الرمز وبناء المعنى في «دخان الرماد» للقاص محمد الشايب

تعد ماهية الإبداع القصصي عملة أصيلة توحد بين اللغة الرمزية والهوية الجماعية، لأن الرمز يعتبر بنية أو نسيجا مركبا تتداخل فيه المظاهر الحسية التي يعبر عنها المبدع باستعمال الصور المجازية والخيالية والإشارات والعلامات وكذا أسماء الأشياء ودلالاتها كما وجدت على طبيعتها الأولى. بيد أن مفهوم الرمز يظل غامضا ومبهما، ينبثق معناه من شموليته ولا نهائيته، ومن هنا يمكن تفسير الرمز في الإبداع القصصي وشرحه وتعليله أو إدراكه عن طريق حاسة الحدس أو التخمين. فكيف وظف القاص محمد الشايب الصور الرمزية للإفصاح عن دلالاته والتعبير عن مقاصده؟ انطلاقا من هذا الإشكال الجوهري يروم هذا المقال البحث عن استراتيجية القاص في بناء الدلالة من خلال المجموعة القصصية «دخان الرماد».

1 – الكتابة بالذات
يضع القاص محمد الشايب عبر منجزه السردي «دخان الرماد» مجموعة من الافتراضات التي تكشف عن عالمه الداخلي، ليضعها في ذهن المتلقي، فهو بهذا المعنى يحاكي الأشياء ليتأملها ويكشف النقاب عن المخفي والمستور. يقول السارد في قصة الليلة الأخيرة: «عبد السلام من القلائل الذين فتحت لهم مريم حناياها، فأطلعته على بعض حكاياتها مع الكدح والردى، وليالي الغربة الطويلة: «كنت دائما غريبة، أحس بالغربة حيثما وجدت، وأينما سرت … طويت طفولتي البائسة دون أن أعيشها، اختطفني الهم مبكرا، فغرقت في محيطه، حاولت الخروج مرارا، وأنا أسبح في اتجاه شاطئ النجاة، لكن العباب كان دائما عاليا، ودائما في ذروة هيجانه» (ص. 14).
يتضح أن المبدع يفْصِحُ بجلاء عن قبح الواقع وذمامته من خلال المعاناة والشعور بالغربة، كل هذا يدل على أن الإبداع القصصي هو الوجه البلاغي الذي به تدرك الذات المبدعة واقعها وبه تنقله، فهو ليس مجرد اختيار أسلوبي وتعبيري، بل إنه ملمح وجودي عميق وجزء من البحث في كنه الواقع المعيش ورغبة جامحة في الكشف عن الغموض الذي يطبع حياة الناس. يقول السارد في قصة حين زرت قبرك: «السبيل ما زال كما تركته سيدتي … فقط أنه زاد تكدسا بأطفال مفقودين دوما في التيه، منهم من يبيع السجائر بالتقسيط، ومنهم من يبحث عن أحذية يمسحها، وبباعة من الجنسين يجلسون على الرصيف يعرضون مواد «الكونتربوند» للبيع، ثم بعاهرات يجلسن كل مساء عارضات أنوثتهن!» (ص.6)
تسم هذا المقطع السردي ظلمة حالكة تبعث على الشعور بالألم، حتى يصح أن نقول مع فريديريك نيتشه: «إن الألم قوام الحياة، ولا يعرف الحياة من لا يعرف الألم. ولا غرو في ذلك مادام الجماد لا يشعر ألما في تفاعله، كما أن الحيوان ينسى الألم بزواله، فإن إرادة الحياة في هؤلاء خطبها يسير، أما الإنسان فخطبه كبير، لأنه إرادة شاعرة بنفسها، ومن ثمة كان كل ما يقف في طريق هذه الإرادة ويعرقلها يحدث ألما، ويترك في نفوسنا مضضا».
ولعل الإحساس بالألم والشعور بفظاعة الواقع وشدة وطأته على النفس هو الذي حفز القاص محمد الشايب على تصور واستشراف عالم أكثر كمالا من عالم الواقع، وذلك بواسطة الحلم الذي تجسده الصورة التالية من قصة متاهات: «حلمت بمنزل مؤثث، وبامرأة تحبها، وبعيش كريم، ووطن راق، من حقك أن تحلم مثل هذه الأحلام، ومن حقك أيضا أن تشيد لوحات للأمل، وتغني للآتي وأنت تبتسم … كل هذا من حقك، لكن هل يحق للحياة أن تنتزع منك كل شيء …؟ ! (ص. 21). هذا هو الحلم الذي قال عنه غاستون باشلار: «إن الحلم يضعنا في حالة الروح، هكذا في دراستنا البسيطة لأبسط الصور، يكون طموحُنا الفلسفي كبيرا، إنه إثباتٌ أن الحلمَ يمنحنا عالمَ الروح، وأن الصورةَ الشعريةَ تقدم شهادةً على روح تكشف عالمَها، العالم الذي كانت تريد العيشَ فيه». وتظهر موضوعة الحلم أيضا في قصة الليلة الأخيرة: «لن تستطيع أبدا أن تنكر أن الفقرة الأخيرة التي تحتضر الآن من عمرنا ستبقى خالدة في الذاكرة، وأن وشمها لن تقوى السنون على محوه … أعرف أن الفراق شيد نفسه بيننا قبل هذه اللحظة، لكننا ظللنا، رغم زحف الشرخ، نلتقي، ونتقابل، نتناقش، ونتجادل، ولو كصديقين فقط». (ص. 11)
ومن هنا نستخلص أن لغة «دخان الرماد» تمتح من الواقع المأزوم، فهي نوع من التجلي المفاجئ الذي يتوشح بالنقائض الظاهرة والباطنة، فتغدو تجربة القاص، عندئذ، ضربا من الخيال المستتر في الذات. ومن هذا المنظور، نجد القاص محمد الشايب يسبر أغوار العالم المادي، ليتخطاه ويمتلك أسراره ويجسده بالصورة فينفلت من شِراك الواقع وعوائق المادة لمعانقة المطلق عن طريق الكشف السردي.

2 – جمالية الرمز
يستلزم الرمز الخبرة بما تكنه المحسوسات الخارجية من جمال وعلاقات ترسم مدلولا معينا وتؤدي إلى مزيد من التفاعل بين الفن القصصي والواقع، ويكون الرمز حينها لمحة من لمحات الوجود الحقيقي، يدل عند ذوي الإحساس الواعي على شيء من المستحيل ترجمته بلغة عقلية. ومن هنا، فإن اللغة الرمزية تتميز بالروعة والقدرة على تمثيل الأشياء وتصويرها تصويرا خياليا عن طريق التمازج بين التجربة الداخلية وبين التجارب الخارجية للإنسان عامة. الأمر الذي جعل متن «دخان الرماد» يوحي بعوالم خيالية تتألف من عناصر مستخلصة من تجربتنا للعالم الحقيقي. وعلى هذا الأساس نلفي القاص محمد الشايب يتوسل في منجزه السردي بقوالب أسلوبية موروثة عن الخطاب الصوفي، ومن هذه الأساليب خاصية الجنون التي خلخلت قوى المبدعين الشعورية نتيجة الصراع بين مبدأ التخييل ومبدأ الواقع، يقول السارد: «هناك مجانين العشق، ومجانين الحرف، ومجانين بنت العنب، ومجانين أشياء أخرى، وكل وما جنى من شجرة جنونه …. ولكل مجنون أسرار تعاهد على حفظها من خطر البوح، والمجانين كالمتصوفة حينما يبوحون بأسرارهم يموتون …!! (ص. 31- 32).
إن المثير في تجربة «دخان الرماد» هو كونها تدفع الإنسان لكي يعيش أحداثها لا لكي يفهمها، ولذلك تلازم المعيش بالجنون في الحب حسب هذه التجربة الإبداعية. وقد كان ابن عربي أشد وعيا بهذا التلازم حينما اعتبر أن المحب يتميز بلسان لا يتكلم به إلا المجنون. وما يجب لفت الانتباه إليه هو أن الرمز الصوفي نشأ لدى المتصوفة بسبب الحملة التي شنَّها عليهم الفقهاء، فأصبح الأسلوب الرمزي قناعا يسترون به الأمور التي رغبوا في كتمانها عن العامة من الناس، وعن الفقهاء. حيث أن للمتصوفة لغة خاصة، اتفقوا عليها في ما بينهم لكونها تعبر عن أسرار وحقائق ذوقية، ويخافون أن تشيع بين من ليسوا أهلا لها. فاعتمدوا على التلويح الذي لا يفهمه إلا من كان صاحب ذوق، نافذ البصيرة، دقيق الشعور. لأن الإشارة فيها من اللطف ما يجعلها تتسع لأكثر ما تتسع له العبارة من المعاني. وبذلك غدت اللغة الصوفية تأخذ طابع الاختزال والتكثيف، وتكتفي باللمحة والإشارة. والعلة في ذلك، تتجلى في كون طبيعة اللغة العادية وأدواتها التعبيرية غير قادرة –في نظر المتصوفة- على استيعاب التجربة الصوفية والنفاذ إلى جوهرها في حال استعمالها دون اللجوء إلى الخرق الأسلوبي. وتبعا لهذا كله نجد السرد ينسج خيوطه لبناء المعنى فينسجم السارد في حوار مع الليلة التي تتمرد على جميع الصفات:
– سأحكيك على كل حال … !!
– سيعجز الحكي عن احتوائي، وأخشى أن يقدمني للقارئ المسكين ليلة ككل الليالي …
– سأحكي مهما كلفني ذلك من عناء وسهر، وعصر للدماغ … !!
– أفضل أن تبتعد عني، وتبحث لك عن ليلة غيري، فأنا محيط، وجحيم، ورقصة غجرية، أحداثي تنبع من الغربة، وتصب في الجرح، وشخصياتي، وإن كانت من ورق، فهي ليست كشخصيات كل القصص، والرحيل إليها ملفوف بالمخاطر». (ص: 29)
ينفتح هذا المقطع السردي على مشهد حواري بين السارد والليلة التي تسمو على كل الليالي؛ إذ يستدعي القاص محمد الشايب رمزية الزمن تعبيرا عن استراتيجية الحكي في معظم قصصه التي تحفز المتلقي على التوسل بآليات التأويل لاستكناه دلالاتها واستخلاص مقوماتها الأسلوبية. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن نصوص القاص عبارة عن محيط عميق، يستدعي من القارئ التأني عند السباحة النقدية لسبر أغواره، وهي جحيم لمن لا يمتلك الأسس المنهجية الحديثة للتفاعل معها، ورقصة غجرية تتسم بالغواية السردية الباعثة على الشعور بلذة النص بتعبير رولان بارت، أحداثها غريبة تكسر البنية النمطية للسرد النمطي التقليدي، وتصب في الجرح إفصاحا عن الذات المتشظية والمقهورة في العالم المعاصر، وشخصياتها ليست كباقي الشخصيات المألوفة في القصة المعاصرة، فأغلبها شخصيات مستلهمة من التراث الديني، الأسطوري، الرمزي والواقعي، بيد أن الرحيل إليها محفوف بالمخاطر. والمقصود، هنا، الرحيل الذي يعلو على المكان الملموس ليعرِّج على أمكنة متوارية في الذاكرة والوجدان، والبحث المتواصل عن جوهر الكون الذي جعل شعاره الوجودي قول جمال الغيطاني: «يا خَوفِي أن أكون مغرما بالبعيد».

على سبيل الختم
استنادا إلى ما سبق ذكره، نستخلص أن قصص محمد الشايب تحث على فعل القراءة الخلاق، ترسيخا لجدلية الإنتاج والتلقي، لأن القراءة هي نوع من الوعي في حركة دؤوبة وأن النص بنية لمظاهر خطاطية يجب على القارئ تحيينها أو تحقيقها، فهو يسعى ليس فقط إلى توضيح كيف ينتج المعنى، بل أيضا إلى توضيح تأثيرات الأدب على القارئ. وإجمالا، نستطيع القول إن قصص «دخان الرماد» تعد تجربة إبداعية تنقل انفعالات القاص ومواقفَه إلى الآخرين، وذلك بالاعتماد على قوة التصوير والتمثيل والإيحاء، ولذلك تتعدد الألفاظ والصور والأساليب بتعدد المواقف والانفعالات.


الكاتب : عز الدين المعتصم

  

بتاريخ : 13/04/2021

أخبار مرتبطة

  على الرّغم من أن رولان بارثRoland Barthes، منذ أواسط ستينات القرن الماضي، أي في مرحلته البنيوية، كان قد أعلن

  الرواية الأولى كانت حلمٌا جميلا في البداية، ولكن ما إن صحوت منه حتى تحول إلى كابوس يقض المضجع، يسرق

ندوة حول «التاريخ وقيم المواطنة» بكلية الآداب بالمحمدية تنظم الجمعية المغربية للمعرفة التاريخية، بشراكة مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *