السالك الموساوي: مسؤوليتنا كسلطة تشريعية تفرض علينا المتابعة الدقيقة لتنفيذ توصيات المجلس الأعلى للحسابات

في مداخلة الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية لمناقشة تقرير المجلس الأعلى للحسابات ..

 

نناقش اليوم التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات برسم 2023-2024، في إطار المسؤولية الدستورية الملقاة على عاتق هذه المؤسسة الدستورية الهامة، التي تضطلع بمهام الرقابة والتقييم لضمان الحكامة المالية والاستدامة الاقتصادية لبلادنا. إن هذا التقرير، الذي يُعرض علينا وفق أحكام الفصل 148 من الدستور، يأتي ليكرس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ويمثل فرصة للوقوف عند حصيلة تدبير المالية العمومية ومختلف الأوراش التنموية.
يأتي هذا التقرير في سياق دولي محفوف بالتحديات، من تفاقم الصراعات الجيوسياسية إلى انعكاسات التغيرات المناخية وارتفاع معدلات التضخم، وهي عوامل زادت من هشاشة الاقتصادات العالمية، وهو ما انعكس على اقتصادنا الوطني، الذي سجل نسب نمو متذبذبة، والتي لم تتوافق مع التزامات الحكومة، وهو ما يفرض علينا التحلي بالجرأة في تبني سياسات اقتصادية واجتماعية أكثر نجاعة ومرونة قادرة على مواجهة الأزمات المتتالية.
وفي هذا السياق، يبرز دور المجلس الأعلى للحسابات في تقييم السياسات المالية للدولة وضمان عقلنة النفقات العمومية، خاصة في ظل استمرار التحديات المرتبطة بالاستدامة المالية والتحكم في نسب العجز والديون.
لقد أكد تقرير المجلس الأعلى للحسابات على أهمية تعزيز الجهوية المتقدمة، لكننا لا زلنا نلمس تأخراً في تنزيل هذا الورش الإصلاحي بالسرعة المطلوبة، فتفعيل الجهوية يتطلب وضوحاً في توزيع الصلاحيات والموارد المالية، وتجاوز منطق التمركز الإداري الذي يعرقل المبادرات الجهوية والمحلية، كما أن نجاح هذا المشروع رهين بإرساء آليات جديدة لتعبئة الموارد المالية على المستوى الجهوي، وتحسين الحكامة المحلية، وضمان استغلال أمثل للإمكانات المتاحة من خلال شراكة فاعلة بين القطاعين العام والخاص.
ورغم التوجهات الحكومية نحو تعزيز مناخ الاستثمار، إلا أن تقرير المجلس الأعلى للحسابات كشف عن استمرار العراقيل الإدارية والبيروقراطية التي تحدّ من جاذبية بلادنا للاستثمارات الأجنبية والوطنية، بالشكل الذي يحقق اقلاعا اقتصاديا حقيقيا، هذاالإقلاع الذي يمر حتماً عبر إصلاحات جوهرية تهم البيئة القانونية والتنظيمية للاستثمار، كما أن القدرة على استقطاب المستثمرين ترتبط بشكل مباشر بمدى تبسيط الإجراءات، وتأمين الوعاء العقاري الصناعي، وتحسين جودة البنية التحتية، وتوفير تحفيزات ضريبية فعالة وواضحة.
إن أحد الإشكالات التي تواجه الاستثمار في بلادنا تتعلق بعدم الاستقرار التشريعي الضريبي، حيث يسجل المستثمرون كثرة تغيير القوانين عن طريق تعديلات مستمرة في الأنظمة الجبائية مما يؤثر على قراراتهم الاستثمارية طويلة الأمد، فبدون سياسة استثمارية مستقرة وواضحة المعالم، سيكون من الصعب تحقيق الأهداف المسطرة في الميثاق الوطني للاستثمار، الذي يطمح إلى جعل الاستثمار الخاص المحرك الأساسي للنمو.
إلى جانب ذلك، لا يمكن إنكار أن عدم تكامل السياسات القطاعية يعطل فعالية الاستثمارات، حيث نجد أن بعض المشاريع الكبرى تصطدم بعراقيل تتعلق بغياب الإلتقائيةوضعف التنسيق بين القطاعات الوزارية، أو غياب رؤية مشتركة بين الجهات والسلطات المركزية، مما يؤدي إلى بطء التنفيذ وهدر الموارد المالية،مما يفرض علينا تعزيز المقاربة المندمجة في التخطيط الاستثماري، والتنسيق الفعلي بين الفاعلين المؤسساتيين لضمان تحقيق العائد الاقتصادي والاجتماعي المنشود.
إننا في الفريق الاشتراكي– المعارضة الاتحادية نؤكد على ضرورة تسريع تنزيل الإطار الاستثماري لتجاوز الإكراهات البنيوية التي تحد من تنافسية بلادنا، فتحقيق التحول الاستثماري يرتبط بعدة استراتيجيات كبرى للدولة كالمبادرة الأطلسية التي أطلقها صاحب الجلالة الملك محمد السادس، والتي عبر عنها من خلال الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 48 للمسيرة الخضراء المظفرة، والتي اعتبر الغاية منها تحويل الواجهة الأطلسية، إلى فضاء للتواصل الإنساني، والتكامل الاقتصادي، والإشعاع القاري والدولي، ومنه فإن هذه الإستراتيجيات لا تمر إلا عبر:
توفير بيئة قانونية مستقرة وشفافة، تضمن تحفيز المستثمرين وضمان استدامة المشاريع الاستثمارية.
تعزيز دور الجهات في استقطاب وتدبير الاستثمارات، بما يتماشى مع مبدأ الجهوية المتقدمة.
تفعيل آليات التمويل الحديثة لتقليل الضغط على الميزانية العامة للدولة، من خلال تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
رقمنة الإجراءات الإدارية للقضاء على البيروقراطية وتحسين سرعة تنفيذ المشاريع الاستثمارية.
وعلى المستوى الاجتماعي، فإن ما ورد في تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول أداء القطاعات الاجتماعية، خاصة التعليم والصحة، يثير القلق، ويكشف عن استمرار التفاوتات العميقة بين الجهات والفئات الاجتماعية. فرغم الوعود المتكررة بالإصلاح، لا تزال منظومة التعليم تعاني من ضعف الحكامة، وغياب رؤية منسجمة تربط مخرجات التكوين بسوق الشغل.
حيث يواجه قطاع التعليم تحديات تتعلق بجودة المناهج الدراسية ومدى ملاءمتها لمتطلبات الاقتصاد الوطني، إذ لا يزال هناك انفصال واضح بين منظومة التعليم العالي وسوق العمل، مما يفاقم نسب البطالة بين الخريجين، كما أن ضعف الاستثمار في البحث العلمي وتطوير التكنولوجيا يشكل عائقاً أمام تطور النظام التعليمي برمته وتطوير القدرة المقاولاتية الوطنية.
أما فيما يخص قطاع الصحة، فهو يواجه تحديات كبرى تتمثل في نقص الأطر الطبية، وضعف البنيات التحتية الصحية، واستمرار الفوارق المجالية التي تجعل من الحق في الصحة امتيازاً لفئات معينة بدل أن يكون حقاً مكفولاً لجميع المغاربة،إن المستشفيات العمومية تعاني من نقص في التجهيزات، وطول فترات الانتظار، وعدم كفاية الموارد البشرية، مما يؤثر سلباً على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين.
على هذا الأساس، لا يمكن تحقيق عدالة اجتماعية ومجالية حقيقية دون الاستثمار الجاد في قطاعي التعليم والصحة، بما يضمن تكافؤ الفرص لجميع المواطنين. وهنا ندعو الحكومة إلى:
إصلاح شامل لمناهج التعليم وضمان ملاءمتها لسوق الشغل.
تعزيز ميزانية البحث العلمي وربط الجامعات بالقطاع الصناعي.
تطوير البنية التحتية الصحية وتأهيل المستشفيات العمومية.
تحسين ظروف عمل الأطباء والأطر الصحية لضمان استقرارهم المهني.
إن توفير تعليم جيد وخدمات صحية لائقة ليس فقط حقاً للمواطن، بل هو ركيزة أساسية لأي مشروع تنموي مستدام يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.
وعلى مستوى المالية العمومية: لقد أشار التقرير إلى استمرار الضغط على المالية العمومية، رغم «تلميع» الصورة لبعض المؤشرات الاقتصادية، ورغم الجهود المبذولة في مجال الإصلاح الجبائي، إلا أن هناك حاجة ملحة إلى اعتماد سياسات مالية أكثر استدامة، تراعي التوازن بين نفقات الدولة وإيراداتها، وتعزز مناعتها ضد التقلبات الاقتصادية، فبدون إصلاح ضريبي عادل، وتحفيز أكبر للاستثمارات المنتجة، وترشيد النفقات العمومية، ستظل المالية العامة عرضة للمخاطر التي قد تؤثر على قدرة الدولة في تمويل البرامج الاجتماعية والتنموية.
إننا في الفريق الاشتراكي– المعارضة الاتحادية نؤكد على ضرورة استثمار خلاصات هذا التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات في إصلاحات جريئة تتجاوز منطق التشخيص إلى منطق التنفيذ. إن اللحظة الراهنة تستدعي من الحكومة العمل على:
تسريع تفعيل الجهوية المتقدمة من خلال توفير الموارد المالية الكافية للمجالس الجهوية.
إصلاح مناخ الأعمال والاستثمار عبر تسهيل الإجراءات الإدارية ورقمنة المساطر.
إصلاح التعليم والصحة بمنظور جديد يجعل من جودة الخدمات الاجتماعية أولوية وطنية.
اعتماد سياسة مالية مستدامة توازن بين متطلبات النمو الاقتصادي والحفاظ على التوازنات الماكرو-اقتصادية.
إن مسؤوليتنا كسلطة تشريعية تفرض علينا المتابعة الدقيقة لتنفيذ توصيات المجلس الأعلى للحسابات، ومساءلة الحكومة بشأن مدى التزامها بالإصلاحات الضرورية، بما يحقق التنمية العادلة والمنصفة لجميع المغاربة، وسنظل أوفياء لمبادئنا في الدفاع عن العدالة الاجتماعية، وتحقيق التنمية المستدامة، وضمان حقوق المواطنين في تعليم جيد، وصحة لائقة، وفرص شغل تحفظ لهم الكرامة والمستقبل الكريم.


بتاريخ : 12/02/2025