الزمن الراهن في المغرب: أسئلة الذاكرة والتاريخ 2-2

تقترن الذاكرة التاريخية أو الشهادة بتعبير بيير نورا «بإعادة بناء المخيال وخروج المكبوت»، فالذاكرة تحكمها الغائية، وتشتغل من منظور الواجب تحت شعار «حتى لا يتكرر هذا» وغالبا ما تخضع لتوجهات سياسية وأخلاقية، من أجل بناء التجانس والالتحام، كما برز في فرنسا لحظة انكسار الوجدان الفرنسي سنة 1870، حينما تعبأ مؤرخون من قبيل إرنست رينان وارنست لافيس وشاتوبريان لإعادة بناء مفهوم «الأمة» و»اللحمة الهوياتية»، إذ يقول في هذا الصدد «ينشأ جوهر أمة ما عندما يتقاسم أفرادها أشياء كثيرة، وأيضا عندما يتمكنون من نسيان أشياء مثيرة.»
بينما الكتابة التاريخية تقوم على الموضوعية والتحليل والنقد، فالقارئ ينتظر من المؤرخ فك تعقيدات الماضي سواء كان قريبا أو بعيدا، ومساءلة الماضي والسعي إلى فهمه، هذا الفهم يقوم على النقد، على الاحتمال، على النسبية، لإعادة بناء نسق التطورات والاستمراريات الزمنية بعيدا عن أشكال الحكم المسبقة، لقد سبق لبول ريكور أن تحدث على أن « القاضي هو الذي يحاكم ويعاقب، والمواطن هو الذي يناضل من أجل النسيان، ومن أجل إنصاف الذاكرة، أما المؤرخ فمهمته تكمن في الفهم دون اتهام أو تبرئة» .
لقد تتبع المؤرخ المغربي عبد الأحد السبتي تفاعلات قضية رجل الاستخبارات المغربية السابق أحمد البخاري بخصوص قضية المهدي بن بركة، وأثار قضية العلاقة التي تربط بين التاريخ والذاكرة، ودعا المؤرخين إلى ضرورة التمييز بين صنفين من الذاكرة: الذاكرة الجماعية والذاكرة التاريخية، بين الشهادة التاريخية والكتابة التاريخية. ومع ذلك، تبقى الذاكرة أكثر وقعا من التاريخ، بالقياس على درجة تأثيرها على أوساط عامة الناس، مع ما تختزنه ذاكرة هؤلاء من أحكام مسبقة موروثة جيلا عن جيل، فالتاريخ كما قال بيير نورا « ينتج كثيرا لكنه لا يقنع إلا قليلا، ليس فقط من حيث التلقي لدى المتمدرسين، بل حتى لدى المثقفين»، كما لاحظ كيف أن خزانات بأكملها حول بطلان العنصرية لم تتمكن من التغلب على الأحكام العنصرية المسبقة.
على صعيد التاريخ الحديث، تتبعت المؤرخة الفرنسية لوسيت فالنسي موضوع الذاكرة من نافذة معركة وادي المخازن في كتابها المرجعي «أساطير الذاكرة»، ووقفت على تحليل مستويات وأنساق الذاكرة، من منظور مخلفاتها الذهنية والرمزية والانفعالية عبر ثلاثة مستويات:
1- مضمون الذكريات من زاوية الفائز والخاسر «الذاكرة المغربية/ الذاكرة البرتغالية»؛
2- حول وسائل إنتاج الذكرى «التخليد والنسيان»؛
3- حول ما ظل خارج هذه الوسائل «التمثلات والأوهام».
يعيد كتاب «أساطير الذاكرة» بناء النسق الذهني لمعركة الملوك الثلاثة، مرَّة كتخليد مع المغاربة، ومرة كنسيان مع البرتغاليين. يتعلق الأمر، بعملية مزدوجة، تخليدية من جهة، ونسيانية من جهة ثانية. مكتوبة وأخرى شفوية. بالنهاية، من خلال نظرة الذات للذات ونظرة الذات للآخر.
ولَّد انتقال خبر معركة وادي المخازن شفهيا، حسب لوسيت فالنسي، تمثلات وإحساسات مختلفة: بين المغاربة والبرتغاليين، إحساس بالعظمة والازدراء، يقابله إحساس بالغبن وعسر هضم الهزيمة.
عودة إلى ورش الذاكرة، بدأ التفكير التاريخي في موضوع «التاريخ والذاكرة» نهاية سبعينيات القرن الماضي وتحديدا 1978م، السنة التي أصدر فيها المؤرخ الفرنسي بيير نورا مبحثا نظريا يحمل عنوان « الذاكرة الجماعية» ضمن كتاب جماعي « التاريخ الجديد» تحت إشراف جاك لوغوف، غير أن محاولات التأصيل لهذا النوع من الكتابة التاريخية، تعود بنا إلى الدراسة المرجعية التي ألفها موريس هالفاكس حول «الأطر الاجتماعية للذاكرة» خلال العشرينات، من خلال التركيز على سيكولوجيا الذاكرة. في نفس الحلقة، يمكن إدراج عدة إنتاجات تاريخية، فقد اهتم مثلا الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في سياق المجابهة العلنية مع مؤرخي الحوليات في فترة السبعينات بالتركيز على أهمية السرد والحكي في بناء التاريخ، من خلال كتابين مرجعيين «الزمن والسرد «و»الذاكرة، التاريخ والنسيان».

التاريخ والذاكرة: نحو بناء ورش جديد

أتاحت ظرفية الانفراج السياسي أمام مختصي الزمن رفع الطابوهات، وتقليص مساحة المحظور على الوقائع والأحداث، من خلال التحرر من عقدتين كبيرتين: أولا، عقدة الحماية، أي ثقل التحول الذي أحدثه الحماية كمنظومة تغيير شاملة، وضرورة تفسيره تفسيرا تاريخيا بعيدا عن أي تشنج معرفي، وعقدة ما بعد الحماية، أي ثقل المخزن وتقلبات الأحوال السياسية التي عصفت بآمال وأحلام المغرب الجديد، بعيدا عن أي حساسية قومية. هناك فرق منهجي واضح بين الذاكرة التاريخية والذاكرة الجماعية، فالأولى عبارة عن ذاكرة نقدية، تأويلية، فكرية، بينما الثانية تجسد ذاكرة انطباعية، انتقائية واحتفالية…هذا التضارب يجعل الأوساط الاعلامية والسياسية تخلد ذكرى الملاحم والأمجاد لتشكيل مفهوم «الأمة»، وبناء التلاحم الاجتماعي، كذكرى معركة وادي المخازن 1578م، وذكرى أنوال 1921م، وذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال 1944، من خلال توظيف معجم تاريخي: الملاحم، البطولات، الأمجاد، المقاومة، الاستقلال، وتتغاضى في المقابل عن توثيق وتخليد الانكسارات. لقد تنبه بول ريكور إلى هذه عمق هذه القضية، وتساءل عن الإفراط الذي يخلفه تخليد الذكرى الذي يقود إلى حجب التاريخ، بل وربما مصادرته .
وعبر هذا الانهجاس الذي عبَّر عنه صاحب «التاريخ الذاكرة والنسيان» ترتفع هواجس مصاحبة، لماذا لا يتم تخليد الانكسارات الوطنية ورفعها إلى السطح كهزيمة إسلي 1844م وهزيمة تطوان 1859م ومعاهدة الحماية 1912؟ وماذا عن المخزن؟ كيف تتمثل الذاكرة الجماعية كلمة المخزن؟ كيف تفهمها بالمقابل الذاكرة التاريخية؟ كيف تتجلى معانيها السياسية والمجالية؟ كيف تتفاعل هذه الكلمات في الوقت الراهن؟ من حيث الدلالة والتوظيف السياسي والتمثل العامي ؟ أسئلة شائكة تستدعي حفرا تاريخيا عميقا لكنها ممكنة التناول.

الذاكرة والتاريخ:
إضاءات منهجية

يُقدم المؤرخ عبد الأحد السبتي تخريجات منهجية حول كتابة «التاريخ والذاكرة» لملامسة عمق أقرب القضايا التاريخية لمغرب اليوم ، فدراسة التاريخ السياسي/ الحدثي لا يعني بشكل من الأشكال عودة إلى انبعاث الحدث السياسي، وردة منهجية عن مكتسبات قلعة الحوليات، ومناصرة لعراب التاريخ المفتت فرانسوا دوس، بقدر ما هي حسب إفادة دائما عبد الأحد السبتي محاولة للكشف عن البنية، لأن الحدث ينتج البنية ويؤثر فيها في نفس الوقت، ومن وجب التمييز بين التاريخ الحدثي/ الوضعاني، والتاريخ السياسي اعتمادا على مقياس الزمن الطويل الذي بإمكانه الاهتمام بقضايا أكثر عمقا من التاريخ الحدثي ، عوض التركيز على الأشخاص وتسلسل الأحداث والوقائع. مقاربة نوعية تمكن من مناقشة الآليات الاجتماعية للسلطة والعلاقات بين الدولة والمجتمع. وهذا التناول الجديد لقضايا التاريخ الراهن، يتم عبر قنوات متعددة منها، الاهتمام بالسياسة كشكل اجتماعي وثقافي، ومقاربة المؤسسات السياسية على نحو أنثربولوجي، فالتاريخ أمامه خيار واحد لإثبات مشروعيته العلمية، عليه أن يتحول إلى أنثربولوجيا اجتماعية كما قال رائد التحليل الانقسامي افنس بريتشارد.

الكتابة التاريخية والاعتقال السياسي:

يفضي استقراء «إستوغرافيا الأدب» التي تناولت جرح الذات المغربية سنوات الاعتقال السياسي إلى الاقرار بحضور وفرة كمية ونوعية، في ما يعرف ب «أدب السجون» من روايات ومجاميع قصصية ومذكرات ورسائل السجن، وهي مكتوبة بالعربية أو الفرنسية، نشر بعضها بفرنسا، ونشر عدد منها بالمغرب، وقد صدر هذا الإنتاج منذ آواخر تسعينيات القرن الماضي، وتحمل هذه النصوص المتنوعة شهادات بدلالتين:
أولا: من حيث المضمون: شهادات حول سنوات الجمر والرصاص.
ثانيا: من حيث أشكال التلقي: شهادات حول إرادة معلنة لطي صفحة الماضي. وبالتالي، أفرزت المرحلة كتابات متعددة ألفها أحيانا، فاعلون سياسيون مثل المذكرات السياسية، وأحيانا مسؤولون فرنسيون عن فترة الحماية بالمغرب، وأخرى من طرف مناضلين من الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة، وإسهامات لشخصيات قريبة من النظام الملكي من بينهم ضباط مرتبطون بأجهزة سرية متعددة، إضافة إلى حوارات مطولة تصدرت أعمدة الصحافة المكتوبة. إنه اهتمام جديد بالذاكرة وبالشهادة التاريخية، حضور ساخن، وصاخب، في غياب مختصي الزمن، فما يحدث ببلادنا هو إنتاج الذاكرة، وهو عنصر فاعل ومعبر عن ظرفية تاريخية معينة. فالمؤرخ ملزم بنزع الصفة الميتولوجية عن عدد من الأحداث والفاعلين، مقابل تفادي السقوط في خلق ميتولوجيات ورموز جديدة ، إلى حد جعل المؤرخ الفرنسي جيرار نوراييل في كتابه « الأبناء الملعونون للجمهورية» ينتقد بحدة هذا التوجه بقوله «إن التاريخ الذي يقدم في التليفزيون ليس تاريخا، وإنما مشاهد من الذاكرة، إنهم متعهدو الذاكرة الذين يتحدثون في التلفزيون، هم أناس يصنعون روايات سردية بغرض سياسي، وليست روايات مبنية ومفسرة لوقائع الماضي، وإنما مصنوعة للحكم على شيء ما «.
هكذا، يصبح أمام المؤرخ رصيد هائل من الوثائق والأرشيفات قد تساعده على إنضاج عملية التحليل والتأويل، شريطة أن يتوفر على تكوين خاص، ومتشبع بمناهج ومقاربات متعددة، وهو ما يظهر في انفتاح الجامعة المغربية، وخاصة كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط على هذا الورش التاريخي، فقد أخذت الصحافة الفرنسية مثلا، منذ الخمسينيات من القرن العشرين تنفتح على تاريخ العمالة المرتبط بالاحتلال النازي لحظة الحرب العالمية الثانية، وتقيم حفرا تاريخيا في ذاكرة موشومة بالألم والعذاب.
ويقف المتتبع لتجاذبات الذاكرة والتاريخ في تاريخ المغرب، على تناقض في إنتاج الذاكرة بين الفرقاء السياسيين، فهناك فاعلون سياسيون ينتظرون تدخل المؤرخ حينما يتم الحديث عن وثائق ذات حساسية معينة، ولا يعبرون عن نفس المطلب حينما تنشر وثائق تدين ممارسات تيارات سياسية معادية، وهذا ما يعقد من مهمة المؤرخ، بين الرغبة في توضيح ملابسات الماضي، وبين هاجس حماية صورة بعض الشخصيات. وهو ما نلمسه من إقدام بعض الدراسات التاريخية على نشر بعض الوثائق، بخصوص تاريخ الحركة الوطنية، مما يوحي أن الحديث عن بعض أفعال الحركة الوطنية أصبح من الطابوهات والمحرمات، وهو ما قد يضرب بعمق مفهوم الحياد القيمي الذي يتبناه المؤرخ، فكتابة الذاكرة هي التي أتاحت إمكانية الكتابة التاريخية حول الماضي القريب، من خلال وجود عرض وطلب للتاريخ القريب، كما أن كتابة التاريخ الراهن أثارت تعدد المحكيات وساهمت في تراجع مساحة المحظورات.
المؤرخ يساهم في بناء منهجي لإنتاج الذاكرة، من خلال وضع الشهادة المحكية ضمن سياقات تأليفها ونفسانية منتجيها ومواقع أصحابها، ويعمل على توضيب الشهادات التاريخية، بحيث يتم التوفيق بين نسيج من المقتطفات المأخوذة من الشهادات، وبين شبكة موضوعاتية لها صلة بإشكاليات محددة، بحيث لا يجب أن يغيب عن ذهن المؤرخ، أننا بصدد ذاكرة تمت إثارتها في سياق معين تحدده رهانات معينة.

مشكلات التاريخ الراهن:

تكمن مشكلات التاريخ الراهن:
المشكلة الأولى: طبيعة ومصادر التاريخ وطريقة التعامل معها: مذكرات، صحف، روايات شفهية… التي لا تخلو من مشاكل ، منها افتقارها لما يكفي من الاختمار، واتساع تداولها بين مختلف المتخصصين. بيد أنها أثبتت خصوبتها في إنتاجات العلوم السياسية والأنثروبولوجيا مثل دراسات كل من دافييد هارت، ديل إيكلمان، جون واتربوري، المهدي بنونة وآخرين.
المشكلة الثانية: قضية الزمن ونقص المسافة بين الباحث والموضوع، مما يثير تحفظ العديد من الباحثين، وتطرح معها عدة أسئلة: هل بإمكان المؤرخ أن يبتكر أدوات منهجية جديدة لمعالجة التاريخ الراهن وفهمه، وخلق مسافة منهجية من نوع آخر بينه وبين الأحداث، مسافة منهجية أكثر منها مسافة زمنية؟.
فالتاريخ الآني أو التاريخ الفوري بتعبير الصحفي الفرنسي جون لا كوتير هو سرد للأحداث واجتهاد في تأويلها وتفسيرها، تفسير ما هو متفاعل ليس سهلا، فقد يتحول التفسير إلى تشخيص، وقد يسقط التشخيص في التعليق، وهما معا أي التفسير والتشخيص لا يخلوان من تقلبات الساعة.
تراكم وثائقي حول استحضار الماضي المنسي والمسكوت عنه، حول العنف والعنق المضادـ يوظفه المؤرخ لإحداث نوع من التحليل النفساني الذاتي، عبر ممارسة الحكي عن تجربة سنوات الجمر والرصاص، سواء كانت تجربة سياسية جماعية قبلية يحول الذاكرة المخفية الى ذاكرة علنية، هو محاورة هادئة لفترة تاريخية صاخبة لتوليد ما يمكن توليده من أفكار ومراجعات نقدية حول تضارب الذاكرة الرسمية وذا كرة الأفراد.

خلاصات عامة:

عمليا، كتابة تاريخ الزمن الراهن ومحاورة الذاكرة التاريخية لا تتأتى إلا من خلال إمعان النظر في الملاحظات التالية:
أولا: ضرورة تنسيب العلاقة بين المسافة والموضوع، وما يفرضه من جرأة منهجية؛
ثانيا: البحث التاريخي يتقدم وفق حركة تعاقب وتفاعل بين مسلسلين: تعميق الفرضيات والإشكاليات وتكثيف مجهود جمع الوثائق؛
ثالثا: النضال مع منح حرية أوسع لمختصي الزمن في مجال البحث العلمي بغرض الانتصار «للحقيقة التاريخية»؛
رابعا: ضرورة الانتباه إلى النصوص الشفهية ذات القيمة الإخبارية والإثنولوجية التي تعكس حكم المجتمع عن ذاته عبر أصوات الرواة وتعليقات المستمعين.
وما دام التاريخ إستوغرافيا بالتحديد كما في عبارة العروي الشهيرة، فإن تناول مبحث الذاكرة قد يُقدم إفادات مهمة في الكشف عن الجوانب الخفية والمعتمة من التاريخ، أو ما يمكن نعته ب «التاريخ الصامت»، ويكشف عن أماكن الذاكرة سواء كانت ذاكرة رمزية أو مادية، وييسر الانتقال من ذاكرة الأماكن إلى أماكن الذاكرة، شرط ألا تتم المغالاة في ذلك على النحو الذي قد يحجب التاريخ، ويُوجه النقاش نحو قضية معينة.
عمليا، تظهر عملية انخراط المؤرخين في كتابة ذاكرة الزمن الراهن، وفتحها على ملابسات التاريخ القريب من الذاكرة، بعد أن ظل حكرا على مختصي العلوم السياسية والأنثروبولوجيا وأقلام الصحفيين، مشوبة بعدة مشكلات منهجية ومعرفية، من حيث مقاربة زمن فائر، متوتر، يدخل ضمن ما هو سياسي، وليس ما هو تاريخي حسب المؤرخين التقليديين، هذا الاقتحام يطرح عدة قضايا منهجية وإستوغرافية، فهل العودة بين الحاضر ومقاربة الماضي مسألة تخص الزمن القريب دون غيره؟ وهل يمكن للمصالحة بين الحكم والمجتمع والماضي أن تثير أسئلة المؤرخ خارج نطاق كتابة التاريخ القريب؟
في الواقع، هناك فراغات تاريخية واضحة في الإستوغرافيا المغربية. لذلك، يمكن تشبيه الانتقال إلى كتابة تاريخ الزمن الراهن بالقفز المظلي الذي لا يحترم تسلسلية البحث في تاريخ المغرب. تارة تراجعي «من تاريخ الاستعمار إلى تاريخ جذور الوعي الوطني»، وتارة تقدمي «من تاريخ الحماية نحو تاريخ الدولة ما بعد الاستقلال».
يجدر بالتاريخ الراهن أن ينخرط في الإجابة عن الأسئلة التالية: لماذا لم يفرز التدافع السياسي بالمغرب نخبة وطنية قادرة على بناء معالم مشروع مجتمعي وطني بعد الاستقلال؟ لماذا ظلت الاتكالية وغياب القرارات الحاسمة تهيكل الحياة السياسية المغربية؟ لماذا لم يحسم الوفد المغربي المشارك في محادثات إكس ليبان مسألة الاستقلال وإشكالية الوحدة الترابية؟ وهل يمكن تحميل مسؤولية عسر الانتقال الديموقراطي والتحول المعاق إلى إرث الاستعمار الفرنسي والاسباني؟ هل كانت فترة الحماية قوسا في التطور التاريخي المغربي سرعان ما جاء الاستعمار ليغلقه، وتستمر البنية الاجتماعية والاقتصادية في إنتاج التقليد؟
ختاما، يجسد عبور مختصي الزمن من جسر تاريخ الحماية والتاريخ الراهن، مدخلا نحو بناء الديموقراطية والحداثة والعدالة الاجتماعية والوحدة الترابية، والإجابة عن الأسئلة الاستراتيجية لبلد لا يزال لم يستكمل بعد وحدته الترابية. إنها أسئلة الراهن المغربي، التي تجعل من البحث التاريخي مساهما في بناء ورش المواطنة، مغرب المصالحة الحقيقية مع الماضي العنيف، وبالتالي، تخرج التاريخ والكتابة التاريخية من حالة الاغتراب التي تجعلها غير قادرة على التأثير في أوساطها الاجتماعية والثقافية.

* (أستاذ باحث)


الكاتب : ذ: عبد الحكيم الزاوي *

  

بتاريخ : 06/12/2025