السعدية أزكون الشهيرة بـ «لالة منانة» نبشٌ في مسارها التكويني والفني والإنساني

 

بعض الصداقات، لا يخيب ظنك ولا حدسك ولا إحساسك الأولي اتجاهها. تشعر بها كقدر، كقدر جميل يحضنك ويربت على كتفك، ويهمس في أذنك، أن اطمئن فما تحسه وتشعر به اللحظة من سعادة، ستظل تنتشي بها بقية أيام عمرك. حدث لي ذلك مع قلة من الأصفياء، من بينهم ابنة الحي المحمدي الأصيلة، الفنانة المقتدرة والمحبوبة السعدية أزگون، التي عندما ولجت قسم المسرح العربي، بالمعهد البلدي بالدار البيضاء، منتصف الثمانينيات، وجدتنا نحن من سبقناها إليه، بعامين أو ثلاثة، توحدنا الدروس النظرية والتمارين على مشاهد من مسرحيات كلاسيكية، معربة من قبل طه حسين أو جبرا إبراهيم جبرا أو خليل مطران، وتفرق بين بعضنا البعض الشِلل، فكل مجموعة منا كانت تكون شلة أو عصبة، وإن كانت الخلافات الواقعة بين هذه أو تلك، بسيطة للغاية. وقد قضت أزگون أيامها الأولى بالمعهد، وهي تتأمل وتتجول بين هذه العُصب، لتختار في وقت لاحق وبشكل تلقائي الشلة التي كنت أنتمي إليها، وحافظت في الوقت ذاته على ودها مع صديقات وأصدقاء المجموعات الأخرى. وأول ما أثار انتباهي شخصيا فيها، قوة شخصيتها، وثقتها فيما تفعل وما ترغب وتحلم بالوصول إليه، ثم كذلك، حسها الاجتماعي وعفويتها المقبولة، في الحوار والتواصل مع الآخر. هذه التلقائية تنسمتها من تراب الحي المحمدي، واستنشقتها عبر هوائه، وتفقهت فيها من أناس حيه البسطاء والحكماء، مما أهلها للمشاركة في النقاشات الجادة ومسايرتها بنفس الإيقاع، حتى عندما تميل الكفة إلى الهزل والسخرية الجميلة وغير الجارحة، كانت تفرض ذاتها بابتسامتها الساحرة، وضحكتها البريئة، القريبة من ضحك الأطفال.
بعد ساعات التمارين المسرحية، ونقل أو مناقشة الدروس، كانت تلوذ معنا حيث نلوذ، طلبا لاستراحات قد تطول أو تقصر، وفق الظروف، بين مقهى الصحراوي أو أيسبورگ المجاورتين للمعهد، أو بمطعم بساحة وادي المخازن، أو بإحدى مقاهي حديقة الجامعة العربية. خلال هذه الجلسات أبانت أيضا أزگون عن قدرة سلاسة الحكي، ثم التقليد بحرفية كبيرة. وهذا لعمري هو أول درس في دروس فن التمثيل. إن الذي يسجل بعقله وحاستي سمعه وبصره، مشاهد من الحياة اليومية، ثم يحولها إلى محكيات اعتمادا على التقليد بالصوت والحركات، هو مشروع ممثل، يلزم فقط صقل هذه الموهبة بالدراسة والممارسة. كانت طالبتنا الفنية تموت حبا وهياما وعشقا، في الرسامة والتشكيلية العصامية الشعيبية طلال. كانت تعيد علينا بحب وإعجاب بعض المقاطع من حواراتها، التي تذاع ببرامج إذاعية أو تلفزيونية، ولم تكن تدري أن القدر يخبئ لها أداء هذه الشخصية، في واحد من أجمل أدوارها السينمائية في فيلم “الشعيبية”، من توقيع المخرج يوسف بريطل.
أبانت السعدية أزگون خلال دراستها المسرحية، بالمعهد البلدي بكازابلانكا، عن جدية بالغة في تلقي الدروس النظرية، حول مكونات العمل المسرحي، وحول بدايات المسرح في أقطار عربية كسوريا ولبنان ومصر، ثم المغرب. وبنفس الحماس كانت تتجاوب مع دروس تعنى بإلقاء قصائد من الشعر الحر، أو ما بات يعرف بقصيدة النثر.، لتشخص في أعوام قادمة مشاهد من مسرحيات إغريقية، نقلها عميد الأدب العربي طه حسين إلى عربية قريبة من الشعر، لتتوالى مع السنوات، التداريب على مشاهد من المسرح اليصاباتي، ثم الفرنسي، فالمغربي من ربيرطوار رواده كعبد الصمد الكنفاوي والطيب لعلج وعبد الله شقرون وغيرهم.
في كل محطة من هذه المحطات، ستتكيف هذه الطالبة الطموحة، المفعمة بالتفاؤل والأمل، مع كل لون وشكل وكل مدرسة من هذه المدارس المسرحية.
تشاء لها الصدف أن تنطلق مرحلتها الدراسية الأولى بالقاعة رقم 8، تحت إشراف الأستاذ والفنان بوشعيب الطالعي، وبالقاعة رقم 9 ستكمل مشوار تكوينيها، تحت عهدة المسرحي الكبير محمد سعيد عفيفي (1933-2009)، الذي ستدشن معه في فترة لاحقة، وهي لا تزال طالبة في قسمه، مشوارها ما قبل أو شبه الاحترافي، إن صح القول، عبر أداء دور “الآنسة”، في مسرحية «إكسير الحياة»، التي قام الفنان الشهير بتقمص دور عطيل، بإعدادها الدراماتورجي وإخراجها كذلك، عن رواية تحمل نفس الاسم للروائي والمفكر الدكتور محمد عزيز لحبابي (1922-1993). هذا العمل المسرحي المتميز شاركت فيه أزكون رفقة مجموعة من الأصدقاء / طلبة المعهد وقتها، “حسن الفد – فتاح نگادي – محمد الصوفي – عبد الرحيم مشيمش – محمد محبوب – والمرحوم مصطفى مريد”، إضافة إلى نخبة من الممثلين التابعين للمسرح البلدي بالجديدة / مسرح عفيفي حاليا، حيث كان العرض الأول في أواخر شتنبر 1989، لتنطلق «إكسير الحياة» في جولة بالعديد من المسارح وقاعات العرض الوطنية.
بعد التخرج من المعهد، لم تجد أزگون صعوبة تذكر في ولوج الساحة الفنية من أوسع أبوابها، مع ترك بصمتها الخاصة والمتميزة في كل عمل تشارك فيه.
ستواصل مشوارها المسرحي مع
مسرح الحي بداية بـ “شاربو عقلو”، ولاحقا بـ “القضية في البرقية”، وبين هاته وتلك ستشارك في العديد من المسرحيات، لعل أبرزها “لالة منانة” التي ظلت تقدم في المسارح داخل وخارج أرض الوطن، لقرابة عقد ونصف.
تلفزيونيا ستدشن مشوارها بمسلسلات “الدار لكبيرة” و “ذئاب في الدائرة” ثم “جنان الكرمة”، ثم في فترة لاحقة “بنات لالة منانة” في الجزء الأول والثاني، وكذلك “رضاة الوليدة” في موسمين أيضا، إضافة إلى غيرها من المسلسلات والسلسلات والأشرطة التلفزيونية.
في الفن السابع ستكون انطلاقتها بمشاركة متميزة في فيلم “صلاة الغائب” ثم “سارق الأحلام” و”كيد النسا”، لتواصل حضورها عبر العديد من المشاركات وصولا إلى “الشعيبية” و”التوفري” و”جبل موسى”.
وفي باب الاعتراف والعرفان بما أسدته للساحة الفنية، فقد حظيت بالعديد من التكريمات في مناسبات عدة، من قبل العديد من الهيئات، من بينها تكريم بالمهرجان الدولي لسينما المرأة بسلا، ثم آخر بالمهرجان الدولي للفيلم بزاگورة، وكذلك بمهرجان فيلم الطالب بالدار البيضاء، وحظيت بالتفاتة أيضا بمهرجان السعيدية السينمائي، وأخرى في إحدى دورات المهرجان الوطني للمسرح بتطوان. أما الحي المحمدي حيث ولدت وترعرعت، فقد كرمت فوق ترابه، بدل المرة مرات، في العديد من المهرجانات ومناسبات أخرى.
في فترة لاحقة، ورغم انسحابي جزئيا من الساحة الفنية، ظللت أواكب هذه الشعلة الفنية، وهي تتألق من مشروع لآخر. كانت تجمعنا بعض اللقاءات، وإذا حضرت عرضا مسرحيا لها، انتظرها بعد النهاية، لأبلغها ارتساماتي حول تشخيصها. وليقينها بأنني متتبع جيد لجل أعمالها، فهي لا تتردد – كلما جمعنا لقاء ما – في استفساري حول وجهة نظري، في واحد من الأعمال التي شاركت فيه. كنت مرارا أبلغها لومي لمخرجينا، الذين لم يسعوا لتوظيف خفة دمها، والجانب المرِح في شخصيتها، في منتوج فني، إلى أن انتبه الفنان المتميز رشيد الوالي إلى ذلك، حيث منحها دورا بعيدا عما عرفت به في أعمالها السابقة، وذلك في إحدى السلسلات الفكاهية التي قام بإخراجها.
التقينا مرة صدفة، بفضاء المجازر القديمة للدار البيضاء، الذي كان يحتضن إحدى دورات معرض الدار البيضاء لكتاب الطفل والناشئة، المنظم من طرف مندوبية وزارة الثقافة لجهة الدار البيضاء- سطات. حضرت الفنانة لتحكي للأطفال عن مسارها الفني، ولتجيب كذلك عن أسئلتهم. وكنت برفقة تلاميذ المؤسسة التي أشرف على إدارتها، الذين تحلقوا حولها، مستمعين إليها بحب وشغف كبيرين، إلى أن داهمنا الوقت وبراعمنا لا زالت متعطشة للاستماع، وطرح المزيد من الأسئلة. مما حذا بي أن أقترح عليها، أن نكمل اللقاء في موعد قادم بالمؤسسة، ففاجأتني بموافقتها الفورية، دون أي قيد أو شرط مادي أو معنوي، رغم علمها أن المؤسسة التي ستقصدها خصوصية.
حلت بالفعل في موعد حددناه سلفا، وأضفت على تلك الصبيحة الربيعية دفئا وبهجة، تشرب من ينبوعهما كل الحاضرين. ففي تلك الصبيحة فتحت فنانتنا قلبها للأطفال وأولياء أمورهم ولأطر المؤسسة. حكت عن طفولتها، وعن دراستها للمسرح. وعن علاقتها بالحي المحمدي، وكذلك عن الطريقة المثلى التي تنهجها، وهي تسعى للتوفيق بين الحضور في الساحة الفنية، وبين تربية ورعاية ابنيها، وعن أشياء أخرى كذلك، من بينها، تصريحها الذي لن أنساه أبدا، بكون الموسم الذي لا تقدم فيه عملا مسرحيا، وإن شاركت خلاله في أكثر من مسلسل وفيلم، تعتبر نفسها لم تقدم فيه شيئا. أسدل الستار على هذا اللقاء كسابقه، والحضور بأكمله مايزال راغبا في تمديد الوقت، لاحتضان أطول مدة ممكنة مع ضيفته الاستثنائية، ذات السحر العفوي في امتلاك وأسر قلوب الناس، كيفما كانت أعمارهم وطبائعهم.
وارتباطا بكونسيرڤاطوار كازابلانكا مرة أخرى، فقد كان لي منذ عامين، شرف الجلوس برفقة السعدية أزگون على نفس الطاولة، لقرابة ثلاث ساعات ونيف، لمدة ثلاثة أيام، عندما حضرنا بمسرح سيدي بليوط، ضمن لجنة التحكيم الخاصة بالمباراة العمومية لطلبة المسرح.
أزگون المتصالحة مع ذاتها ومع محيطها، ومع الطفلة التي تسكنها، تسعد وتفرح بكل عبارة أو سلوك أو اعتراف يصدر في حقها. هي الوفية حد الهوس للصداقات القديمة، تكاد تجن عندما يفاجئها صديق أو صديقة، في المكان والزمان غير المتوقعين. لقد صرخت صرخة مدوية بكواليس مسرح محمد الخامس، مباشرة بعد تقديم مسرحية “بنات لالة منانة”، التي صورت وعرضت مباشرة بالقناة الثانية، عندما فوجئت بالصديقة “نزهة الماحي” المغتربة بالديار الأمريكية ترغب في مقابلتها، ولم يكونا قد التقيا لأزيد من عقد زمني. هي الصرخة ذاتها، وربما بإيقاع مختلف، التي أطلقتها بمطار “أورلي الدولي”، عندما فوجئت كذلك بالعزيزة الأخرى “نجاة نصري” تستقبلها استقبال الأميرات بمشموم ورد كبير ومتنوع، لتقلها إلى مكان إقامتها المؤقتة، عبر سيارة خاصة من حجم نجمة وصديقة خاصة كذلك. بعد عرض جديد لأبناء الجالية، التحقت لالة منانة بصديقتها نجاة، التي استضافتها في بيتها استضافة على الطراز المغربي.
منذ أن أبلغت “ابراهيم ديدي” صديقنا المشترك منذ زمن الدراسة بالمعهد البلدي إلى اليوم، بنية كتابة هذه المقالة / الشهادة، وهو يسألني ويستفسرني حولها، كلما جمعني لقاء به. وبمجرد ما استوت المادة على الشكل التي هي عليه الآن، فوجئت باتصال منه، يدعوني لاحتساء فنجان قهوة معه.
كنت سأحدثه بشأن هذه المصادفة الغريبة، عندما سبقني للكلام. هو الذي لم يتبدل ولا بدل لكنته الساخرة والمرحة المعهودة، التي أمرني بها :
– هيا اسمعني ما جادت به قريحتك !
وكان بالفعل هو أول من اطلع على ما خربشت أناملي، في حق صديقتنا المشتركة العزيزة الغالية أزگون السعدية، لأتمنى لها في ختام هذه الورقة، أنا وهو من قلبينا الخالصين، المزيد من التوفيق والتألق والرقي.
أزگون المتصالحة مع ذاتها ومع محيطها، ومع الطفلة التي تسكنها، تسعد وتفرح بكل عبارة أو سلوك أو اعتراف يصدر في حقها. هي الوفية حد الهوس للصداقات القديمة، تكاد تجن عندما يفاجئها صديق أو صديقة، في المكان والزمان غير المتوقعين.


الكاتب : عبد الحق السلموتي

  

بتاريخ : 12/07/2024