«الرّاقص بساق في الأغلال» للشاعر زاهر السالمي: مزاج شعريٌّ قلق يهوي بمطرقة النثر في سطر القصيدة

عمل ينسفُ ويبني، وينتصرُ ضد البلاغة للقصيدة بالنثر في أفقٍ مغاير وتناول لأشياء العالم بكثير من السخرية، من الحكمة، من النوستالجيا والجنون

بعد المجموعتين الشعريتين: «عبوة ناسفة» 2007 ، وقناص في مضيق» 2014، صدرت المجموعة الثالثة «الراقص بساق في الأغلال» للشاعر والمترجم العماني زاهر السالمي،في العام الماضي 2023 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. وتقع في 64 صفحة.
يسقطُ العنوان إلى فوق، من باطن المجموعة، وهو يحيل في معناه المباشر على مضامينها الخبيئة. ويتصدر الديوان مقطع من قصيدة «وطن ثقيل» للشاعر الأمريكي جون آشبري. لم يكن اختيار هذا الاستهلال لقصيدة شاعر إشكاليّ ملتبس مثل آشبري عتبة فقط للقراءة، بل هي تحوّط كل قراءة، حيث يعترضنا سؤالُ القصيدة معنى ومبنى من كلّ الجهات. فلا يمكن بسهولة، تقليب الصفحة دون أن يتصلّبُ العقل الذي اعتاد أن يبقى حبيس إطار محدّد يرسم حدوداً للأجناس الكتابية. فنحن إزاء خطوط تتقاطعُ بين النثرية الحرّة إلى أقاصي التضاد، وبين الجملة التي تشبه بيدق شطرنج مختزل، بالرمزية والطاقة المكثفة، والحركة المفاجئة. إنّما أحيانا، تأكل الجملة نفسها كما لو أنّها تُقاس على ما قبل الكلام. أو تتميماً صامتاً لما بعده.
ثمة وصفٌ يسترسل غالباً في صدر كثير من نصوص هذه الأضمومة الشّعرية، وصف كثير مفتوح، ويكاد لا ينتهي. حدث فآخر، وآخر. بسردٍ كحلقات السلسلة. حيث يضعنا الشاعر في صور الأمكنة المفتوحة والمغلقة بانفعالات شعورية، غالبا لتمثّلِ الطبيعة العمانية وجغرافيتها المتعدّدة. أحيانا ما تكون فاتحة القصائد، الإطار حيث المحكيُّ، والمُتأمّلُ، والرّمزيُّ.
نقرأ كمثال على ذلك من قصيدة: أزرق في الصفحة 53:
هل كانت تشرع ذراعيها للبحر، أم أنها تدعوك
لتطلّ على الميناء الأسطوري من شرفة
مقصورتها الذهبية!
واجهات قوسية، سقوف أسطوانية، نقوشٌ
قرميدٌ، خيول عربية
بيبي مريم* صاعدةً فوق جرف بحري
إلى المدينة الأثرية، ومن تحتها تجري الأنهارُ
سلسبيل أباريق عروق الأرض تفيضُ
طيف ألوان يتوهج
شغف الجدران حجر مسكون بالمرجان
حجر كريم في اليد المأخوذة بالتمائم
حجر صقيل في القصر المأهول بالأحجار
حجر في مقلاع صبيّ
والعقارب تدور في ذات الدائرة المغلقة…
تتراكم كهذه الأحجار أبعاد كثيرة ودلالات متعدّدة في القصيدة الواحدة. فتشعر وكأن النّص على وشك أن ينفجر. إنها قصيدة مشحونة، ومتوتّرة. فيما يسعُ سرير النّص المفتوح، الزواج بين النثر والشّعر، ليستوعب كل هذا الزّخم الدلالي والتداخل الصوتي وتركيب الصور.
لا بدّ أن نشير هنا، إلى تلك النثرية المتعمّدة للإمعان في كسر إيقاع النّص بجرأة غير معهودة، وفي خلق طاقة سلبية ممانعة متنافرة مع الإيقاع الداخلي الذي غالبا ما يسعى الشعراء إلى إحكام عناصره مثل: “هناك دراسات تؤكد أن الحصول على رسام أو ممثل أو راقص..” ص، 44”/ ممّا يجعلنا مواطنين أكثر إنتاجية ص 44، / “تقول الإحصائيات بخصوص ذلك الفعل” ص 46/ كانت ردة فعله غريبة بعض الشيء ! ص 43
تتجاور هذه النثرية السلبية المتعمّدة (وإن كانت في هذه الأمثلة تحديداً مجرّد اقتباسات منصهرة كمعدن في فرن التحويل عن رواية «هيا نشتري شاعرا» للكاتب البرتغالي أفونسو كروش) مع إيجابية الكلمة الشّعرية المختزلة، والمضغوطة بشدّة في مجازٍ محكم الصورة كما في هذين السطرين:
لكن ماذا لو كانت الطفولة عربة عرجاء
مصابة بهزات كوكبية في متوالية حمض نووي ! ص 30
هذا الانسكاب الذي يمتلك القدرة على التحوّل بليونة من أفق أسلوبي لآخر، وعلى سبك المعنى، وحفر أخاديد للكلام في اتجاهات شتّى، يتجمّعُ في بؤرة واحدة حين نركّزُ انتباهنا جيّداً، في بطء القراءة، وتدويرها من جديد. إن قصيدة زاهر السالمي تفرضُ هذه العودة من جديد في كلّ مرّة. إنها ليست مباشرة رغم هذا الإغواء المسترسل.
لا شكّ أنّ فضاء الديوان تشغله مطرقة نثرية هائلة تهوي بقسوة شديدة لتحطيم الغنائية الشّعرية وتشتيتها قطعا حادة، ناهيك عن نسف البلاغة. وهذا ما يكسب التجربة ملمساً تجريبيا آخر لقصيدة النثر أو القصيدة بالنثر.
وبعيدا عن الشّكل، قريبا منه في آن، ثمة ما يبرّرُ هذه القسوة؛ إنها الدفقة التعبيرية التي تريد أن توسّع المساحة إلى أبعد ما يمكن. وكأن القصيدة تُكتب بأكثر من يد، ممّا يجعل الفضاء مع ذلك مزدحماً، مأهولا بالأصوات والصور. مُتدّفقا بالفكر، الذي يمرُّ خاطفا كومضة. أحيانا نلمسُ بسبب ذلك سريالية هجينة، تُعدِّدُ التأويل أو تحرمنا منه.
المراكب مدرّعة بالخوص
غرق بدائيّ
تحت مطرقة جوقة كلاسيكية.
ربع خال تفتّق حلمة، يمّم بعيداً
هكذا ترنّح عجوز فوق حمار الضحك؛ ص54، من قصيدة أزرق.
إلى أن يعرّج النص على انحناءة حانية، بعد سطور قليلة من هدير بحريّ من الوصف المركّب:
صهْ؛ هل تسمع؟
صفير ناعم وبحر يعوم
مُدغدغا صندوق الحكايات في رأس سلطعون
يتريّض فجراً.
من ذلك الرأس، رأس الحدّ
تطلع شمس والنائمُ فوق أرجوحة بحرية
يستيقظ وفي رأسه حورية بحر.
سيليكون منثور يتراقصُ، زبد موج بيرة
مُبرّدة يلطمُ مؤخرة الصيف،
سرب نوارس في إثر سرب سردين مهاجرٍ… ص 56 من قصيدة أزرق.
يجمع الشاعر في هذه القصيدة الطويلة عن البحر التي تشغل تسع صفحات بقبضة واحدة الحالة التصويرية، والوصفية، كما بين البُعد الأسطوري والتاريخي والشعبيّ، والتمثل الذاتي والجماعي. تتعانق الصور المتباعدة في معنى شفيف، يطوّع الكلمات للسرد والوصف، المجاز والإيجاز والتقطيع، الاكتمال مع النقصان.
ورغم ما تؤثثه قصيدة زاهر السالمي من لعب مبتكر في الفضاء كطبيعة وجغرافيا وتاريخ وخيال واقتباسات وأمكنة وزوايا تصويرية متعدّدة، فإنها ليست بعيدة عن ملامسة برودة الحاضر الذي يشبع الفكر بالألم الوجودي، (حيث ضياع الإنسان الحديث في متاهة خرقاء رسمتها النيولبرالية في عصرنا الحالي) بل تلامس الواقع وتعجنه من خلال توليد وجوه ممكنة ومتعدّدة فيه، قد تكون متخفيّة أحيانا. الجانب اللامرئي من المرئي البديهي. ودائما ما يظهر الإنسان في هذه المعادلة مهزوماً، ومنكسراً.
إذن هو يكتب قصيدة حديثة !
ربّما؛ الحداثة عصرية،
تجدها في كل سطح مضاء بتيّار
زمن كثيف
والتاريخ؟ رقم مجرّد
الإنسان رقم غير مجرّد
في عصرنا شركات تجارية تصفّه الآن على الأرفف وترعاه ! ص 41.
نجد في كل ناحية من مجموعة «الراقص بساق في الأغلال»، رقصّا شعريا متحرّراً من كل قيد، يتوزّعُ بين القصيدة القطعة، المقتضبة، كالومضة. وبين القصيدة التي تتعاقبُ فيها عربات السرد المحمّلة بجهات وأقاليم قصيّة من هواجس صاحبها وذاكرته وأحلامه. عمل يقارب التجريد في مظهره، دون أن يتخلّى عن توازنه كرؤيا شعرية كثيفة ومنتقمة. تجمع الأضداد والأقطاب، حيث المناخ فيها متقلّب، وعلب السّرد متداخلة ومركّبة. عمل ينسفُ ويبني، وينتصرُ ضد البلاغة للقصيدة بالنثر. في أفقٍ مغاير وتناول لأشياء العالم بكثير من السخرية، من الحكمة، من النوستالجيا والجنون.

* معلم شهير في مدينة قلهات الأثرية على بعد 20 كلم من مدينة صور العمانية.

* شاعر وكاتب من المغرب


الكاتب : منير الإدريسي

  

بتاريخ : 23/08/2024