بين تصريحات الوزيرة وحقيقة الأسواق: الأسماك تسبح في بحر المضاربة
في أول أيام شهر رمضان، تحولت أسواق السمك إلى مسرح مفتوح للمفارقات الصارخة بين الأسعار الحكومية و أسعار الواقع، حيث تتبدد وعود الحكومة باستقرار الأسعار أمام الواقع الموجع الذي يصطدم به المواطن. ففي الوقت الذي أعلنت فيه وزارة الصيد البحري أن وفرة الأسماك مضمونة وأن الأسعار في أسواق الجملة تبقى تحت السيطرة، كانت الحقيقة أشبه بكابوس يومي يطارد المستهلكين في أسواق التقسيط، حيث ترتفع الأسعار إلى مستويات غير مفهومة ولا مبررة.
“الاتحاد الاشتراكي” اتصلت بتجار من سوق الجملة بالدارالبيضاء و بتجار سوق التقسيط (سوق العيون الشعبي في القريعة) لفهم حقيقة الأسعار بين الطرفين: ففي سوق الجملة بالهراويين، استقبلت المنصات أكثر من 720 طنا من الأسماك خلال أول أيام رمضان، مقارنة بـ 522 طنا في نفس الفترة من العام الماضي، مما يشير إلى زيادة في العرض بنسبة 38%. ورغم هذه الوفرة، فإن الأسعار لا تعكس منطق السوق القائم على العلاقة بين العرض والطلب، بل تبدو وكأنها تخضع لمعادلات أخرى، أكثر غموضا وتعقيدا. السردين، الذي يعتبر الملاذ الأخير للأسر محدودة الدخل، لم يتجاوز سعره في سوق الجملة 13 درهما للكيلوغرام، لكنه ظهر في أسواق التقسيط بسعر يصل إلى 25 درهما، وكأن مسافة الكيلومترات القليلة التي تفصل سوق الجملة عن طاولات الباعة تحولت إلى طريق ملغّم بالمضاربات والوساطة.
الميرلان، الذي يُباع في سوق الجملة بسعر 57 درهما للكيلوغرام، شهد قفزة في أسواق التجزئة ليصل إلى 100 درهم، وكأن الكلفة الحقيقية لم تعد تكمن في اصطياده من البحر، بل في تخليصه من دوامة الوسطاء الذين يفرضون أسعارهم بمنطق القوة لا منطق الاقتصاد. الأمر نفسه ينطبق على الصول، الذي حددت أسواق الجملة سعره عند 50 درهما للكيلوغرام، لكنه بلغ في الأسواق الشعبية 120 درهما، وهو فارق يتحدى كل قواعد التسويق العادلة.
أما الفريخ، فقد بيعت الكيلوغرامات الأولى منه بسعر 50 درهما داخل سوق الجملة، لكنه خرج إلى أيدي الباعة بسعر مضاعف بلغ 100 درهم، وكأن المستهلك هو الحلقة الأضعف التي يحق للجميع استنزافها. والراية التي كان يُفترض أن تباع بين 40 و50 درهما في سوق الجملة، تجاوزت عتبة 70 درهما في الأسواق الصغرى، في مشهد يفضح فشل الجهات الوصية على ضبط الأسعار ومراقبة قنوات التوزيع.
الحكومة، التي تباهت بإجراءاتها لضمان الوفرة، اختزلت دورها في مراقبة موانئ الصيد وأسواق الجملة، بينما تُركت أسواق التقسيط نهبًا لشبكات المضاربة التي أصبحت تتحكم في الأسعار دون حسيب أو رقيب. وعوض أن تعترف الجهات الرسمية بهذا القصور، أُلقي اللوم على الطلب المرتفع خلال رمضان وكأنه مبرر منطقي لهذا الجشع المستشري. لكن هل يمكن لهذه التبريرات أن تصمد أمام الحقيقة الصارخة؟
الوزيرة المكلفة بالصيد البحري، زكية دريوش، حاولت خلال زيارتها لسوق الجملة أن تبعث برسالة طمأنة للمواطنين، مؤكدة أن توجيه كميات كبيرة من السردين نحو الأسواق الداخلية بدلا من وحدات التصنيع سيحافظ على استقرار الأسعار. غير أن هذه التصريحات، التي بدت متفائلة في ظاهرها، تحولت إلى مجرد شعارات فارغة حين اصطدمت بالواقع، إذ لم تنعكس هذه الوفرة على أسعار الأسواق الصغرى، ولم يشعر المواطن بأي أثر لهذه التدابير التي لا تتجاوز أسوار التصريحات الإعلامية.
الأزمة الحقيقية ليست في قلة العرض ولا في زيادة الطلب، بل في شبكة غير مرئية من المضاربين الذين حولوا الأسماك إلى سلعة مضاربة بامتياز، تمر عبر حلقات لا تنتهي من الوسطاء قبل أن تصل إلى المستهلك النهائي بأثمان خيالية. هذه الشبكة تعكس خللا بنيويا في منظومة توزيع الأسماك، حيث لا تتدخل الدولة إلا في مراحل الإنتاج الأولي، بينما تُترك آليات البيع والتسويق فريسة للعبة السوق السوداء.
إن الفجوة بين الأسعار المعلنة والأسعار الحقيقية ليست مجرد خطأ في الحسابات أو خلل عابر في التوزيع، بل هي صورة مصغرة لغياب الرقابة واحتكار الأسواق من قبل فئة قليلة تتحكم في قوت المغاربة كما يحلو لها. وبينما تواصل الحكومة تبرير هذا الاختلال عبر بيانات رسمية لا يصدقها أحد، يبقى المواطن وحيدا في معركة غير متكافئة ضد جشع تجار الأزمات، في انتظار يومٍ تتحول فيه هذه الأرقام من مجرد بيانات رسمية إلى حقيقة ملموسة يشعر بها المستهلك قبل أن يقرأها في نشرات الأخبار.