محتوى اللاّشعور هو في الوقت نفسه الأكثر إبهاماً والأكثر ألفة، الأكثر خفاءً والأكثر قسريّة وجبريّة وفردانيّة ومفاجأة، وهو الّذي يولد الحصر الأكثر وحشية كما يولد الأمل الأكبر. وهو غير محدد بزمان ومكان أو تتابع منطقي من الأحداث كما هو الحال في حياتنا الواعية. ودون أن ننتبه، يقودنا اللاّشعور إلى الأزمنة الأكثر قدماً في حياتنا، وهكذا يبدو التَّموضع الغريب أو البعيد جدّاً في الزّمان والمكان، والذي هو مع ذلك أليف جداً. إنّه موضع يُعاد تأليفه باستمرار وإن كان الأمر يتمّ بلغة لم نعد نألفها، إنّها الرموز التي تحملنا إليها الحكايات الشَّعبيّة والأساطير ومن خلفهما الأحلام. إنّها رحلة للنفس في مهاوي مملكة اللاَّشعور. ذلك أنّه، وفقاً لـ”لاكان”، من المستحيل أن “نقول كلّ شيء” لأنّ الكلمات تعجز في النّهاية.
إنَّ تجارب العقل البشري (كوعي ناتج عن أسباب بيولوجيَّة وسيكولوجيّة) تشكّل الجزء الأهمّ والأبرز من تاريخ الفرد كوحدة متفردة سيكولوجياً، وجزء من منظومة متفردة بيولوجياً عبر التَّطور التّاريخي الاجتماعي، وكما يمثل الجسم البشري متحفاً كاملاً للأعضاء، لكلّ عضو فيه تاريخ تطوّري طويل يجره خلفه، كذلك علينا أن نتوقَّع أنَّ العقل مكون بطريقة مماثلة. إذ لا يمكن أن يكون ناتجاً بلا تاريخ إلاَّ إذا كان الجسم الذي يحتويه كذلك. والتّاريخ يقصد به هنا أن العقل يكوّن نفسه بالرُّجوع الواعي – أو اللاَّواعي- إلى الماضي من خلال اللغة والموروثات الثَّقافيَّة الأخرى، بالإضافة إلى التّطور البيولوجي واللاَّشعوري، وذلك التّطور ما قبل التَّاريخي الَّذي مر به الإنسان القديم، والَّذي كانت نفسه ما تزال قريبة من نفس الحيوان. هذه النّفس الموغلة في القدم هي الَّتي تشكّل أساس لا يمكن إغفاله من عقلنا. ويبدو أن ما ندعوه بالوعي، قد حافظ على بعض الخصائص البدائيّة الَّتي شكلت جزء من العقل الأصلي. ولهذه الخصائص بالذَّات ترجع رموز الأحلام الفرديّة، والأساطير والحكايات الجمعيّة، وتشير باستمرار كما لو كان اللاَّوعي يسعى لاستعادة الأشياء القديمة كلها، تلك الّتي يتحرّر منها العقل أثناء تطوره – أي الأوهام والأخيلة، أشكال التّفكير القديمة، الغرائز الأساسيّة… وهلم جراً من العوالم الّتي تشكل المحتوى الأساسي لما يدعى (اللاّشعور).
إنّ محتوى اللاّشعور هو في الوقت نفسه الأكثر إبهاماً والأكثر ألفة، الأكثر خفاءً والأكثر قسريّة وجبريّة وفردانيّة ومفاجأة، وهو الّذي يولد الحصر الأكثر وحشية كما يولد الأمل الأكبر. وهو غير محدد بزمان ومكان أو تتابع منطقي من الأحداث كما هو الحال في حياتنا الواعية. ودون أن ننتبه، يقودنا اللاّشعور إلى الأزمنة الأكثر قدماً في حياتنا، وهكذا يبدو التَّموضع الغريب أو البعيد جدّاً في الزّمان والمكان، والذي هو مع ذلك أليف جداً. إنّه موضع يُعاد تأليفه باستمرار وإن كان الأمر يتمّ بلغة لم نعد نألفها، إنّها الرموز التي تحملنا إليها الحكايات الشَّعبيّة والأساطير ومن خلفهما الأحلام. إنّها رحلة للنفس في مهاوي مملكة اللاَّشعور. ذلك أنّه، وفقاً لـ”لاكان”، من المستحيل أن “نقول كلّ شيء” لأنّ الكلمات تعجز في النّهاية. ويتعرف رايموند ويليامز على جانب من هذا العجز، فيما يسمّيه الانزلاق باتّجاه الفعل الماضي في التَّحليل الثّقافي، وباتجاه ما يسميه” الأشكال الثّابتة للفهم، فتعقيدات الحاضر تقاوم المقولات اّلتي نستخدمها لفهمها.[4] لذلك يبدو الرَّمز في الحلم كما الفكر الميتافيزيقي، تكثيف لعدّة معاني في صورة واحدة.
لغة غير مألوفة
بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، نشعر كلّ الشعور بأن الأحلام، كما الأساطير، سواء أكانت موضع تجاهل أو إزدراء أو احترام، تنتمي إلى عالم لا علاقة له إطلاقاً بفكرنا المنطقي. إذ نجد في الواقع أنّ بعض الأحلام تشبه الأساطير سواء من حيث شكلها أو من حيث محتواها، وإذا كنا نعتبر في حياة اليقظة أنّهما طائفتان متباعدتان لا علاقة لإحداهما بالأخرى، فإنّ ذلك لا يحول بيننا وبين أن نبتدع، أثناء حياة النوم، مثل هذه النَّواتج الّتي تشبه الأساطير، ففي الأسطورة نجد أحداثاً دراماتيكّية لا يمكن أن تحصل في عالم يخضع لقوانين الزّمان والمكان، نجد بطلاً يموت ويحيًّا، وطائراً أسطورياً يحترق ويولد من رماده، وطبيعي أن تكون الشّعوب المختلفة قد ابتدعت أساطير مختلفة تعود إلى جذر سيكولوجي واحد، هو صدمة الوعي بالعالم وقلق التعامل مع أحداث مجهولة، مثلما أنّ الأشخاص المختلفين يبصرون أحلاماً مختلفة. وإن كان هناك علاقة تجمع بين التّصورين، نجده في اللغة التي تعبر عنهما كليهما، اللّغة الرمزيَّة. والواقع أنّ الأحلام والأساطير تشكلان رسائل هامة ترسلها ذواتنا إلى ذواتنا. فإذا كنّا لا نفهم تلك اللغة الّتي كتبت بها، فلا بد أن تنشأ ثغرة هائلة و فاغرة في صلب عالم الأشياء التي نعرفها والّتي نتحدث عنها طيلة تلك الساعات الّتي نعلّق خلالها تعاملنا مع العالم الخارجي.
ولتوضيح الأمر لا بدَّ أنّ نميز بين الإشارة والرمز. فالإشارة هي دائماً أقل من المفهوم الّذي تمثله، في حين أن الرمز يمثل دائماً ما هو أكثر من معناه الواضح والمباشر. كما أن الرموز هي نتاج الطبيعة والعفوية، إذ ما من عبقري وضع قلماً أو فرشاة في يده ثم قال ”الآن سأبتكر رمزاً” وما من أحد يتوصل إلى فكرة عقلانية تقريباً عقب استنتاج منطقي أو نية مقصودة ثم يعطيها صيغة رمزية. فمهما تكن الأشراك الخيالية الّتي ينصبها المرء لفكرة من هذا النّوع فإنّها ستظل إشارة مرتبطة بالتفكير الواعي الكامن خلفها، لا رمزاً يلمح إلى ما هو مجهول حتّى تلك اللّحظة. إن الرمز الجامع (الشّامل) يضرب بجذوره في خصائص الجسد البشري بالذّات، في خصائص الحواس والفكر، وهي خصائص مشتركة بين الجميع، وبالتالي فهي لا تقتصر على الأفراد بما هم أفراد، ولا على فريق محدد منهم. والواقع أن كلام الرمز الجامع قد أتاح للجنس البشري أن يبلور اللّغة الوحيدة المشتركة بين سائر البشر. لكن البشرية ما لبثت وأن نسيت ذلك الكلام قبل أن تتمكن من الإرتقاء به إلى حيز الكلام الاصطلاحي الجامع.
إنّ اتحاد الحقيقة العقلية وغير العقليّة لا نجده وفق يونغ في الفن بمقدار ما نجده في الرمز بحد ذاته، ذلك أن جوهر الرمز أن يحتوي على العقلي وغير العقلي كليهما. فهو دائماً يعبر عن أحدهما من خلال الآخر، لأنّه يشتمل عليهما كليهما من دون أن يكون أياً منهما، وتكونه يعتبر من أهم وظائف اللاشعور الخفي بمعناه الجمعي. والرموز تنبع من اللاوعي، وإبداع الرموز هو الوظيفة الأهم للاوعي.
وفي الأحلام، تحدث الرموز بشكل عفوي، ذلك أن الأحلام تأتي من تلقاء ذاتها ولا تخترع اختراعاً، وهي لهذا السبب، المصدر الرئيسي لمعرفتنا كلها فيما يتعلق بالرموز الّتي قد ترجع بينا إلى الماضي. وتشكل الأساطير بحر واسع لاكتشاف معنى الأحلام. كلّ أسطورة في كل ضمير لا وعي لشعب ما، تعكس ما يعرف بالمثال الجماعي اللاواعي، فهي تارة الدهاء (الشاطر حسن)، الخوف (الغول)، الحبّ (أساطير الحبّ)، القوّة (عنترة)، الجنس (الأمير المغتصب)…….
وهناك رموزاُ كثيرة (من بينها رموز بالغة الأهميّة) ليست ذات صفات فردية، بل جماعيّة في منشأها وطبيعتها. هذه الرموز هي صور دينية في الغالب، المؤمن يزعم أنها ذات منشأ مقدّس تجلى للإنسان، أمّا الريبي فيقول أنها مخترعة اختراعاً. وكلاهما على خطأ. فالصحيح كما يقول الريبي، أنّ الرّموز والمفاهيم الدينية ظلت لقرون طويلة موضوع تفكير وحبك دقيق وواعٍ تماماً، والصَّحيح أيضاً، كما يلاحظ المؤمن، أن منشأها موغل في القدم، ضارب جذوره في مجاهل الماضي حتّى يبدو وكأنّه غير نابع من البشر. لكن الحقيقة هي أن هذه الصور “تمثيلات جماعية” انبثقت من أحلام بدائيّة وخيالات مبدعة. وهذه الصور بحد ذاتها، تجليات عفويّة لا إراديّة، لا ابتكارات مقصودة على الإطلاق. الرّمز هو بنية، واللّغة الرمزيَّة هي لغة يكون فيها العالم الخارجي رمزاً للعالم الدَّاخلي، رمزاً لروحنا وعقلنا، ومفارقات تلك الصُّورة، ليست سوى إنعكاس لمفارقات النّفس البشريّة، وتطوّرها الجدلي من الوعي البدئي إلى الوعي الاجتماعي.
فإذا ما حفظنا في بالنا أنّ اللاّشعور يحوي بغزارة كل ما ينقص الوعي، وأن له بالتالي منزعاً تعويضياً، فبإمكاننا حينئذ، استخلاص نتائج من الحلم، شريطة ألا ينبجس من طبقات نفسية عميقة بالغة العمق، أمّا إذا جاء بالعكس على هذا النحو الأخير، فإنّ الحلم يحوي كقاعدة عامّة، ما يسمى مواضيع أسطوريّة، أي تداعيات صور وتمثيلات أشبه بتلك التي يصادفها المرء في أساطير شعبه، أو أساطير الشّعوب الغريبة، ففي مثل هذه الحال، يحوي الحلم معنى جمعياً، أي معنى بشرياً عاماً. إن النّفس البشريّة تبدع في الأحلام رموزاً، وتكون لها بصائر في طبيعة الحياة وشخصيتها الخاصة، وفيها يتجاوز الفرد الأبعاد الضيقة لمجتمعه، ويصبح إنساناً بشكل كامل. وهذا هو السبب في أن اكتشاف فرويد لتفسير الأحلام، رغم بحثه أساساً عن الغريزة الجنسيّة المكبوتة، قد مهد الطريق لفهم الإنسانية غير المستهجنة، والّتي هي فينا جميعاً. إذ من المعروف دور فرويد الكبير باكتشاف أن تحليل الأحلام يمكن أن يشكل عاملاً رئيسياً لفهم العالم الأسطوري، وكذلك في إعطائه قيمة مهمة لدور الليبيدو المتوجه نحو البحث عن اللَّذة، كنوع من الطّاقة الّتي تشغل الإنسان، والضروريّة لتطوره الجنسي ونمائه العاطفي.
ووفق، فروم، فإنّنا في أحلامنا لا نتخلى عن قسم من عقلانيتنا ووعينا فقط، بل إنّنا نبرهن فوق ذلك على مزيد من الذكاء ومزيد من الحكم ، بل ربّما كنّا قادرين أثناء النوم على إطلاق أحكام أفضل من تلك الّتي نطلقها أثناء اليقظة. لذلك أعطى يونغ للحلم طابعه التنبؤي قائلاً” يمكن أن يكون للأحلام جانب حدسي أو تكهني، وعلى كل من يحاول تفسيرها أن يأخذ هذا الأمر بالحسبان، خاصة حين لا يقدم حلم، من الواضح أنّه ذو مدلول، قرينة كافية لتفسيره، ذلك أن وعينا هو وحده الَّذي لا يكون على علم به، أمّا العقل الباطن، فيكون على ما يبدو، قد اطّلع من قبل، ثمّ توصل إلى الاستنتاج الّذي عبر عنه الحلم، والحقيقة، يبدو العقل الباطن وكأنّه قادر على تفحص الوقائع، ومن ثمّ استخلاص النّتائج منها، تماماً كما يفعل الوعي، بل إنّ باستطاعته أن يستخدم وقائع معينة، وأن يتكهن بنتائجها المحتملة ، تماماً لأنّنا لا نعيها». إنّ الإنسان إلى حد ما، ممثل عن البشرية قاطبة، وعن تاريخها، فما كان ممكناً بالجملة في تاريخ البشرية، يمكن له أن يظهر على مستوى الفرد، و هذا يكابد في ظروف معينة، الحاجات التي عذبت البشرية. ولذا ليس بالمدهش أنّ التعويضات الدينية، تؤدي دوراً كبيراً في الأحلام، وما هو كذلك وعلى نحو متزايد في زماننا هو نتيجة طبيعية للمادية السائدة في نظرتنا”].
فإذا كان الوعي يفرق بين الناس ويركز على تمايز الأنا الفردي، فإنّنا في الأحلام، وفي الّلغة الأسطورية، نرتدي (أو نتماهى مع) شَبه ذلك الإنسان الأكثر عالمية، والأكثر حقيقية، والأكثر خلوداً، الإنسان القابع في ظلام الليل البدئي، هناك لا يزال هو الكلّ، والكلّ فيه، لا يمكن تمييزه عن الطبيعة، مجرّد في أناه. لذلك لا عجب أن يعتبر الحلم، وهو الّذي أثر في جميع الحضارات القديمة، رسالة من الآلهة.