السماء السابعة

 

(1)
تَسْتَرِقُّ السمع فلا تسمع شيئاً.. لا تذكر متى بدأت تَسْتَرق السمع، وقبل ذلك لا تدري كم مَرَّ من الزمن على مغادرتك لبيتك وأهلك، مغادرتك للأمكنة التي استأنست بها، ولكل من استأنست بأصواتهم ورنينها.. ولا تدري هل الأصوات التي تلتقطها اليوم، وأنت تسترق السمع من بعيد تتعلق بمن تعرفهم من أهلك وأصدقائك، أم أنها مجرد أصوات متطايرة تَصِلُ مَسامعك، ولا علاقة لك لا بأصحابها ولا بمن تصدر عنهم.. أصوات تَعْبُر بجوارك فتلتقطها مسامعك، ثم يَخفت صداها فتنقطع..

(2)
تجمع أطرافَك وتَتَكَوَّم مُوظّفاً كل مسامِّ جسدك، لِتَتَمَكَّن من التقاط كل الذبذبات الصوتية التي تحصل بجانبك.. تَسترق السمع فتلتقط أصواتاً تشعرك أنها آتية من مسافات بعيدة.. بحجم رحابة وشساعة السماء التي أصبحتَ اليوم من سكانها، بعد أن عَمَّرت الأرض قسطاً من الزمان.. تلتقط أصواتاً متقاطعة، تَخْفُت ثم تعلو لِتخْفُتَ ثم تتلاشى.. ولا تعود تميز في المقاطع الصوتية التي تتسرَّب إلى مسامعك شيئاً.. تتحوَّل الأصوات إلى غمغمات بلا إيقاع مُحدَّد .. تعرف أن الأصوات تتردّد بالقرب منك، وأن الأحاديث متبادلة بين أكثر من طرف وبأكثر من نبرة، وتُواصِلُ انتباهك بحذرٍ ويقظة، من دون أن تتمكن من فَكّ رموز الملفوظات التي تصلُ مسامعك..

(3)
منذ وداعك الأخير ورؤيتك المؤكدة لمن ودَّعت من أهلك، ومنذ التزامك أمام الجميع بالصمت والهدوء، ظلت أصواتهم العالية والخافتة تَصِلك بين الحين والآخر، متقطعة أحياناً ومسترسلة أخرى دون أن تتغير.. وفي قلب الكلام المتقطع والمسترسل، لا تستطيع أن تُنْكِر أنك كنت تتعرف أحياناً على بعض ما يدور بين المتحدثين، وأحياناً أخرى كنت تتعرف على الأصوات دون أن تتمكن من فرز الكلمات، لمعرفة محتوى ما هم بِصَدَدِ الحديث عنه بعد غيابك الذي لا تعرف مَداه.. تتساءل أحياناً، هل ما زالت أحاديثهم تتناول الموضوعات نفسها وتختار المواقف نفسها، أم أنهم غَيَّروا موضوعاتهم ومواقفهم؟

(4)
تسترقّ السمع من أعلى السماوات، من السماء السابعة التي صَعَدْتَ إليها أو تَمَّ نقلُك لها دون أن تدري، فقد كنت تعتقد وأنت تودّع من كنت تُجالس من أفراد عائلتك وأصدقائك، أنك لا تستطيع الحركة وسط المكان الذي تَمَّ وضعك فيه. كما لا تستطيع السماع، ولا تستطيع معرفة أين أنت الآن وأين كنت.. وأنك اليوم لا تعرف المكان الذي وُضعت فيه، رغم أنك كنت تسمع به وتسمع عنه حكايات لم تعد اليوم تذكرها..

(5)
لا تفلح في التقاط ما يدور بين من تسترق السمع إليهم، ومن تحلم بالعودة إلى أحضانهم.. وأنت اليوم لا تستطيع فك مغلقات ما يصلك من كلماتهم.. تسمعهم يتحدثون ويضحكون، ثم تخفت نبرات أصواتهم وأحاديثهم فَيَعُمُّ الصمت.. ولا تعود تميز في قلب حركة الصمت والكلام نبرات الأصوات ومعانيها، وكأن الستار أُسدل أمامك فوق خشبة مسرح الحياة.. ثم تعود الحركة وتتعالى الأصوات والحركات المرفقة بها.. فتقول، لا شيء انتهى فوق مسرح الحياة.

(6)
تنتقل أحياناً من سماع غمغمات صادرة عنهم، إلى التقاط ما دونها من حركات صوتية بلا طنين ولا رنين.. فتلتقط أصوات الصمت لتزداد حيرتك ويزداد تطلعك لمعرفة أحوالهم وما يدور بينهم ويتقاسمونه.. يشدك الشوق والحنين إلى بعضهم، يشدُّك الشوق إلى أصواتهم وحكاياتهم وضحكاتهم.. ويشدُّك الحنين إلى غُنج ودلالِ بعضهم.. تُحَدِّث نفسك عنهم واحداً تلو الآخر فتبتسم، ثم تنتابك لحظاتُ صمتٍ تطولُ أو تقصرُ.. تَلِج أبواباً لا عهد لك بها، تواجه لَحظات صمتٍ تتخللها لحظات بكاءٍ بِلَا عويل، لحظات بكاءٍ بدموع من الجمر حارَّةٍ وحارقة..

(7)
تَرى لا شيء، تَسمعُ لا شيء، تَلمس لا شيء، الأعينُ والآذانُ ومختلف الحواس ظلت معك دون رؤيةٍ ولا سماعٍ ولا قدرةٍ على التمييز.. لستَ في حالةِ غيبوبة عارضة، لستَ في لحظة ذهولٍ مؤقتة، لست خائفاً أو طائراً أو مختنقاً، فأنتَ كما أنتَ وقد انفصلت عن العالم، انفصلت عن المألوف وحلَّقت، رَحلتَ وغادرتَ، وكثيرٌ ممن يعرفونك ينتظرون عودتك، ينتظرون أن تراهم وتسمعهم، ينتظرون تحيتك وابتسامتك وكلماتك..

(8)
تواصل التكوُّم جامعاً مختلف أعضائك في مسعى دائري، يُكثِّف قدراتك على التركيز والسماع.. تَتَمَدَّدُ وتستمر مختلف أطرافك في أماكنها، فلم يعد مكان تَمَدُّدِك في المكان الذي وُضِعْت فيه أكبر ولا أصغر من الجسم الذي يحملك.. إلا أنك بدأت تُحِسُّ بأنك لم تعد تلتقط شيئاً، تَسمع لا شيء، تَرى لا شيء.. فبدأتَ تبحث لنفسك عن مخرج، عن خارجٍ يُحرِّرُك مما أنت فيه وعليه، مخرجٍ ينقلك مما أنتَ فيه، يُحرِّرك من الأصوات المتقطعة والمتطايرة.. مَخرجٍ ينقلك من الضائقة التي ألمَّت بك في غيابك..

(9)
ينتابك إحساس بالذوبان، بدأت تذوب، تتَذَرَّر، بدأت أجزاء منك تَتساقطُ بجوار أجزاء أخرى.. يتم السقوط بكثير من البساطة واليُسْر، وبدأت تَخِفُّ وبدأت أعضاؤك تلتصق ببعضها.. تُواصِلُ تَكَوُّمك ويتضاعف إحساسك بالتحلل والذَّوبان.. تقترب من حالة جديدة، تتحول فيها شيئاً فشيئاً إلى هَيُولَى ممتزجة بأجسامٍ تحتها وأخرى فوقها، الأمر الذي يترتَّب عنه في النهاية اختفاءُ شكلٍ من أشكالِك.. اختفاء الصورة وتشكل الصُّور.. تسترق السمع في الوقت الذي لم تَعُد أَنت كما كُنت، تصلك أصوات ثم يتوقف وصولها.. فأنت الآن في حالة تشبه ما كنت عليه دون أن تكون كذلك..

(10)
بَدَأْت تختفي لتظهرَ مجدداً، ولم يعد هناك فرق بين أمكنة السماء السابعة المتطايرة فوق السحاب وتحته، السابحة في أعماق البحار والمحيطات.. والأصوات التي يتردَّد صداها بين طبقات الأرض والتراب.. بَدأتَ تتحول إلى كتلة تضم المتفجِّر والمتفسِّخ والمتذرِّر من جسمك وأعضائك، ومن أجسام الآخرين وأعضائهم، وقد تَحوَّل المجموع المتراكِم بجوار بعضه إلى كتلٍ متجاورة.. كتلٍ ترتبط فيها السماوات بطبقات الأرض وأعماق البحار، ويتطابق الأعلى بالأسفل، ويحصل تطابق بين السماء السابعة وطبقات الأرض والماء في رحلة من التحول والذوبان، رحلة البدايات والنهايات..

(11)
تَسترق السمع فلا تسمع شيئاً.. رغم أنك تواصل اعتقادك بأن أصواتاً مألوفةً تصلُ مَسامعك، ولن يستطيع أحد مَنْعَك من التقاطها.. تَرِنُّ الأصوات في أذنك على شكل ذبذبات لا تستطيع فكَّ مُغلقاتها، غمغماتٌ بإيقاعٍ واحدٍ وبلا معنى، مثل أصوات الذين افتقدوا القدرة على النُّطق، فتصدر عنهم أصواتٌ بأحرفٍ متقطعةٍ ومتقاطعة، أصواتٌ تختلط فيها الملفوظات دون أن تنطق بشيء، غمغماتٌ تملأ المكان وتصل المسامع فلا يفهم السامع شيئاً.. غمغماتُ الأجسام المتحوِّلة والأصوات المتقطعة والمنقطعة.. غمغماتُ البدايات والنهايات، غمغماتُ الأرض والسماء والليل والنهار..


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 21/01/2022