السكن في المدن الكبرى .. عراقيل مادية تمنع التملّك ومشاكل تهدد استقرار الأسر

في مجتمع تسوده تحوّلات اقتصادية واجتماعية متسارعة، تبرز أزمة السكن في المغرب كواحدة من أعمق الأزمات التي تمسّ كيان الأسرة واستقرار الأفراد. إن الحصول على سكن لائق لم يعد حلما بسيطا، بل أصبح معضلة حقيقية تتقاطع فيها عوامل اقتصادية، عمرانية، وثقافية، ويترتب عنها آثار اجتماعية لا تُحمد عقباها، أبرزها تأخر سن الزواج، الهجرة القسرية، وتفكك الروابط العائلية وغير ذلك.

«سقوف» لا تطالها الأيادي

خلال العقدين الأخيرين، شهد المغرب طفرة عمرانية واضحة، تمثلت في اتساع المدن وتزايد المشاريع السكنية من قبيل السكن الاقتصادي والمتوسط والفخم. غير أن هذه الطفرة لم تُترجم إلى تحسين حقيقي في الولوج للسكن، بل ساهمت في رفع الأسعار بشكل تجاوز القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة، ناهيك عن الفئات الهشة.
في مدن كبرى مثل الدار البيضاء، الرباط، مراكش وطنجة، تجاوز ثمن الشقق المتوسطة سقف 70 مليون سنتيم، في حين لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور 3000 درهم شهريا. هذا التفاوت جعل من فكرة امتلاك شقة أمرا مستحيلا للكثير من الشباب، الذين يلجؤون إما إلى الكراء الباهظ، أو إلى العيش مع الأهل إلى أجل غير مسمى.

زواج معلّق في انتظار بيت مستقل

من بين التداعيات المباشرة لأزمة السكن، ما يعرف بـ «تأخر سن الزواج»، حيث أصبحت القدرة على توفير بيت مستقل شرطًا أساسيا لإتمام مشروع الارتباط. ولأن الشاب العادي لا يستطيع بسهولة اقتناء بيت، فإن الزواج يُؤجّل، وربما يُلغى.
أصبح الشاب المغربي يعيش في دوامة العمل لتوفير المال، ثم الاقتراض لدفع التسبيق، ثم أداء القسط الشهري، وكل ذلك في ظل حياة يومية لا تخل من مصاريف ضرورية. أما الشابة، فتجد نفسها معلقة بين انتظار الاستقرار أو التضحية بشروطها الأساسية. هذا الوضع أنتج ظاهرة «العزوبية القسرية»، لا سيما في المدن، حيث أصبحت فكرة الزواج ترتبط مباشرة بإمكانية الحصول على سكن، لا فقط بمشاعر الحب أو الانسجام. وهكذا، تحوّل السكن من حق اجتماعي إلى شرط مادي صارم.

الكراء حل مؤقت بطعم الاستنزاف

أمام صعوبة الامتلاك، يلجأ كثير من المواطنين إلى كراء الشقق، غير أن هذا الخيار لا يُعد حلا دائما، لعدة أسباب. أولا لأن أثمنة الكراء بدورها شهدت ارتفاعا ملحوظا، خاصة في المدن الكبرى والمناطق القريبة من الشغل أو الجامعات. وثانيا، لأن العلاقة بين المكري والمكتري غالبا ما تكون هشة، يغيب فيها التعاقد الواضح وتخضع للمزاجية.
من جهة أخرى، تعيش الأسر التي تكتري سكنا حالة دائمة من عدم الاستقرار، خوفا من الإفراغ، أو من رفع قيمة الكراء، أو من ظروف السكن الرديئة التي لا تسمح بإصلاحات. وهذا الوضع يولد شعورا بالقلق، ويؤثر سلبا على الحياة الأسرية والنفسية.

الأسرة الممتدة .. عودة قسرية إلى الماضي

في ظل هذه الأزمة، بدأت مظاهر «الأسرة الممتدة» تعود بقوة، حيث يضطر الأزواج الجدد إلى السكن مع العائلة الكبيرة في نفس البيت. هذه الوضعية، وإن كانت حلا اقتصاديا، إلا أنها تخلق مشاكل اجتماعية ونفسية، خاصة فيما يتعلق بالخصوصية، والتدخلات، واختلاف الأجيال في أسلوب الحياة. فالبيت الواحد قد يجمع الجد والجدة، الأبوين، الأبناء، وربما حتى الإخوة والأخوات المتزوجين. وهذا التزاحم يخلق توترا دائما، قد ينتهي بالخلاف أو الطلاق، أو بانعزال الأفراد داخل نفس البيت، وهو ما يؤثر على ترابط الأسرة وصحة العلاقات.

الحلول المطروحة هل تكفي؟

رغم المجهودات التي تبذلها الدولة من خلال برامج مثل «مدن بدون صفيح»، و»السكن الاجتماعي»، ومشاريع القروض المدعمة، إلا أن الأزمة لا تزال قائمة، بل تزداد حدة والأسباب متعددة، منها المضاربة العقارية، وعدم ضبط السوق، وغياب التوجيه نحو مناطق أقل كثافة، وغياب سياسة إسكانية فعالة موجهة للشباب.
إن حل أزمة السكن لا يقتصر فقط على بناء المزيد من الشقق، بل يتطلب مقاربة شمولية تتمثل في ضبط الأسعار، تشجيع السكن التشاركي، دعم الأسر ذات الدخل المحدود، تحسين الولوج للقروض بشروط مناسبة، وتوفير سكن للكراء بجودة محترمة وأسعار معقولة.
إن أزمة السكن في المغرب اليوم ليست مجرد مشكل عمراني، بل قضية اجتماعية تمس الكرامة، والاستقرار النفسي، وبناء الأسرة، والمساواة في الفرص. فلا يمكن الحديث عن تنمية بشرية حقيقية، دون ضمان حق المواطن في سكن لائق، آمن، ومستدام، فالبيت ليس فقط جدران وسقف، بل فضاء لصناعة المستقبل، ومصدر للأمان والانتماء.


الكاتب : لمياء الرايسي

  

بتاريخ : 30/07/2025