صدر عن دار النشر آرماتان (L’Harmattan ) السنة الماضية، كتاب جديد باللغة الفرنسية موسوم بإعادة كتابة التاريخ في الرواية المغربية المعاصرة باللغة الفرنسية لعبد الرحمن القادري، وهو أستاذ محاضر متخصص في الآداب الفرنسية، باحث وكاتب مغربي.
استهل هذا العمل الذي زانت به مكتبتنا الوطنية الأديب والمؤرخ فؤاد العروي، بينما الغلاف فكان عبارة عن لوحة للفنان التشكيلي عبد اللطيف بكوس، والكتاب يقع في 313 صفحة وهو عبارة دراسة معمقة حول كيفية إعادة تفسير وكتابة التاريخ من قبل الكتّاب المغاربة مثل فؤاد العروي، عمر منير، كبير مصطفى عمي وأحمد برحو،في رواياتهم المكتوبة باللغة الفرنسية. اذ يطرح هذا العمل المواضيع التاريخية والثقافية والهوياتية، بالإضافة إلى كيفية استخدام هؤلاء الروائيين للخيال لإعادة النظر في السرديات التاريخية الرسمية ومناقشتها بموضوعية،واكتشاف التاريخ من خلال السرد ورصد التمثلات حولها بحيث لا يتم الاقتصار على السرد وإنما محاولة فهم الحاضر على ضوء الماضي.
يعتبر حضور الجانب التاريخي، لاسيما الذي يعود إلى الفترة الكولونيالية ضمن أحداث الرواية التاريخية المغربية المعاصرة، إجراء يبين التزام جيل الروائيين المغاربة الجدد أدبيا في هذا المضمار، وان كانت محاولات ضمنية فمن شأنها إحداث فرق، لاسيما وأن سرديات المقررات المدرسية تفتح الباب أمام التشكيك في التأريخ الرسمي بل واعتباره مشوبا بالنقص والأغلاط . ومنه فالرجوع إلى هذه الفترة من التاريخ المعاصر وتوظيف أحداثه داخل الحبكة السردية من شأنه أن يبرز بشكل أوتوماتيكي مواقف أصحابها من جهة والعمل على إشراك القارئ أيضًا في التأمل في هذا التاريخ من جهة أخرى وطرح تساؤلات. وهذا الالتزام الأدبي لأدبائنا المغاربة ظهر من خلال التعبير عن مناهضة الاستعمار. ونقده من خلال استغلال حيز مهم في نصوصهم لدرجة أنه أصبح موضوعًا متكررًا يتخطى المرويات المعروفة التي تعكس التوجهات الأيديولوجية التقليدية، وبالتالي فإن موقفهم اتجاه هذه القضية كان بمثابة إسهام في إعادة كتابة التاريخ المغربي بشكل غير مباشر.
عرفت الرواية المغربية المعاصرة المكتوبة باللغة الفرنسية خلال العشرين سنة الاخيرة عودة هائلة إلى التاريخ، لاسيما تناولهم الشخصيات المثيرة للجدل مثل بوحمارة، أحمد الريسوني وعبد الكريم الخطابي وغيرهم… في إطار الخروج بهم من التهم التي ألصقت بهم من قبيل العمالة والخيانة والخروج على السلطان، على اعتبار أنها روايات أحادية، أغلبها أحكام قيمة صادرة من المستعمر نفسه.
تناول عبد الرحمن القادري في عمله إعادة كتابة التاريخ في الأعمال الأدبية كنوع من الالتزام الأدبي الذي سلف ذكره، مشيرا إلى العديد من التعبيرات مثل«الأدب الملتزم»، «الكاتب الملتزم» وحتّى «الرواية الملتزمة» وهي مصطلحات يستخدمها عادة النقاد في هذا المضمار لمحاولة فهم وتحليل مفهوم الالتزام الأدبي ، مبرزا الاهتمام الكبير الذي يوليه النقد لهذه الفكرة في حد ذاتها، فعندما يتعلق الأمر بـالكاتب الملتزم فنحن نتحدث عن شخص قادر على اتخاذ موقف بشكل علني وتحمل تبعاته، لأنه دون شك موقف يتخذه الكاتب تجاه الواقع ويعبر عنه بوضوح من خلال أعماله.
فجان بول سارتر الذي يُعتبر من أوائل المنظرين للالتزام الأدبي بعد الحرب العالمية الثانية، يعرف الكاتب الملتزم بأنه القادر على التحول من العفوي إلى الواعي، وانطلاقا من هذا المنظور، يعتبر الكاتب الملتزم فاعلاً في عمل ينطوي على التزام يجب أن يُفهم كرد فعل على وضع معين. ويُطلب من الكاتب اتخاذ قرار بدعم أو رفض لهذا الوضع. وهنا تكمن أهمية هذا العمل إذ يعتبر مساهمة مهمة في فهم الأدب المغربي المعاصر وعلاقته بالتاريخ. وقبل التطرق الى نماذج من أعمال الروائيين المغاربة فإن القادري انطلق من العام الى الخاص، من خلال التوسع في مفهوم الالتزام الأدبي وارتباطه بالحدث التاريخي من خلال استعراض مواقف مجموعة من المفكرين واللغويين، وقد اتفق مع البعض واختلف مع البعض الأخر. وبهذا الأسلوب فقد جعل القارئ أمام جميع الآراء دون الانحياز الى جهة معينة، إذ اعتبر ألان روب (أن مفهوم الالتزام قديم عفا عنه الزمن ، في حين أنه يتجدد باستمرار وذلك استنادا إلى دراسة بنوا دوني الذي جعل الالتزام الأدبي ثابتا نظرا لخضوعه للابتكار الدائم فهو دائما فكرة متجددة، ويؤكد في كتابه الالتزام من باسكال إلى سارتر أن كل عمل أدبي يحمل جانبا من الالتزام، وحتى رفض الالتزام مت طرف الكاتب يعتبر شكلا من أشكال الالتزام، فلا يوجد كاتب لا ينسب لعمله هدفا معينا سواء بوعي أو دون وعي، فالالتزام كممارسة أدبية ينبغي دراستها من الناحية الجمالية والخطابية مع التركيز على الخطاب الذي يعرض الطريقة التي يؤثر بها الأدب في الحياة الاجتماعية، ومنه فالكاتب الملتزم يعكس التزامه من خلال أعماله التي تكون مرآة للعلاقة التي تقيمها الآداب مع السياسة والمجتمع بصفة عامة لأن العمل الأدبي هو تورط بشكل من الأشكال في القضايا السياسية والأيديولوجية. وبالمناسبة فإن القادري في كتابه قد انفتح في عمله على مجموعة من المناهج التي يوظفها عادة الأدباء كالمنهج الشكلي، أو ما يُعرف أحيانًا بالمنهج اللغوي في بعض المصادر الأدبية، هو المنهج الذي يعتمد على اللغة باعتبارها المادة الأساسية للأدب.في حين اعتبرت دومينيك فيارت أن الكتاب المعاصرين يلتزمون بشكل أوتوماتيكي حتى ولو لم ينتجوا روايات ذات قضايا محددة وواضحة. وحسب سيلڤيسيرڤوا، فإن تجربة الحرب ومقاومة الاحتلال لعبت دورا حاسمًا في تطور ومصير الالتزام الأدبي. بينما سابيروا جيزيل فترى أن فترات الأزمات الوطنية هي التي تعزز فرض وجهة نظر أخلاقية تضع الكاتب على المحك، مثل الثورات، الحروب الأهلية وأزمة التطرف الديني.
إن الأدب الملتزم تاريخيا مرتبط بالسياقات السياسية التي تلت الحرب العالمية الثانية، وهو في الوقت ذاته استمرارية للنقاش الذي بدأ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ويتجلى عموما في ارتباطه الوثيق بفهم معين للزمن والتاريخ، أي أنه ذو بعد تاريخي بالدرجة الأولى.
الالتزام في الرواية المغربية والطعن في النسخة الرسمية من التاريخ
يمكن القول إن الكتاب المغاربة من الجيل الجديد، لاسيما فؤاد العروي، عمر منير، كبير مصطفى عمي وأحمد برحو، عملوا جميعا على إعادة النظر في تاريخ فترة الحماية الذي يعتبر تاريخا رسميا، بحيث التزموا بمناهضة الفكر الاستعماري مثل فرانتز فانون و إيميه سيزير و البير ميمي .ومن المهم الإشارة إلى أن الكفاح المناهض للاستعمار لدى هؤلاء الأخيرين يُنظر إليه كمشروع من أجل التحرير، بينما يتمثل النضال لدى كتابنا المغاربة في رفض الخطاب الاستعماري. فقد أبرزت كتاباتهم في رواياتهم المعاصرة ضرورة إعادة كتابة تاريخ المغرب، خاصة تلك الفصول التاريخية التي تم تهميشها أو تشويهها.وهكذا، فإن كتابة التاريخ بالنسبة لهم تتضمن طرح التساؤلات انطلاقا من تفكيك الأحداث الماضية بغية تقديم سرد موازٍ يعيد الاعتبار للشخصيات والوقائع التي تجاهلها التاريخ العام.وهذا الجهد عادة يعتبر ضمنًيا من بصمات الالتزام الأدبي. بحيث أن هذه المواقف السياسية والأيديولوجية لا يُعبر عنها بشكل مباشر، إذ يتوجب علينا أن نبحث عنها بين طيات حوار الشخوص، وبين السطور لاكتشافها.غير أن الروائيين المغاربة أفصحوا عن التزامهم اتجاه إعادة كتابة تاريخ فترة “الحماية” بشكل مباشر وصريح .
يعد مؤتمر الجزيرة الخضراء{ 16 يناير 1906} حدثًا مفصليا تم تناوله في أعمال المؤلفين الذين تناولهم صاحب الكتاب لأنه يمثل انتقال المغرب من وضعية الحر، المستقل، والمغلق أمام الأجانب، إلى وضعية الضعيف بفعل الديون التي أثقلت كاهله، وبالتالي أصبح قابلا للاستعمار بكل سهولة. ولا يُعد هذا الحدث الوحيد الذي يسلط الضوء على مناهضة الاستعمار في نظرهم، فهناك أحداث أخرى مثل الانتفاضات ضد المستعمر التي تلت توقيع معاهدة الحماية (كفاح أحمد الهيبة والقايد أنفلوس، أحداث فاس…)، حرب الريف، والاضطرابات الشعبية بعد الترويج للظهير البربري… كلها تشهد على التزامهم بموقف موحد وهو مناهضة الاستعمار والرواية التاريخية الرسمية الموازية له.
يعتبر فؤاد العروي من المؤلفين الذين يحملون قضية، ويلتزمون بها حتى اليوم، من خلال انخراطهم في الحياة العامة والسياسية على وجه الخصوص، و من خلال سرد تجاربهم، فقد أكد دائمًا في أعماله على ضرورة “إعادة كتابة تاريخ القرن العشرين، بشجاعة وطموح لدمج جميع الروايات التاريخية، لأن الصراعات في العالم المعاصر تنشأ عادة من الجهل المتعمد أو التعتيم على الأحداث التاريخية التي شكلت العالم الذي نعيش فيه حاليا، وذلك راجع الى عدم معرفة التاريخ، أو بالأحرى معرفة تاريخ المنتصرين فقط، معتبرا أن مؤتمر الجزيرة الخضراء أحد أسس الاستعمار، الشئ الذي ظهر بوضوح حين انتقد بسخرية القوى الاستعمارية المشاركة في هذا المحفل :” فإن هذا المؤتمر لم يكن سوى لحظة من تبادل المصالح العالمية التي كان يُسعى اليها منذ سنوات. شهية طيبة، سادة!».
تناول عمر منير نص إعلان مؤتمر الجزيرة الخضراء واصفا إياه بالرهيب ، مقابل انتقاد المخزن الذي قبل بنود هذه المعاهدة. والاقتراضات التي قام بها السلطان عبد العزيز كسبب حقيقي ورط البلاد في الاستعمار وفتحها أمام القوى الجشعة. فالمغرب الذي وقع معاهدة الجزيرة الخضراء كان في حالة استسلام. قلمه لم يعد له. وتوقيعه لا يلزم المغاربة الذين كان لهم الحق في التمرد؛ فقد كانوا أخلاقيًا وقانونيًا مخولين للقيام بذلك مستدلا ببو حمارة و أحمد الريسوني.
وفي السياق ذاته، هاجم أحمد برحو “صانعي التاريخ الرسمي” باختياره إحياء أسطورة الريف في روايته “عبد الكريم وأسباب إعلان جمهورية الريف”، مما يبرز شكلًا من أشكال الالتزام، وفقًا لنجيب رضوان، الذي اعتبر أن هذا العمل يعتبر موقفًا مباشرًا من الكاتب، وعملًا من الالتزام والتحدي الموجه إلى صانعي التاريخ الرسمي في المغرب الذين أخفوا عمدًا جزءا من الحقيقة التاريخية، اذ يعيد الكاتب أحمد برحو إحياء شخصية عبد الكريم، وهي شخصية رئيسية في تاريخ الريف لم تحظَ في تاريخ المملكة إلا بمكانة ضيقة لها، حيث زُعم أنه تمرد ضد السلطان بإعلان جمهورية الريف (1921-1926). وضد هذه التزويرات، يقوم أحمد برحو بإعادة كتابة التاريخ محاولًا تبرئة البطل-الشخصية من خلال استعراض السياق التاريخي لحال المغرب سياسيا آنذاك.وذكر أيضًا مؤتمر الجزيرة الخضراء، حيث يُعتبر الحدث الذي دفع العلماء للتمرد ضد السلطان عبد العزيز وإجباره على التنازل لصالح شقيقه عبد الحفيظ نظرا للامتيازات التي منحت على عهده للدول الأوروبية للتدخل في الشؤون الداخلية للمغرب، خاصة فرنسا وإسبانيا.
يمكن للقارئ أن يستخلص من كتاب عبد الرحمن القادري “إعادة كتابة التاريخ في الرواية المغربية المعاصرة باللغة الفرنسية”أن الأدباء المغاربة الفرنكفونيين لاسيما فؤاد العروي، عمر منير، كبير مصطفى عمي وأحمد برحو، قد اشتغلوا بالموازاة مع المؤرخين الساعين الى إعادة كتابة التاريخ المغربي وفق تصور بعيد عن النزعة الكولونياليةم ع اختلاف الرؤى، إذ هناك تيار ناهض ترسيخ فكرة أن المغرب مفعول به وليس فاعلا في الأحداث ولا حضارة له إلا مع الوافدين، ولعل أو لما تم تأويله بشكل غير صحيح في هذا المضمار جاء معر حلة حانون وبعدها الأدبيات الرومانية منذ احراق قرطاج وصولا الى مقتل الملك بطليموس، ومنه دعت الضرورة الى الانفتاح على الأركيولوجيا، وتيار ثان عاب تغييب شخوص فاعلة في التاريخ الرسمي المحلي كانت لها أدوار مفصلية في التاريخ لاسيما المعاصر لصالح أخرى بل وتخوينها أحيانا، الشيء الذي حفز مقاربة النصوص والوثائق لرصد مكامن الخلل والتناقض، منذ توقيع المعاهدة التجارية 1856، مرورا بمؤتمر الجزيرة الخضراء وصولا الى حرب الريف 1925 ثم الظهير البربري 1930.
عموما، فإن إعادة كتابة التاريخ الرسمي يعد عملا تكامليا وضرورة ملحة سواء كان مع التيار الأول أو الثاني. وحسب القادري فإن هذا المشروع الروائي موصى به من قبل المؤرخين مثل جاك لوغوف الذي يرى بأنه علينا أن نسائل الوثائق التاريخية عن نواقصها، ونتساءل عن النسيان والثغرات والفراغات في التاريخ. كما يجب أن نقوم بجرد أرشيفات الصمت، وأن نصنع التاريخ من الوثائق وغياب الوثائق.