الراوي الذي يشرب قهوته على صهوة الحريق

 

إلى آسية.ب: شمعتي
دوما وأبدا..

كان كائنا لا تهزمه الحياة بقدر ما ينهزم أمام القلق الأبيض. كان سيفه كلماته: كانت ولا تزال رأسماله الوحيد. يغلب بها أيامه المكرورة، ويراود بها خياله. يصلح خطأ هنا ويعدل هفوة هناك. كان العالم عنده ركام هفوات لا تصلحها سوى الكلمات. تغبطه كلمة ويبتسم لجملة ويراقص فقرة. يسكن الكلمات وتسكنه. كان الهاجس شيئا جذريا كهمس الله.
في البدء كانت الكلمة، وكان اسمها الكلمة الأولى. المحرك الأول. وكانت الحروف الأربعة وحدها تعبر النهر في اليوم مرتين. كانت حافة الأسئلة، والجدار الذي ينتهي عنده الشك واليقين. شيء من قبيل ميزان اللسان واللغة الأولى.
كانت الكلمة وكنت ظلها..
أتودد لروحها المستبدة، وأغويها مسلحا بالخيال والخيل والمفتاح المرسوم بفتنة لا تغفلها عين. أضربها وتضربني، أشرب كأسا على شرفها وأرتمي بحضن مختبئ بحكمة داخل قصيدة منسية.
كانت روح الكلمة كالموت وكالشبق المستحيل.
يا روح الكلمة: أحبك.
تحضر الكلمة كالقدر الذي لا مفك منه، وتسخر من البحر والخطيئة والرؤيا والتاريخ والخابية. تنظر بازدراء للمعنى وللموت وللتاريخ. تتجاهل الصحراء والحقيقة والكتب المقدسة والريح. ولا تعبأ البتة بالنار ولا بالجحيم ولا بحبل الإعدام..
يا الكلمة،
يا اللعنة،
يا ليل الروح وعاصفة الدم..
يا كل شيء حد الحب.
أرتعد على صورة الجبل الذي يحرس المدينة، وأغلي كعين الله التي لا ترمش. أعبدني كالكلمة المتمردة. أعتلي وسادة تشبه النهد المنسي، وألهث كعمر الربيع. أصير غريب الفضاء الذي مللته وملني. أمتطي فجرا ما، ليلا ما، وشما قديما ما، خصلة ما.. وأفتح باب غربة ما. وأحضرني مثل قصيدة رديئة تتحلل حد التلاشي. أعبث بي وبعشب يابس يشكل أحلام اليائسين، وأغمز لنجم تبرأ منه عمقه.
يا فتنة الكلمة: طرزي سترة أستر بها عورة هذا العبث المجنون..
لا جدوى، لا جدوى
يا الكلمة:
ما العبء؟ ما الغواية؟ ما لعنة الغياب؟ ما الهوية؟ ما الأفول؟ ما القصيدة وما الجدوى؟ وما الرفرفة؟ وما النبيذ؟ ما النهد وما القبر يضيق خناقه على أغنية؟ ما الملح يضيق بالبحر؟ وما الفراشة تشنق جناحيها؟ وما النار المسروقة؟ وما الحرب تنكث بأيامنا؟ ما الكلمة؟
يا الكلمة:
كوني رحمة لهنيهة لترمش العين وليرمي الفؤاد بالنفي المسموم. كوني شعرا يصيح في الناس ويخجل من رداءته. يا الكلمة ارسمي سرب حمام أو حقل عصافير.. كوني رحمة لهنيهة. صيري مسيح القصيدة وزيتون السلام.. لهنيهة لا غير.
يخلط كأسه بمعطف أسود قديم، ويرسم طريق مدرسته في الهواء. يحضن كراس الرياضيات ويدندن لأشجار الجنبات، ويتسلح بجنياته المجنحة.
يا الكلمة:
لم السفر لهناك؟ لم تتراقص الذاكرة؟ ولم روحي لا تكل من النزيف؟ وهذه الأشياء المسكونة باللعنة، ما بها تنهش نصف القلب أو كله ربما؟
تغرب الشمس ويكتب قصة يتلوها على مسامع أطيافه، ويبتسم للمعطف المعلق، يطفئ شمعة مرتعدة. وفي ليله المدجج بصلاة الرجل العظيم، كان ينتصر للنثر ويجامل القصائد..
يا الشعر الجحيم ويا النثر: يا جنة الوعد..
وهناك على يمينه، كانت الكلمة تسجد لسجادة الصوف، وتهذي لجسد يرسم طريقا وسط ساحة قيامة ما، وتسبح لشفتين تتمتمان بسحر الموج. ترقص كانت وتحرق أطرافها بأعواد الثقاب. كانت تقشر جلد نهديها، وتتوحد بثوب الصحراء العظيم. تحيا الكلمة لتحب وتموت من الحب. كانت كالبداية وكالنهاية. أغمض عينيه فانهمر مطر خفيف يشبه صورة بالأسود والأبيض. وكان في الفضاء المقدس، تحت شجرة الكاليبتوس، يشرب قهوته على صهوة الحريق، ويقرأ جريدة غبية جدا.
وكنت أنا المتجسد في صورة غبار زوايا الذاكرة والذكرى، الشاهد على الحج الحزين أدق على باب ولادتي، وأولد على شاكلة كلمة حب عالقة وسط بياض حضارة قديمة.
عبث،
أغنية وسفر طويل،
معول منسي،
صيف الوقت،
نرجس الهاوية..
يا الكلمة: أحبك لا تكفي.
يا لهيب القبر داخل الصدر،
يا وحيد الثنائيات،
يا يتيم الجنة،
يا عبء المؤمنين،
ويا شهوة نبي كسول.
يا حافة التوحد،
يا سليل عرس السماء،
يا جنازة الكلمة،
يا نعش القيامة ولحنها،
يا الحب حد الفناء..
أمج سيجارة الراوي، وأعتلي ربوة التجربة. أسبح في معجزة ما وأمسي سؤالا قديما. لا أعبر النهر ولا أضعف حين أمرض بالريح. وحين أستعير الجسد فلابد أن يكون جسد محارب يحمل وطنه داخل علبة السجائر. وحين أغدو لوحة فلا بد أن يكون الإطار من رخام وقرنفل وحناء. يا الكلمة: هل ضروري كل هذا التيه الحزين؟
تسرقني الهاوية الكبيرة ويواجهني السؤال: ما الكلمة؟
فضاء عظيم وفراغ أسود. لا مكان ولا زمان. لا عمر لمقايضته ولا سنبلة لأتمسك بحباتها. لا نهر ينهي جبروت هذا الأفول. لا آلة تصوير ولا كأس نبيذ. لا نار لتحرق كل شيء ولا حلم أسافر داخله. لا جدوى..
تتسرب أغنية من صدري: آسية، آسية.. وهناك في مقبرة المدينة أغرس شاهدا على قبر السؤال. أشعل سيجارتي وأمتلئ بالحياة مجددا.

* كاتب


الكاتب : يونس طير *

  

بتاريخ : 23/05/2025