلق الوجد الممهور، دون إصابة أو تمضية ذكرى؟.
الشعر إنساني محض، فكل مواده تأتي من الفكر، وكل نتائجه هي من أجل الفكر. ولكنه يعمل مبدئيا على تمجيد الحالة الأولى التي يقلد فيها الشعور نفسه، من خلال إثارة قوة الارتباط بالنظام، وينتج النظام الناتج شعورًا ممتعًا، وبالتالي يرتقي بالروح. فيجعل أحاسيسه موضوع تفكيره. وبنفس الطريقة، من خلال تذكر المشاهد والأصوات التي رافقت التخيلات وآثار الذاكرة، التي نشأت فيها المشاعر الأصلية، فإن الشعر، من خلال هذه المشاعر، يضفي عليها اهتمامًا ليس من اهتماماتها بشكل صحيح، ومع ذلك يخفف من العاطفة بقوة مهدئة، والتي تمارسها جميع الصور الدقيقة على النفس البشرية. وبهذا يكون الشعر صورة عاكسة للفن، إذ يستفيد من أشكال الطبيعة في التذكر والتعبير عن أفكار الروح ومشاعرها ومتقابلاتها.
ومع ذلك، لا يمكن للشعر أن يتصرف إلا من خلال تدخل اللغة الواضحة، وهي إنسانية بشكل خاص لدرجة أنه في جميع اللغات هي العبارة الشائعة التي تميز الصفات المتضادة للإنسان والطبيعة. إنها القوة الأصلية للكلمة.
والحالة أن هذا التجاور في استكناه تجربة الراحل مولاي الحسن حيضرة، ينتصر لا محالة، للشعر والتشكيل الحروفي معا، جسدا واحدا، وواجهة موحدة لاستغوار أبعاد الرسالة التي خلق لأجلها، وكافح واستمات لصيرورتها، وأعاد لحمة الإصغاء إلى أعماق أعماقها، متشحا بعبرة القراءة والبحث عن آفاق مغايرة للإبداع والكتابة.
الرسم بالشعر :
يكتب الشاعر والفنان التشكيلي مولاي الحسن حيضرة كأنه يخرج توا من حفرة معتمة، كفراشة أيقظتها رفات الحرير بعد بيات طويل. يكتب لأجل أن يمحو متقمصا دور الزاهد الرائي الذي ألهمه الفارض حكمته الشهيرة:” لا تقلع عن المحو فأنت حي بالإمحاء»..
يجوس حيضرة خلال أبعاد متعاقدة، تروم الانحياز للبوح وإظهار الحياة، في تعالي يخطف الأبصار ويعيد الدفء لرسم حدقة الشعر، منسلة بين الأصابع كماء منسدل خفيف:
.. تقدم أيها الضوء اكتب انخطافها، اقلب الظاهر على الباطن،
باغت عريها بعري،
عطفها بعطف، غيها بغي، حرفها بحرف،
هي شهرزادك والشهد بينكما رياح،
الغصن مياد، والعش فواح،
منها القوس ومنك الشد وشحذ الرماح … ” ص ـ 14 “
فالقرابة المعقودة بين الصمت والقول هي الزبد الذي يطوي مسافة الرؤية ويحد علامة الإبصار. علاقة تستدعي المشاركة السالبة، التي تفك طلسم العزلة ونارها المشتعلة:
افتح لها باب الانعتاق من جحيم الصمت إلى جنة الكلام
من نتوء الهمس إلى مرمر اللمس،
من شبهة الوشي إلى بهاء العري،
من لظى الشوق إلى نشوة العشق …” ص ـ 13 ـ
«أيتها الكلمات .. إني اصطنعتك لنفسي فتسلقي المعاني، وروضي هذا الدفين، تحسسي الأعضاء ماء وجمرا، بردا وسلاما، تعرفي على الظاهر والمكنوز، الضامر والمكتنز، على نص الوصية وحق الورثة، على رمل العطش يحتله الشوق لغمر في رحم السحاب، على ماء الرش يحلم ببطن جهراء ترشفه رشف الرضاب، على هدهد اليقين يمشط عرفه يغفو ولا ينام ..” ص ـ 19
كأني بحيضرة يستحضر ذاكرة ميري ويرنوك وهو يشرح ذاكرة رخوة مليئة بالشجو واللامبالاة، إذ هي ليست مجرد شيء نستثيره عن عمد، أو فارقة عابرة في زمن متداع، بل هي امتداد لجذور فيسيولوجية متمثلة في الدودة والأخطبوط. وهي ذاكرة يستدعيها الشاعر حيضرة بنوع من التجافي والضمور الروحي:
«الذاكرة حجاب لخرقه وفك طلاسمه سر دفين بين القلم والنون .. ألف في قلب» «دائرة كل الحروف في حسنه حائرة، دائرة سطرت في برزخ بين روح صفت في بحر بين حاء ونون، وعقل يهوى ولوج الثقب في إبرة الجنون. « ص ـ 17
وإذا كانت كل حقائق الحياة وصنوف عيشها رهينة بقراءة خرائط الوجود وتفكيك طلاسم الكينونة، فإن الشاعر حيضرة يستشعر هذا التدبر من خلال التذكير والنبش في مساحات متناظرة من المفاهيم والحتميات الفلسفية، كالتي تتردد بين جوانح الكتابة ومتاهاتها، معانقة الأشكال المتقمصة للمعنى وأضداده، وهي الكيانات الجوهر في ملاذات مفتونة بالوشم والتخفي خلف مناطق محجوبة لا يراها إلا من ضمن التيه فيها واللبوس دون سواها. كالحقيقة التي « هي سلب آثار أوصافك عنك بأوصافه أنه الفاعل بك فيك منك ، لا أنت» بتعبير ابن عربي، أو هي «شهود نور الحق في مظاهر الخلق ، أو شهود نور الربوبية في قوالب العبودية « كما قرأها العارف أحمد بن عجيبة، فإن حقيقة حيضرة لا ترى بالعين المجردة، ولا تسترفد بالعقل الذاعر. إنها حقيقة واعية بالسياقات الكبرى لوجود الانسان، من حيث هو مثال للقيم ومجسد لها، وضامن لاستمرارها. يقول حيضرة في نصه الشامخ «الحقيقة أم العراة»:
«لي في الظلمة أسرار إذا التقى النور عليها جناحا لاذت واحتمت خلف قبة الفضاء، لكي لا تكشف الأسماء. ولي في الصمت مقامات سواها على الفؤاد حرام، أعلاها مقام السلام ـ لم يعيها شطح الأفكار ولا تحرش من حلو الكلام ..» ـ ص 22 و 23.
وبنفس طعم الحقيقة ومذاقها الرخو المديد، يستدير حيضرة مشاغبا صورة الجسد ونوازعها العاتية تحت سلطة العقل واقتياده الأثيم، مذكرا بانزياحات الحارث المحاسبي وهو يتدلل الجسد القيامي في نصوصه الصوفية الحرى، حيث «التوهم « الكتاب الشهير الذي يخوض في نزعات الجسد وإيروتيكيته الباذخة، يتمم رؤى المتصوفة في تيمات الجسد الممهور بعنفوان الشهوة واللوعة والإسراف..
تأثيرات ثقافية
عميقة الدلالة:
الحتمي أن تأثيرات المحاسبي على نصوص حيضرة في الجسد والثورة بادية للعيان، مستقاة من فرادة النص العاري الكاشف عن تراكمات النصوص التشكيلية الشذرية التي اشتغل عليها حيضرة كفنان كاليجرافي وتشكيلي عميق. ونماذج ذلك مبثوثة في شذريات أدونيس ودرويش وحداد والماغوط ودنقل ..الخ ، التي جسدها حيضرة في أعماله التشكيلية الشهيرة أواخر القرن العشرين الذي ودعناه.
يقول الشاعر حيضرة وكأنه ينساق مكرها لإحالة شديدة اللعب على وتريات تنغيم الجسد وتطهيره من كل الخرافات التوهمية والافتعالات المرتابة:
«ألا إن الجسد مضغة، إذا صلحت : السماء فم من قلب الشفق الأحمر، والأرض بساط قرب سندسي أخضر، والماء سنم عينه من عين الكوثر، والهواء عبق سليل المسك والعنبر، نضجت رمانته بما تشتهي الحواس مجاس الذات، وسرى دم العشق حتى احمرت من فرط الحياء الأجنة، الغمز على محياها بريق رصت مثل العتيق، كل حبة بألف ألف حسنة، السبحة بها في مقام ما شاء الله يفتح الصراط برقا والحجاب خرقا إلى جنة الآه.» ص 25
انظروا لهذا التماثل الآسر الذي يدور في نفس فلك الصور الشعرية بين حيضرة والمحاسبي. هذا الأخير يتخيل لذة الاشتباك مع أجساد نساء الجنة ويقول : « فتوهم نعيم بدنها لما ضمتك إليها، وكاد أن يداخل بدنك بدنها من لينه ونعيمه. فتوهم ما باشر صدرك من حسن نهودها ولذة معانقتها، فبينما أنت كذلك، إذ تمايعن عليك فانكببن عليك يلثمنك ويعانقنك، فملأن وجهك بأفواههن ملتثمات، وملأن صدرك بنهودهن، فأحدقن بك بحسن وجوههن، وغطين بدنك وجللنه بذوائبهن، واستجمعت في مشامك أراييح طيب عوارضهن».
وهي الصور المتواترة في ديوان حيضرة، منتقاة سوابغها وملاغبها بعناية فائقة. نقرأ ذلك بجمال نادر في قصائد « إن جسدا لا يصهل عليه أن يغادر موكب الخيول» و «تحتفي الحياة بالجسد ويحتفي الموت بالجثة» و «كل جسد مترع نافذة تستجدي الرشق» و «بين الحديد والطرق مسافة للتأمل .. فراش النار» و «من حق الملح أن يحن للحجر» .. و» لا هيبة لقناع « و»ليس أمام العراة خيار إما الخصف وإما العناق» و «وحده الرمح يتقن قراءة الجرح».
إن روح القصيدة عند حيضرة تنبع من مفازات الجسد والروح، وبينهما يستمد الكائن طاقته الكلية، غير منتبه لما يمكن أن تكرسه سحابات الصيف الذي تفتحه جدرانات الظلام ومثالب الخرق . يقول حيضرة في «رقيم الخروج»:
«هكذا فتحت في جدار الظلام نافذة للضياء،
تركت بحر الوهم رهوا
وعبرت في الجرح لأقرأ الأحمر في دمائي
هكذا رشقت بألف الرؤيا عيون المرايا لتمرق بهاء العري وتصحو
ولجمت بياء العبارة مهرة العشق تغافلني وتنحوز» ص ـ 79
ذلك عين المحو في ذاكرة لا تنكتب دون سبر لسماد الحقيقة. كيف تكون وهي المرصوصة بنيران الشهقات وسيقان العورات وقبلات القبلات، ومباهج الحب العفيفة.
إنها شعرية الجسد التي تصوغ محبة الجسد مجازًا لا حقيقة، وتمنحنا بهذا الانزياح الشاهق سلطة فوق كل السلط الممكنة.
رحم الله سلطان العاشقين شرف الدين ابن الفارض إذ يقول:
فكل مليح حسنه من جمالها مــعار له، بل حسن كل مليحة
ـ «أنا أكتب إذن أنا أمحو» ديوان الشاعر والفنان التشكيلي مولاي الحسن حيضرة ـ ط 1 ـ 2017 المطبعة الوطنية مراكش