السؤال الثقافي في الزمن الوبائي… الرهان الكبير

 

تعد الثقافة من أكثر المفاهيم غموضا والتباسا نظرا لتعدد روافدها وتباين تعريفاتها الممتدة والمتشعبة والتي ترتبط بالنمط السائد في مجتمع ما، في علاقة جدلية بمجموعة من العادات والتقاليد التي يكتسبها الفرد ضمن الجماعة التي ينتمي إليها، وهي كذلك، زمرة القوانين التي تحكم علاقتهما معا.
وتتعدد روافد الثقافة وأنواعها المختلفة، إلى ما هو اجتماعي، يرتبط أساسا بكل تلك العادات التي يمتاز بها شعب عن غيره. وما هو فلسفي مرتبط بعلاقة الأفراد في ما بينهم في إطار منحى أخلاقي صرف. ثم ما هو سياسي يهتم بالعلاقات القائمة في مجال الحكم والإدارة، وتشمل علاقات الفرد مع الدولة التي تحكم المجتمع برمته.
تعبر الثقافة إذن، عن عملية معقدة ودقيقة لزراعة الأفكار والقيم في روح الأفراد والمجتمع على حد سواء، ما يجعلها في خطى واثقة نحو التقدم والسير إلى الأمام.
والزمن الوبائي المستجد، فرض علينا بدوره نظاما جديدا في حياتنا، اخترقنا عنوة بدون سابق إنذار، فارضا نفسه بقوة، ما جعلنا أمام سؤال كبير بحجم ما السؤال الثقافي بالزمن الوبائي؟ وأي تأثير للوباء في الثقافة بشكل عام؟… ما جعلنا أمام أسئلة عديدة ومفتوحة حول ثقافة جديدة بأنماط متجددة.

1 – تعامل المثقف مع الوضع الوبائي المستجد

يرى الأستاذ مولاي يوسف الإدريسي، وهو أستاذ محاضر بجامعة قطر كلية الآداب والعلوم قسم اللغة العربية الدوحة، بأن جائحة كوفيد 19 نجحت في أن تتحول في ذاتها وبذاتها إلى لحظة ثقافية بامتياز، وذلك عبر مختلف أشكال التعبير التي صاحبتها، ولكن أيضا فرضت نفسها عليها، واضطرتها إلى أن تتحول معها، وتنقلب بتقلباتها الغريبة والمفاجئة، فلاحظنا كيف بدأت التمثيلات الأولى وصيغ التصوير وأساليب الكتابة بمظهر محكوم بهواجس الرحيل المأساوي، الذي يحرم الإنسان من حقه التاريخي والطبيعي من طقوس العبور والتوديع، لتتطور تلك التمثيلات وصيغ التعبير نحو صيغ مختلفة التفاعل الجمالي والفكري أيضا، ناتجة عن وعي جديد متطور ومتحول بدوره، في الزمن الكوفيدي وتقلباته اللامتناهية.
ضمن هذه اللحظات النفسية والتعبيرات الجمالية والمواقف الفكرية أسهمت جائحة كوفيد 19 في خلق ثقافتها الخاصة، وهي ثقافة شملت الكل الاجتماعي (اللغة، السياسة، الاقتصاد، الدين، الإعلام…)، وأسهمت في التأسيس للحظة أراها مازالت ممتدة … وستبقى إلى حين، وهي لحظة تاريخية بكل المقاييس لكونها تضع لبنات أنموذج إرشادي جديد Paradigme، يجمع كل المتتبعين على الحكم بغير قليل من اليقين بأن زمن ما قبل الجائحة لن يكون مشابها لزمن ما بعدها، إن كان فعلا هناك زمن بعدها نظرا لحالة اللا يقين التي أدخلت البشرية جمعاء في معتركها، وقادتها إلى القطع مع أوهام ترسبت طوال عهود سحيقة من اليقينيات الجوفاء.


وفي السياق ذاته، أكد الدكتور عبد الجليل الأزدي وهو أستاذ محاضر بجامعة القاضي عياض بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش، أن مختلف أشكال وأنماط «الحياة الجديدة» غير المنتظرة وغير المفكر فيها قبلا لا شك أنها لم تضغط على مشاعر المثقفين ووعيهم وإدراكهم لذواتهم وللآخرين والعالم والأشياء، بل دفعتهم دفعا إلى التفكير الجدي والعميق في ما يحدث اليوم… والتطلع إلى الغد … وزادت لديهم جرعة الشوق والحنين إلى الحياة ما قبل ظهور جائحة كوفيد 19، وبين الضغط وقوة التفكير وتعالي مشاعر الشوق والحيطة والحذر والقلق واللايقين والرهاب الشامل، تفتقت العديد من المواهب والطاقات، وتفجرت الكثير من الإبداعات والخيالات متغنية بالحياة ورافضة لهذه الجائحة المدمرة بأشكال مختلفة، من نكت ورسوم وصور وقصص وأشعار وأزجال ومذكرات ويوميات وأوراق طائرة وغيرها من أشكال التعبير الجمالي التي هيمنت عليها أحيانا السخرية السوداء، وصيغت بلغات وأساليب مختلفة، وهو أمر طبيعي بسبب المثيرات والهواجس الناتجة عن عوالم الانغلاق والعزلة، ومحاصرة مشاعر الخوف والقلق واللايقين ومخاوف الرحيل والانكسار الأبدي التي تولدت في النفوس والعقول والأفئدة، ووجد فيها الخيال كيمياءه الخاصة والأثيرة لديه في كل حركة ذهنية ونشاط إبداعي، وهو ما كان للمثقفين فيه ومنه نصيب وافر وزاخر، وأدى إلى انفجار إبداعاتهم بشكل لافت وغير مسبوق في هذا الزمن الاستثنائي… زمن الحجر الصحي…
والواقع أن الجائحة أثارت العديد من ردود الفعل من قبيل سقوط «العقلانية الهشة» الحاكمة للتفاعلات اليومية، ومخاوف العيش في ظل «المجهول» وصعود وهبوط أنماط التدين وارتباك القيم وإعادة إنتاج «التراث الشعبـي»، والانجراف نحو الشائعات وتبنـي نظرية المؤامرة والوصم الإثنـي وتصاعد الشعور الجمعي وظهور المبادرات الاجتماعية…
ومجمل أشكال التفاعل هذه، تمظهرت في عديد الخطابات التي أنتجها المثقفون والمبدعون والفاعلون في حقل إنتاج الخيرات الرمزية والأطباء والعلماء والسياسيون، بل والمشعوذون كذلك…
وحين متابعة الكثير من هذه الخطابات، وهي المتابعة التي أتاحتها شروط الحجر، يتبدى سقوط وتهاوي الكثير من الأوهام: وهْم التحكُّم والسَّيطَرة ووهْم الاختلاف والتميُّـز والأفضليّة، ثم ذوبان الفرديّ الخصوصيّ في وهاد البلاء العميم والمُعمَّم ومُساءَلة البديهيّات ومُراجَعة الكثير من المُسلّمات الإيديولوجيّة وإعادة النظر في اليقينيات الــمُطْمَئِنَّة والــمُطَمْئِنَة…

2 – إشكاليات الثقافة اليوم بين الجمود والتجدد

لاشك أن الثقافة تتجدد وتتغير وفق سيرورة الطبيعة التي ترفض الفراغ أو الخواء، فهي تؤثر وتتأثر بكل شيء حتى بالوباء المستجد، حيث يرى مولاي يوسف الإدريسي بأن الثقافة اليوم، شأنها شأن كل مناحي الحياة وتعبيراتها، فجرت الأسئلة الحارقة وأيقظت الأوعاء الجارفة تجاه الذات واللغة والعالم والمعتقد والعلم والمصير والجسد وغير ذلك، مما ظل يشكل مدار تفكير الإنسان ومقارباته، لكن أصبح في ظلال كوفيد 19 مطبوعا بالرجة التي أحدثتها الجائحة، بدءا من الممارسات اليومية والسلوكات الاجتماعية للإنسان في لباسه وطرائق أكله وكلامه وسلامه، ومرورا بالخدمات المقدمة في المرافق العمومية والمؤسسات الخاصة وغيرها، وانتهاء بأشكال التعبير الأدبي والفني والفكري التي جعلت من الجائحة ومتحوراتها الفريدة والمركبة التي لا تنتهي موضوعا لنظرها وتخييلها.
ومع ذلك، في رأيي الشخصي لا يجب أن يغرب عن ذهننا أن جائحة كوفيد 19، وبالرغم من كل المخاطر التي تشكل تهديدا للبشرية، تكاد لا تساوي شيئا بالمقارنة مع ما عاشه الإنسان ومر على الأرض من كوارث على مر العصور، كما تذكر ذلك كتب التاريخ والاكتشافات العلمية، ولكن الذي يجب الانتباه إليه أن الإشكال المتصل اليوم بالمسألة الثقافية لم يعد – شكلا وموضوعا ودلالة- مثله مثل إشكال الأمس، ليس بسبب طبيعة الجائحة وتحديات متحوراتها، بل بسبب اتساع طرائق البوح ومجالات القول وفضاءات التعبير اتساعا أصبح ممتدا وغير متناه في الفضاء الأزرق، ومن ثمة فالسؤال الثقافي، والحرص على متابعة نتاجاته والوقوف عند تعبيراته وتحدياته، يجب أن ترافقه جهود لمواكبته وجمعه ودراسته وتصنيفه، لا سيما وأننا بدأنا نلاحظ ظواهر صوتية وطاقات إبداعية واعدة اختارت الكتابة والإبداع على صفحات المنتديات الاجتماعية، فصارت علامات رقمية فارقة، دون أن تحظى بمواكبة المؤسسات الثقافية والأكاديمية التي مازالت وفية لتقاليدها القديمة المرتبطة بالنشر الورقي فقطـ، وتحت مضلات معينة.
وفي ظل هذا الوضع، يرى د. الأزدي بأن مختلف حقول الثقافة شهدت تطورا مشهودا. ومن الموائم هنا التنبيه إلى أن الثقافة ليس المقصود بها في هذا السياق المعنى النخبوي، وإنما المعنى الأنثروبولوجي الواسع والعميق. ووفق هذا المعنى، فالثقافة هي نسق متكامل يشمل المعرفة الفن والقانون والعادات والتقاليد والأخلاق، وغيرها من الأمور التي يكتسبها الإنسان بوصفه أحد أفراد مجتمع محدد… ووفق هذا المعنى كذلك، فجميع أفراد المجتمع مثقفون.
وفي الإمكان التمييز ضمن هذا النسق بين أربعة أقطاب، سندعوها: الأصول. وهي: أصول الحياة، أصول المتعة، أصول العمل، وأخيرا أصول الكلام والحديث… وقد عرفت مجمل هذه الأصول تحولات نوعية في سياق الجائحة، وهي التحولات التي تتطلب دراسات نسقية ومنَظَّمة تستقطب مختلف التوجهات المعرفية والـــمنهجية…

3 – التأسيس لنموذج ثقافي في الزمن الوبائي

أما بخصوص التأسيس لنموذج ثقافي في سياقات الوباء الذي استهدف كل شيء حتى الثقافة، يقول د. الإدريسي بأنه ومما لا شك فيه، أن المثقفين يلاحظون كيف تحضر الكثير من النماذج الإبداعية الرقمية في هذا الإطار، وهي نماذج كان لجائحة كوفيد 19 الفضل الكبير على الكثير منها، نظرا لما أتاحه الحجر الصحي من فرصة لتفجير الطاقات وتنمية المهارات وتطوير الملكات، وهو أمر كنا جميعا شهودا عليه من خلال الرسائل والصور والنكت والأغاني ومقاطع الفيديو، التي كانت المؤنس الكبير والمهدئ القوي للهواجس والاختلالات النفسية والعاطفية إبان فترة الحجر وبعدها أيضا، تلك الإبداعات التي تصلح مادة خاما لدراسة وجدان المغاربة، وقياس -بغير قليل من الدقة- درجات الوعي ودفقاته، انسجاما مع القناعة التي ظل يرددها أب الفلسفة اليونانية باشتراطه رؤية الناس بتكلمهم، لأن في البوح تتكشف الذات وتتراءى أسرارها المخبوءة، ولذلك فبالقدر نفسه الذي تم التأسيس لنموذج ثقافي قبل الجائحة، يمكن القول بغير قليل من التحفظ إن للجائحة نموذجها الثقافي الخاص، مع فارق أساس أنه نموذج في حاجة ماسة إلى الجمع والتأمل، وإلى كثير من الصبر والدراسة، لكونه لا يزال في طور التطور والتشكل، اعتبارا لأن الموضوع المتخلق والمتحور يظل كل حديث عنه نسبي مادام لم يكتمل تشكله بعد.
كذلك الحال بالنسبة للدكتور الأزدي، الذي يرى بأن الزمن الوبائي قد أطلق العنان لتفتق الكثير من المواهب والكفاءات الإبداعية ضمن مختلف الأصول المشار إليها سابقا. ولم يكن ممكنا التساؤل عن كيفية تحصينها، بل كان مطلوبا في سياق الجائحة الاستفهام عن كيفية دعمها وتقويتها، بأسس الإنتاج الفني الذي يرقى إلى مستوى الروائع. ولعل من صيغ الدعم التي كانت ممكنة آنذاك، تنظيم لقاءات وتظاهرات عن بعد. واحتضان بعض المبادرات والكتابات والإنتاجات الرمزية والفنية…
وأعتقد – في حدود ما أعرف- أن مختبر تحليل الخطاب وأنساق المعارف بكلية الآداب – مراكش قد بادر إلى احتضان الإبداع الطلابي زمن كوفيد 19، ونظم جائزة للفائزين وقام بطبع ونشر الإنتاجات الفائزة في مجال القصيدة والقصة والمقالة العلمية واللوحة التشكيلية والفيديو والشريط الوثائقي… وقد أفضت هذه العملية إلى الكثير من النتائج الإيجابية… فقد علمتنا جميعا في جامعة القاضي عياض، معنى الإنصات لشريحة واسعة وعريضة من شرائح المجتمع المغربي: الطلبة الجامعيون… وكان في إمكان مؤسسات أخرى، جامعية وغير جامعية، أن تنخرط في مثل هذه المبادرات المفيدة والممتعة والمثمرة….

4 – الحاجة إلى مشاريع ثقافية جادة مواكبة للزمن الوبائي في ظل الثورة الرقمية

فرض الوباء نفسه كنمط حياة خاص ومتفرد كما أسلفنا سابقا، بحيث يلحظ د. الإدريسي بأن الجائحة في بداية ظهورها وفرضها الحجر الصحي على الناس في منازلهم، جعلت الجميع يدخل في عزلة وانطواء على الذات خوفا من المصير المظلم المتربص بالإنسانية جمعاء أمام كائن مجهري ظل يفاجئ العلماء والحكام قبل غيرهم، بأسرار تناقض تصريحاتهم ومواقفهم في كل لحظة وحين، وأشير – بغير قليل من الفخر والاعتزاز- إلى المبادرة التي كانت كلية الآداب والعلوم التابعة إلى جامعة القاضي عياض بمراكش سباقة إلى الإعلان عنها مطلع شهر أبريل من سنة 2020 ، والمتمثلة في إحداث جائزة للإبداع الطلابي زمن كوفيد 19، باقتراح من شخصي وشخص الدكتور الأزدي، وهي الجائزة التي أشرفت عليها وترأست لجنتها التحكيمية وشارك فيها زملاء ومفكرون ومبدعون من الجامعة والمدينة، وكانت حدثا إبداعيا بامتياز، لكونه مد الجسور بين الطلبة وأساتذتهم أثناء فترة الحجر الصحي، وشجع الطلبة على تفجير طاقاتهم، ومكن من اكتشاف طاقات إبداعية متألقة في مجالات الجائزة التي فتحت المشاركة فيها باللغات: العربية-الأمازيغية-الدارجة-الفرنسية –الإنجليزية، وشملت: الزجل- القصيدة- الهايكو-القصة والقصة القصيرة جدا- اليوميات والمذكرات والجداريات والأوراق الطائرة- الفن التشكيلي-الأغنية- التصوير الفوتوغرافي- الإبداع الرقمي-شرائط سمعية بصرية (كوميدية– توثيقية لا تتجاوز خمس دقائق)- الدراسات والبحوث والخرائط الخاصة بالظاهرة ( في حدود 30 صفحة)، وهي الجائزة التي تم تنظيم حفل خاص بها وأسفرت عن إخراج كتاب بعنوان أدبيات الجائحة: جاء رفقة القرص المدمج توثيقا للحظة وتثمينا للمنجز الإبداعي للطلبة.
وحرصا منا على مواكبة الأنشطة المتصلة بالإبداعات الشبابية، حرصت رفقة صديقي وأستاذي الأزدي على توسيع دائرة الاهتمام بأدب الجائحة، فأشرفنا في إطار ماستر النقد العربي القديم أنساقه ومناهجه، ومختبر تحليل الخطاب وأنساق المعارف على تنظيم جائزة أخرى، خاصة هذه المرة بالخيال التلاميذي، وهي الجائزة التي فازت بها تلميذة نجيبة، وأصدرنا عملها الفائز في كتاب مرفق بدراسات لطلبتنا في الماستر والدكتوراه، وهي أعمال سأظل أفتخر بها، لكونها تمثل أجمل هدية قدمتها لكليتي وجامعتي، قبل الالتحاق بهيئة التدريس بجامعة قطر، ولكونها تراهن ليس على الشباب مستقبل البلاد فحسب، بل وتجعل الجامعة تواكب مستجدات الساحة الثقافية وتشجع أبناءها.
في السياق ذاته، ذهب د. الأزدي نفس المذهب، حينما أكد أن الفضاء الرقمي بتنويعاته أكثر ديمقراطية زمن الجائحة والحجر الصحــي؛ إذ أتاح للكثير من اللغات والخطابات والإنتاجات أن تروج وتدور، ابتداء من خطاب الوصفات المطبخية المرتبطة بالثقافة الغذائية، وصولا إلى الوصفات الطبية ذات الصلة بثقافة الصحة والمرض، مرورا بالوصفات الطبية الشعبية والشعوذية، والخطابات السياسية والتنكيتية والزجلية والشعرية والقصصية، وكتابة اليوميات والمذكرات والسير الذاتية، والروايات التي نشرت على شكل حلقات متسلسلة…
وتكشف هذه الوفرة الغزيرة وجود مشاريع ثقافية جادة، لكنها مشاريع فردية وغير منظمة، ويعوزها التنظيم المؤسساتي…

5 – التوجُّه نحو خلق مقاولات ثقافية حقيقية ومنافسة

يرى د. الأزدي أنه من المعروف سوسيولوجيا أن المؤسسات الثقافية بنيات ينهض عليها المجتمع، من خلالها تنتقل القيم والمعايير من الخلف إلى السلف، وبين أفراد المجتمع وبين المجتمعات. ومن المعروف تاريخيا أن ولادة التقليد المتمثل في ارتهان الثقافة بالمؤسسات العمومية ولد في فرنسا، وامتد بعد ذلك إلى باقي بلدان الغرب وباقي المعمور. أما في الولايات المتحدة، فلا تتدخل السلطة العمومية في الحقل الثقافي بمعناه الضيق. فالثقافة في أمريكا شأن المقاولات الكبــرى العديدة، التي ينخرط فيها العديد من الأثرياء في القيام برعاية الأنشطة الثقافية للمؤسسات الكبرى، التي تحمل أسماءهم، وهــــي المؤسسات التي أنجزت أعمالا في قطاع الثقافة والفنون والتعليم الفنــي، مثل المتاحف الكبرى: متحف ميتروبوليتان أو غُوغَنهَايْم في نيويورك ومؤسسات مثل فُورْد، كارْنِيجـــي… ومعظم هذه المؤسسات، تلعب أدوارا عظيمة في الصناعات الثقافية. والتمايز بين الخيرات الثقافية والصناعات الثقافية صار معمولا به في الكثير من المحافل الدولية، وضمنها منظمة اليونسكو، التــي تبنت هذا المفهوم منذ 1995، تاريخ نشأة وتكون المنظمة العالمية للتجارة. وهذا بعض ما بيناه ضمن كتابنا: الثقافة والتجارة والعولمة.
وقد تبلورت الصناعات الثقافية وفق نموذج المقاولات الخاصة، التي كونت مع السنوات تراكما ماليا كبيرا، أتاح للتروستات الأمريكية الضخمة أن تصير شركات كبرى عملاقة عابرة للقارات في صناعات السينما ووسائط الاتصال (تيمْ وارْنَر، ديزْني، فُوكس وغيرها…). بحيث هيمنت الصناعة السينمائية الأمريكية، الهوليودية، منذ خمسينيات القرن الماضي، اقتصاديا ورمزيا كذلك، واحتكرت توزيع الأشرطة السينمائية ونجوم الشاشة الفضية. أما في فرنسا، خضعت معظم المؤسسات الثقافية لنظامِ تدبيرٍ عمومي وفي أحسن الحالات، تشكلت تنظيمات ذاتَ طابعٍ جمعويّ، لكنها ظلت شديدة التبعية لمجموعات عمومية: الأكاديميات والمتاحف والمكتبات وقاعات الحفلات والعروض المسرحية ومدارس تعليم الموسيقى والأجواق ودور الشباب والثقافة… باختصار، كانت فرنسا أول الأنظمة الديمقراطية الحديثة التـي أسست وزارة للثقافة عام 1959، وهي: كيان سياسي إداري، بنية إدارية تحت سلطة رجل السياسة، وهذا النموذج الفرنسي وقع استنساخه في المغرب، دون الزّخَم القوي والأهمية التي اكتساها في بلده الأصل، على مستوى الوظائف والمهام الثقافية والحضارية المنوطة به والأهداف الكبرى التي يسعى إلى تحقيقها، ولا على صعيد الموارد المالية التي تخصصها فرنسا للشأن الثقافي. ومع ذلك، طالبت فرنسا بالاستثناء الثقافي خلال دورة الغات المنعقدة بمراكش في دجنبر 1994.
ومن الملائم القول إن المؤسسات الثقافية في الدول الديمقراطية تسهم بفعالية في خلق الطلب على الثقافة وفي صوغ أفق انتظار متلقيها، بل إن الثقافة اعتُبرت في معظم الوقت استراتيجية للخروج من الأزمة الاقتصادية، على أساس أنها انفتاح وتجدد حيوي. إن الاستثمار الثقافي عنصر حاسم في المعركة الاقتصادية، وهو ما منح الثقافة وضعا اعتباريا جديدا مع الشراكة والاحتضان والرعاية من لدن المقاولات الخاصة والجماعات المحلية، التي صارت قِسما من الفاعلين في الحياة الثقافية، وصار معها المسؤولون السياسيون والثقافيون، تدريجيا، رؤساء مقاولات حقيقيين. وهذا ما يغيب في المغرب، كليا أو كليا تقريبا، عدا المساهمات البسيطة لبعض المؤسسات والمقاولات في رعاية واحتضان أنشطة وفعاليات ثقافية محدودة.

6 – وزارة الثقافة وزمن الوباء… أية رهانات؟

هنا، حُق لنا، أن نطرح تساؤلا جوهريا: أين وزارة الثقافة؟ وهل تقوم بالدور الــمَنوط بها في ظل الوباء المستجد؟ أم أنها وقفت عند النقطة الصفر لانتشار الكوفيد؟ لهذا، يجيبنا د. الأزدي بأن»أهل مكة أدرى بشعابها». كما يقال. وأهل وزارة الثقافة أدرى بمحدودية وحدود العمل الذي يقومون أو لا يقومون به. وحدود عملهم ترتبط في شق منها، بمفهوم الوزارة للثقافة، وبطبيعة الموارد البشرية الفاعلة أو العاملة بهذه الوزارة، وكذا بحجم الموارد المالية المخصصة لوزارة الثقافة في بلد لا يضع الثقافة ضمن أولوياته…
إن جائحة كوفيد 19 إذن، تحتاج مساءلة فاحصة في الهواجس والأوضاع والتحولات والانتظارات في هذا الزمن الجديد والغريب، والذي جعل الكثيرين يسمون الإنسان فيه بالكائن الكوفيدي، نظرا لكون البشرية جمعاء أخذت نصيبها من الجائحة، وأصابتها إن جسديا أو عاطفيا وخياليا أو هما معا، وهو الزمن نفسه الذي يكاد لا يختلف عن الأزمنة السابقة التي عاشتها البشرية قبلا إلا بالوتيرة المتسارعة ودائمة التحول التي عرفتها –ومازالت- بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، والتي اتخذت عنوانا بارزا لها تحت مسمى المتحورات، وهي متحورات ليست في ذاتها غير تحولات فجائية غير منتظرة … ومتواصلة شأنها شأن الحياة برمتها.


الكاتب : د. إيمان الرازي

  

بتاريخ : 22/01/2022