السندباد في الثمانين: أحمد بوزفور ومقامة الكتابة

 

في الثمانين من النص

تبقى الأصابع المتشبثة بشجرة الحكاية الذهبية، تمسك بالقلم كمن يمسك بخشبة نجاة في طوفان الزمان، أو كحالم يدرك أنه في صلب الرؤيا لكنه لا يريد أن يصحو.. وما نفع الصحو بعد لذة السكر والحلم؟ وها السنوات والعقود تمر، ولكن البصيرة تزداد اتقادًا، كأن العمر تحوّل إلى مصابيح داخلية تنير العتمة أكثر مما تفعل شمس الخارج. أن يبلغ الكاتبُ الثمانين لا يعني أنّه شارف على أفول القول، أو بلغ من الإبداع عتيا، أو تدرج إلى مقام وقار الكتابة وترك فعلها في جغرافيا النسيان، والاتكال على عكاز العمر، بحجة لا منفعة في هذا الجيل، وأن البارحة أجمل، والغد المجهول لا طائل منه.إنما يعني -عند الكبار- أنّه قد اكتملت فيه دورة الحكمة، وأنّ اللغة التي عاش بها ولها، قد آوته أخيرًا إلى ظلّها، وضمّته في طياتها كما تضمّ القصيدة بيتها الأخير، وأن الثمار أينعت لكن قطافها للمستقبل القريب والبعيد، في غابات التأويل والقراءة.
لا يبلغ الكاتب الثمانين كما يبلغها العامة، إنما يلجها بحذائه، مفعما بالنص ومدفوعا بسؤال الوجود، وبهجة اليقظة، التي تحول المأساة إلى نظارات شمسية تقي العين من بشاعة المنظر المطل على خراب العالم. لهذا حينما يحتفل (عمنا سي) أحمد بوزفور بعامه الثمانين، فهو لا يحتفل بعامٍ آخر ينضاف إلى عمره، بل بعمرٍ أضافه هو للكتابة، للتراث، للقصّة المغربية والعربية، للغة التي ما انفكّ يحفر فيها كما يُحفر في صخر التاريخ أو في جمجمة الوقت. الثمانون عنده ليست سنّ التوقّف، فهي سنّ الإقامة العميقة في الكتابة. إنه، في هذا العمر، لا يكتب ليُنتج، بل يكتب ليبقى، والكتابة ديمومة، ومقاومة لسلطان النكران واندفاعية النسيان. يكتب ليعيش، لا ليُقرأ فقط. وكأنّ الكتابة تحوّلت عنده إلى نسغ داخلي، إلى نمطٍ من التنفّس، إلى معادل وجودي للبقاء نفسه.

الإقامة في النص:
حين تصير القصة وطنًا

الكتابة عند بوزفور ليست مجرّد حرفة أو هواية أو حتى «فنًّا» بالمعنى التقني، أي أنه لا يكتب ليصنع بالمهارة، إنما ليخترق جدار الجغرافيات الراسخة في قاموس القواعد البلاغية المغبرة. إنّها إقامة بالمعنى الدقيق. إقامة داخل اللغة، إقامة في القصّة، إقامة في الأسلوب، إقامة في الاختراق، عبادة للجديد الذي لا يتنكر للأصل، حفر في الحاضر واستنطاق للتراثي، كتابة بيدين بهذا المعنى. ولأنّه لا يتعامل مع القصة كما يتعامل الحرفي مع أدواته، إنما كما يتعامل المتصوّف مع وِردهِ الليلي، فإنّ كل نصّ من نصوصه هو نوع من الوضوء السردي، وكل قصة من قصصه أشبه برقصة في الظلام ضدّ العدم. وما نقيض العدم؟ ليس الوجود طبعا، بل الولادة.. الوجود هو تحقيق للإقامة، وهو تحقق لا يستقيم إلا عبر إعلان بليغ وصريح للنص الباقي، الذي لا يكرر أحدا ولكنه قابل أن يُكرر في ألسنة الغير، وأن تتحولق حوله جماهير التأويل ومريدو التناصات المشبوهة وسراق الأساليب، وقراصنة النصوص، وخطاف الطرقات المؤدية إلى المعاني المنسية في هوامش النصوص، وقطاع الطرق السريعة المارة على مدن التعابير الخاصة… هكذا يصير النص وجودا والوجود إقامة، وصاحبهما مقيما عاما في جمهورية نصه/ذاته.
عشرون، أربعون، ستون، ثمانون عامًا… الزمن عنده لا يُقاس بالتقويم الميلادي، إنما بالقصص: عدد القصص التي ولدت، وعدد القصص التي ظلّت تطرق أبواب اللغة دون أن تدخل.
لقد أصبح بوزفور سليلَ كتابةٍ لا تعرف الهدنة، وأصبحت الكتابة لديه طقسًا للنجاة من هشاشة العالم. ومن هنا، فإن الإقامة في النص ليست انسحابًا من الواقع، بل مقاومة له عبر تجسيده في الحكاية، وترويضه بالخيال، والانتصار عليه بالأسلوب.

الحفر في الذاكرة والتراث:
من القصيدة إلى الحكاية

ثمّة شغفٌ قديمٌ في كتابة بوزفور بالحفر في اللغة العربية بما هي تراثٌ شعريّ قبل أن تكون وسيلة للتواصل. لقد نظر دائمًا إلى العربية بوصفها ذاكرة، وخزانًا من الحكمة، ومجالًا سحريًا للتأويل. لذلك لم يكن استحضاره للتراث زينةً شكلية، ولا رجوعًا نوستالجيًا، إنها غواية وجودية. كان يدخل إلى القصيدة القديمة كما يدخل راهبٌ إلى محرابه، يحاور الشعراء القدامى، يترجم صمتهم، ويستبطن إشاراتهم. في كتابته، تتجاور نملة ابن المقفع مع رمزية السندباد، وتتحوّل الحكمة التراثية إلى أداة جمالية ووجودية. بل يكتب نصا مسرودا محكيا بوزن وبحر شعري منثور، مضمر في سير الكلمات، التي تعمل على تكثيف نفسها في نص متشذّر إلى أرواح قصصية.
ولعلّ هذا الحفر الطويل هو ما يمنح قصصه عمقًا استثنائيًا، إذ تتداخل فيها طبقات من المعنى: سحر الحكاية، إيقاع الشعر، تأملات التصوف، وهواجس الإنسان الحديث. وفي ذلك يتجلّى جوهر عمله: ليس مجرّد راوٍ للقصص، بل ناسكُ الحكاية، ومُحرِّرُ الذاكرة من غبار النسيان.

المقاومة كجمال:
الرفض البوزفوري

إنّ الحديث عن أحمد بوزفور لا يستقيم دون استحضار لحظة المقاومة الجليلة التي جسّدها في موقفه النادر سنة 2002، حين رفض جائزة المغرب للكتاب، بعدما تم الإعلان عن فوزه بها عن مجموعته «قالت نملة». لقد جاء رفضه لا تعبيرًا عن موقف احتجاجي بسيط، إنما تعبيرًا عن تأمل وجودي وجمالي في آنٍ واحد.
وكان حال لسانه يقول لا أستطيع أن أقبل جائزةً من دولةٍ ما زالت لا تعترف بحقوق الكتّاب والقرّاء كما يجب، ولا تزال تُقصي، ولا تُنصت، ولا تُبصر.. وهو يتخذ هذا الموقف تضامنا مع رحيل المبدعة مليكة مستضرف، التي أخذت من رحم الكتابة قسوة وعنوة بسبب قسْر المرض ووجع الإهمال وقهر الإصابة بمتلازمة الإبداع رغم ظلم الحياة.بهذا الموقف، لم يكن بوزفور يخسر جائزة، إنما كان يربح ذاته، ويحقق الإقامة السالفة الذكر، ينتصر للإنساني بالمقاومة.. ويمنح نفسه ومعاصريه نموذجًا لما ينبغي أن يكون عليه المبدع الحقيقي: كاتبٌ لا يكتب ليُكافأ، إنما ليقول قول الواقع ويناصر الحقيقي. فالجمال إذن، والإبداع بشكل أعم، لا ينفصل عن الأخلاق، ولا عن كرامة الكاتب. لا نعني أن يكتب المبدع نصا معمّرا بالأخلاقي، لكن أن يمتلك روحا أخلاقية، تعمل على مقاومة النكران والنسيان.
لقد شكّل هذا الموقف حدثًا فارقًا في تاريخ العلاقة بين المثقف والمؤسسة، وكانت له أصداء واسعة في المغرب وخارجه. وجعل من بوزفور رمزًا لمقاومةٍ هادئة، لا تصرخ، بل تكتب. لا تهاجم، بل تحوّل القصة إلى موقف، والنص إلى معركة رمزية ضد الرداءة والتسطيح والتواطؤ.

حين تنضج الكلمات كعناقيد عنبٍ في آخر الصيف

أن تكتب وأنت في الثمانين، معناه أن تتحدّى الجفاف العام. أن تستمرّ في القصّ، معناه أن تؤمن بأنّ الحكاية لا تموت، وأنّ اللغة -إذا صيغت في حرارة التجربة وعمق الرؤية – لا تشيخ.
إنّ نصوص بوزفور، كما في لغة «السندباد»، ليست مجرّد محاولات أخيرة، إنما هي ثمار ناضجة لطفولة متأخّرة في قلب اللغة. فيها حزن الزمن، ولكن فيها أيضًا حكمة الوقت، وطزاجة السؤال، ومرارة التأمل، ونضج عنقود عنب في آخر الصيف، وحرقة لهيب شمس الشاطئية المنيرة موج البحار النص العائم. لقد نجح بوزفور في أن يصنع من القصّة القصيرة بستانًا دائم الخضرة، وفسحةً للمقاومة الروحية في عالم لا يعترف إلا بما هو استهلاكي.
وهكذا، لا يبلغ بوزفور الثمانين وحده، فنحن نبلغ معه، نحن قرّاؤه، ذروة من ذُرى الكتابة العربية الأصيلة، ونحسّ بأنّ القصة القصيرة لم تكن أبدًا حكاية عابرة، بل قدرًا جماليًا، وفعلًا وجوديًا، وشكلًا آخر من أشكال الصلاة.
فليدم السندباد في أسفاره، ولتظلّ النملة تنبئنا بالحكمة من قلب الهامش.


الكاتب : عز الدين بوركة

  

بتاريخ : 23/05/2025