محتوى اللاّشعور هو في الوقت نفسه الأكثر إبهاماً والأكثر ألفة، الأكثر خفاءً والأكثر قسريّة وجبريّة وفردانيّة ومفاجأة، وهو الّذي يولد الحصر الأكثر وحشية كما يولد الأمل الأكبر. وهو غير محدد بزمان ومكان أو تتابع منطقي من الأحداث كما هو الحال في حياتنا الواعية. ودون أن ننتبه، يقودنا اللاّشعور إلى الأزمنة الأكثر قدماً في حياتنا، وهكذا يبدو التَّموضع الغريب أو البعيد جدّاً في الزّمان والمكان، والذي هو مع ذلك أليف جداً. إنّه موضع يُعاد تأليفه باستمرار وإن كان الأمر يتمّ بلغة لم نعد نألفها، إنّها الرموز التي تحملنا إليها الحكايات الشَّعبيّة والأساطير ومن خلفهما الأحلام. إنّها رحلة للنفس في مهاوي مملكة اللاَّشعور. ذلك أنّه، وفقاً لـ”لاكان”، من المستحيل أن “نقول كلّ شيء” لأنّ الكلمات تعجز في النّهاية.
اللّغة الرمزيّة كما وردت في الأساطير والأحلام، موجودة في كل الحضارات، سواء الحضارات البدائية، أم الحضارات الأكثر تطوراً كالحضارة المصرية واليونانية، وفضلاً عن ذلك، فإن الرموز المستعملة في مختلف هذه الحضارات، شبيهة ببعضها شبهاً ملحوظاً، ذلك لأنها كلها تعود إلى نفس المحسوسات أو المدركات الحسية، و تعود إلى نفس التجارب الروحية التي تجمع أقوام هذه الحضارات كلهم، وتوحدهم . ونحن نجد تماثل غالب على خصائص الرسومات الأسطورية الرمزية التي نراها في مختلف التجارب الدينية، إذ تتماثل مع أصناف النماذج الأصلية (اللاشعور الجمعي) الذي يرى يونغ أن أحلامنا تنبني عليها. إنها عبارة عن دراما خلق أسطورية رمزية، من أشكال الموت و البعث و الجنات الضائعة، والآمال والذكريات التي تبدو منغرسة في الروح الإنسانية.
ومع أن الأحلام تشير إلى موقف محدد للوعي وحالة نفسية محددة، فإن جذورها تمتد عميقاً في تجاويف مظلمة لا يُسبر غورها من الذهن الشعوري، ولعدم وجود مصطلح أكثر توصيفاً فإننا نطلق على هذه الخلفية المجهولة “اللاشعور”. ولا نعلم طبيعته بذاته ومن أجل ذاته، ولكننا نلاحظ بعض الآثار التي باستفادتنا من صفاتها نخاطر ببعض الاستنتاجات فيما يتعلق بطبيعة النفس اللاشعورية. وبما أن الأحلام هي التعبير الأعم والمعهود أكثر من غيره عن النفس اللاشعورية. فإنها توفر حجماً كبيراً من مادة البحث.[2] وفعل الحلم في جملته مثال على نكوص يعود فيه الحالم إلى أقدم أوضاعه، بعث جديد لطفولته، للدفعات التي كانت تسيطر على هذه الطفولة ولوسائل التعبير التي كانت إذ ذلك في متناوله. ومن وراء هذه الطفولة الفردية، وعد يعدنا بنظرة إلى طفولة النوع، إلى تطور الجنس البشري الذي لا يخرج تطور الفرد في الحقيقة على أن يكون ترجيعه المختصر المتأثر بملابسات حياته العارضة. إن أحلامنا، كقاعدة عامة، لا تكون معنية أساساً بتكيفنا مع الحياة الخارجية، ففي عالمنا المتحضر، يكون لمعظم الأحلام علاقة بتطوير الموقف الذاتي الداخلي الصحيح تجاه النفس الكلية، ذلك لأن هذه العلاقة داخلنا تشوشها أساليب التفكير والسلوك الحديثة أكثر بكثير مما هي الحالة عند البدائيين.
إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يمتلك المقدرة الإرادية ليس فقط على قمع غرائزه والتحكم فيها، بل وتشويهها في بعض الأحيان، والحلم المألوف الذي يرى فيه الحالم أنه مطارد من حيوان يدل بصورة دائمة تقريباً على أن الغريزة انشطرت عن الوعي وينبغي أو تحاول أن تدخل من جديد إلى الحياة و تندمج بها. والإنسان، بنزعته الواضحة لصنع – الرموز، يحول الأشياء أو الأشكال باللاشعور إلى رموز، وبالتالي يضفي عليها أهمية سيكولوجية كبيرة، ثم يعبر عنها في طقوسه الدينية وفنونه البصرية. من هنا نجد أنه أثناء القسم الكبير من التاريخ الإنساني، ترتكز حياة الطفل العقلية – عدا تجاربه المباشرة في كنف أسرته – على الحكايات الخرافية والدينية والشعبية، هذا الأدب المألوف يغذي مخيلة الطفل ويحثها بالوقت نفسه، بما أنه يجيب عن الأسئلة الأكثر أهمية التي يستطيع الطفل أن يطرحها على نفسه، وهي تظهر كعامل أولي في عملية انخراطه الاجتماعي. الخرافات والأساطير الدينية القريبة منها، تقدم للطفل مادة تسمح له أن يكوّن مفاهيمه عن أصل العالم ونهايته، وعن الأفكار الاجتماعية التي يستطيع أن يلتزم بها . ولكن لماذا يحدث ذلك؟
السبب هو أن الأسطورة تروي لنا، كما يروي الحلم، خبراً تم في زمان ومكان ما و لكن خارج حدود التحديد المنطقي السببي وقيوده . إنها ضرب من الحكاية التي تعبر بكلام رمزي عن أفكار دينية وفلسفية، عن خبرات معيوشة من قبل النفس تكمن فيها دلالة الأسطورة بمعناها الصحيح . وهي تصنع صورة لكون حي لا يقوم على ميكانيكيات متبادلة التأثير، بل على إرادات وعواطف تتبدى في شكل حركي. وهي في سعيها لخلق هذه الصورة تعتمد على خزان لا ينضب معينه من وسائل الترميز، وتفتح البوابات بين الوعي واللاوعي، لذلك فإن متلقي الأسطورة لا يشعر بأنه أضاف إلى معرفته شيئاً جديداً، وإنما غدا أكثر توافقاً مع نفسه ومع العالم، وهو نفس الدور الذي نراه غالب الأحيان في دور الحلم، لأن ما تنقله الأسطورة من معان لا يشبه الوقائع والمعلومات، إنه إيحاء لا إملاء، وإشارات لا تعليم وتلقين. وهي في سعيها هذا تلجأ إلى استخدام الظلال السحرية للكلمات أكثر من مدلولاتها المباشرة.
ولنا أن نتوقع أن يقودنا تحليل الأحلام إلى معرفة التراث الأول للإنسان، بما هو مفطور عليه من الوجهة النفسية، فالأحلام، والأعصبة فيما يبدو ، قد أبقت على مخلفات نفسية قديمة تفوق ما كنا نستطيع تقديره، بحيث يحق للتحليل النفسي أن يطلب لنفسه مكانة عالية بين العلوم التي تشغل بتكوين صورة عن أقدم الفترات التي مر بها الجنس البشري في بداياته، وأكثرها غموضاً.
ومبدأ هذا التصور يقوم على مفهوم التعويض كقانون أساسي في السلوك النفسي، حيث أن كل تفريط في أحد الجانبين (الشعوري و اللاشعوري) يؤدي إلى الإفراط في الجانب الآخر. فتغدو العلاقة بين الشعور واللاشعور تعويضية. وهذه القاعدة هي أحد أكثر القواعد ثبوتاً في تفسير الحلم الفردي – وفهم دور الأسطورة التعويضي الاجتماعي – . فعندما نبدأ في تفسير حلم، من المفيد على الدوام أن نسأل: أي موقف شعوري يعوض عنه الحلم – تماماً كما نسأل أي موقف لاشعوري أدى لنشوء الرموز الأسطورية الملغزة. وكما أن للعقد الشخصية تاريخها الفردي، كذلك هي العقد الاجتماعية ذات القوام المؤلف من النماذج الأصلية. لكن في حين أن العقد الشخصية لا تحدث أكثر من انحراف شخصي، فإن النماذج الأصلية تبدع الأساطير، الأديان، وكذلك الفلسفات التي تؤثر في أمم التاريخ وحقبه كلها. إننا ننظر للعقد الشخصية باعتبارها تعويضات عن مواقف للوعي أحادية الجانب أو خاطئة، وبالطريقة نفسها يمكن تفسير الأساطير ذات الطبيعة الدينية كنوع من العلاج العرضي الذهني للمعاناة والقلق الذي يقاسي منه الجنس البشري عامة كالجوع، الحرب، المرض، الشيخوخة، الموت.
وهنا نحن نقابل بين لاشعور شخصي من جهة، ومن جهة أخرى نتحدث عن لاشعور جمعي يكمن في مستوى أعمق و أبعد عن الشعور. وتأتي الأحلام الكبيرة أو ذات المعنى، من هذا المستوى الأعمق، وهي تكشف عن أهميتها بصرف النظر تماماً عن الانطباع الذاتي الذي تخلقه، بشكلها المرن، الذي تكون له على الأغلب قوة شعرية وجمال، ولا تحدث هذه الأحلام عموماً إلا في المراحل الحرجة من الحياة، في الشباب الباكر، والبلوغ، وعند حلول منتصف العمر. وكثيراً ما يكتنف تفسيرها مصاعب جسيمة، لأن المادة التي في مقدور الحالم أن يُسهم بها جد ضئيلة، وآية ذلك أن النواتج النموذجية الأصلية لا تعود معنية بالتجارب الشخصية، بل بالأفكار العامة التي يكمن معناها الجوهري لا في أية تجربة شخصية وتداعياتها.[9] وذلك من خلال الرموز الثقافية التي أستخدمت للتعبير عن حقائق أبدية، وهي ما تزال تستخدم في كثير من الأديان، وقد مرت تلك الرموز بتحولات كثيرة بل وبعملية طويلة من التطور الواعي تقريباً. وبذلك أصبحت صوراً جماعية مقبولة لدى المجتمعات المتحضرة، ورغم ذلك، تحتفظ مثل تلك الرموز الثقافية بقدر كبير من قدسيتها الأصلية أو سحرها، فالمرء يمكن أن يدرك أنها تثير رداً عاطفياً عميق الجذور لدى بعض الأفراد صانعة بذلك شحنة نفسية، هذه الشحنة النفسية تجعلها تعمل بطريقة تشابه كثيراُ طريقة الأهواء و التعصب. إنها العناصر التي ينبغي على عالم النفس أن يحسب حسابها، ومن السخف البالغ إهمالها لأنها تشكل مكوناً هاماً في تركيبنا الذهني، وهي قوى بالغة الحيوية والأهمية في بناء المجتمع البشري. لذلك يؤكد يونغ على أن المعرفة بالأساطير من الأمور المهمة لأي شخص يعمل في مجال تفسير الأحلام، ولو درس الشخص هذه الأساطير دراسة متأنية فإنه سيفاجأ كيف يكون لها تأثير على شخصيته ومختلف جوانب حياته. ذلك أن الفضائل النفسية في الحكايات الشعبية و الأساطير تأتي من أن الشخص يجد حلوله الخاصة عبر تأمل ما تقدم القصة ومرمزاتها، حول ذاته و نزعاته الداخلية في فترة معينة من حياته. المادة التي تختارها الحكاية ليست بشكل عام ذات علاقة مع الحياة الخارجية للمريض، بل هي مرتبطة بشكل معين بمشكلاته الداخلية التي تبدو غير مفهومة، وبالتالي لا يمكن حلها. والطبيعة اللاواقعية لهذه الحكايات هي عنصر مهم يبرهن بوضوح أن الحكايات الشعبية ليس هدفها بذل المعلومات المفيدة عن العالم الخارجي، بل أن تجعل الفرد واعياً بسيرورته الداخلية. وبالمقابل، لا تزال الأحلام تعمل و لها وظيفة ودور ذي قيمة عالية، لا سيما بسبب طبيعتها التاريخية. إنها تشكل جسراً بين الطرق التي نعبر بها، ونحن في وعينا الكامل، عن أفكارنا، وهي شكل من أشكال التعبير أكثر بدائية و أغنى لوناً وأزهى صوراً. إضافة إلى ذلك فإن هذا الشكل هو الذي يخاطب مباشرة الشعور والعاطفة، وهذه المترابطات التاريخية إنما هي الحلقة التي تصل بين عالم الوعي العقلاني، وعالم الغريزة.
تمثيلات ووقائع
إذا ما تساءلنا عن الرموز في الأحلام، مثلاً هل صورة الحلم تحمل ذات الدلالة في كل مكان؟ نجد أن المحلل النفسي الأنثروبولوجي (سليغمان) يؤكد ذلك، وذلك من خلال بحثه على الحضارات المتنوعة، وفي رأيه، تكون العملة في كل مكان رمزاً للغائط (بابوس ميلانيزيا – آشنتي – سيام – آرابي – كيواي في غينية الجديدة) ويرمز الأب للحاكم، الطوطم، الوحوش الأسطورية، الأرواح آكلة لحوم البشر، الشمس. وإلى الأم بالكنيسة، المنارة، القمر كما عند الهنود الأميركيين الشماليين. وإلى الولادة بالماء، كما عند الداغومبيا في إفريقيا، والكوكيوكاتل في أميركا، والتيكوبيا في ميلانيزيا. وهلع الولادة بالمهبل المزود بأنياب في أميركا الشمالية، حيث يبدو لنا تمائل في عقدة أوديب عند أغلب الشعوب.[12] وهذا ينطبق حتى على المفاهيم التي أصبحت أكثر تجريداً، فمثلاً العدد ثلاثة في الحكايات الشعبية – والأساطير – نجده على علاقة وثيقة مع ما يعتبره التحليل النفسي مظاهر النفس الثلاثة: الهو – الأنا – الأنا الأعلى. وهو ما يعبر عنه جزئياً في الحكايات والأساطير والأديان.
إن الحكايات الشعبية – كما الأساطير والأحلام – تصف الحالات الداخلية للنفس بواسطة الصور والأحداث. فعندما يكون على البطل مثلاً أن يواجه مسائل الحياة الداخلية التي يبدو أنها تتحدى كل حل، لا توصف لنا حالته النفسية، بل تظهره الحكاية لنا ضائعاً في غابة كثيفة لا يمكن اجتيازها، في مأزق مخيف لا يعرف كيف يخرج منه. وهي صور لا تكاد تنسى .[13] وهذا ما نراه في كل صورة مرئية في حلم (كما في الأسطورة) التي هي رمز لشيء أحسسناه، وربما رغبناه. فنجد من الحيوانات التي تتخذ رموزا إلى أعضاء التناسل في الأساطير والقصص الشعبية، يلقى الكثير منها ذات الاستخدام في الحلم: السمك والقواقع والقطط والفئران (شعر العانة)، ثم بنوع خاص ذلك الحيوان الذي هو أهم الرموز إلى قضيب الرجل (الثعبان)، كما تمثل الديدان والحيوانات الصغيرة صغر الأطفال كالأخوة والأخوات غير المرغوب فيهم ….[14] .كذلك نجد في الرسومات الأسطورية الرمزية التي نراها في مختلف التجارب الدينية، تماثل غالب على خصائصها، إذ تتماثل مع أصناف النماذج الأصلية (اللاشعور الجمعي) الذي يرى يونغ أن أحلامنا تنبني عليها. إنها عبارة عن دراما خلق أسطورية رمزية، من أشكال الموت والبعث والجنات الضائعة، والآمال والذكريات التي تبدو منغرسة في الروح الإنسانية. فعبر العالم القديم، تظهر (الحية) حيواناً غريباً مرعباً يتعذر الإمساك به، عينه تشل، وسمه مُهلك، حيوان يعيش في الأرض، يتحول تلقائياً إلى آلهة جهنمية مالكة لقوى التجدد الجنسي، فالهرمسات الإغريقية القديمة، تظهر معاً حيات متشابكة في وضع جماع، وقضيب في حالة إنتصاب، يشهد ذلك على التواصل الجنسي والخصوبة (الأفعى في الحلم قد ترمز لرمز جنسي ذكري، أو إغواء جنسي، ورمز للخصوبة والخلود) كإحدى الخاصيات المميزة لذلك الحيوان الرمزي. بالمثل، نجد في الثقافات الآسيوية والميثولوجيا المكسيكية، تلك الحية سيدة النساء، التي توحي هيئتها و خاصيتها بقوة الذكر، كذلك تشارك في الإيحاء بشهوة جنسية عارمة ينسبها يونغ للرمزية الحيوانية. ولعل الحية تعبر أيضاً عن أبرز رموز التسامي، كما يمثلها الرمز العلاجي لإله الطب الروماني (إيسكو لابيوس) وهو الرمز الذي بقي حتى الوقت الحاضر كعلامة لمهنة الطب، تلك الأفعى هي بالأصل، أفعى شجر غير سامة، تلتف حول عصا إله الشفاء، وتبدو وكأنها تمثل توسط بين الأرض والسماء، ورمز التسامي الأكثر عمقاً هو صورة الثعابين الملتفين، إنها ثعبانا الفيدا الشهيرة في الهند القديمة، كما نجدهما عند الإغريق على شكل ثعبانين ملتفين على طرف عصا تخص الإله هرمز . وأحد النصب الإغريقية القديمة هو عمود حجري يتكون أعلاه من تمثال نصفي للإله. على أحد جانبه ثعبانان ملتفان، وعلى الآخر قضيب منتصب، وبما أن الثعبانبن يُرسمان و يقومان بعملية الإتحاد الجنسي كما أن القضيب المنتصب هو رمز جنسي بلا مراء، فإن بإمكاننا أن نستخلص بعض النتائج حول دور النصب كرمز جنسي ، والذي له اسقاطاته الأكيدة على قصة حواء وآدم والثعبان. ولأنها كانت غالباً وراء إخراج الإنسان من طهارته الأصلية، إذ سببت سقوطه الأصلي الناتج عن الخاصية الفيزيولوجية المميزة للمرأة، بحسب الأسطورة التوراتية، فالحية هي رمز مرتبط بالمجموعة القمرية، كما الأمر بأوضاع الأنوثة كأصل للخصوبة، ولأن الحية تنسلخ وتتغير (جلدها) مع بقائها على حالتها، فهي حارس الخلود للأسلاف.