لم يحظ النثر بنفس الاهتمام الذي حظي به الشعر في الثقافة العربية القديمة. وضمن النثر لم تحظ كتابة السيرة الذاتية بنفس ما حظيت به الأجناس الأخرى كالتاريخ، الفقه، الرحلة… من اهتمام. وحتى داخل أدب السيرة لم تلق السيرة الذاتية ما لقيته السيرة الغيرية من عناية، لذلك نكاد نجد قلة من الكتاب العرب ممن كتبوا عن ذواتهم وسجلوا تفاصيل حياتهم. ولعل أهم ما ألف في الغرب الإسلامي كتاب « التعريف بابن خلدون» و» مذكرات عبد الله بن بلقين « آخر ملوك المسلمين في الأندلس…
وحتى في العصر الحديث لم تلق السيرة الذاتية في المغرب الاهتمام الذي لقيته في الغرب، ذلك أن كتابة السيرة كما تقول ليلى أبو زيد ظلت « في المغرب إلى فترة وجيزة مستهجنة لأن الأدب عند العرب هو الشاعرية والخيال، بينما السيرة الذاتية واقعية اللغة والموضوع، ولأنها في متناول الجميع ما دام بمستطاع الجميع أن يدون حياته وقد فعل ذلك رجال دولة ومغنون. زد على ذلك أن كاتب السيرة الذاتية تنطبق عليه مقولة: « مادح نفسه ومزكيها» مع ما تنطوي عليه من دلالات مشينة: الأنانية بدل الإيثار ، الفردية بدل روح الجماعة ، الغطرسة بدل التواضع ….» وأكثر من ذلك تنبأت ليلى أبو زيد بألا يكون أي مستقبل للسيرة الذاتية في المغرب تقول (السيرة الذاتية ليس لها مستقبل في البلاد العربية لأن المجتمع العربي مجتمع تقليدي. ولذلك ، فهي عندنا جنس دخيل بامتياز).
لكن البحث والتنقيب سرعان ما كذب هذا التنبؤ. ذلك أن السيرة الذاتية ــ سواء المكتوبة بالعربية أو بالفرنسية ــ ستعرف تطورا هاما في المغرب. فقد تجلت بعض جذورها في ما كان يكتبه فقهاء الزوايا عن زواياهم وطرائقهم تارة، وتجلت في ما كان يخطه بعض رواد الفكر المغربي كـ»الإليغيات» لمحمد المختار السوسي و»ذكريات من ربيع الحياة» لمحمد الجزولي و(تمرة أنسي في التعريف بنفسي ) لأبي الربيع سليمان الحواث . منذ الأربعينات بعد أن صدرت سيرة التهامي الوزاني ( الزاوية ) ستعرف السيرة الذاتية انطلاقتها الحديثة بالمغرب . وبصدور( في الطفولة) لعبد المجيد بن جلون سنة 1975 سيعرف هذا الجنس قفزة نوعية، ويخــط المغرب حضوره في أدب السيرة عربيا . أما بإصدار (الخبز الحافي) التي انتهى شكري من كتابتها سنة 1972 سيتم فتح نافذة المسكوت عنه في ما يتعلق بقضايا المحرمات كالجنس، الدين، سلطة الأب ، الأسرار الأسرية …..
وأكثر من ذلك لم يقتصر بعض المغاربة على كتابة سيرهم في مقتطفات أو في كتاب واحد . بل وخلافا لما جرت به العادة في كون السيرة الذاتية تكتب ضمن مجلد واحد يلملم بين دفتيه تجربة هذا الكاتب أو ذاك في الحياة وفي الكتابة، في بعض محطاتها البيوغرافية المنتقاة أو في مجموعها، نجد أن السير الذاتية في المغرب، كما هو الشأن بالنسبة لتجارب أخرى في العالم العربي، قد اتخذت لنفسها منحى آخر في الكتابة ضمن أجزاء، تحقق في مجملها من الترابط والامتداد أكثر مما تحققه من انفصال ومسافة، ونشير هنا الى التجارب السير ذاتية لكل من عبدالكريم غلاب (في أربعة أجزاء)، ومحمد شكري (في ثلاثة أجزاء)، وليلى أبو زيد (في جزأين)، وعبدالقادر الشاوي (في جزأين(،وعبدالغني أبو العزم (في جزأين)، وربيعة السالمي (في جزأين)، وعبداللطيف البياتي )في جزأين)، والعربي باطما (في جزأين).
وأمام التراكم الذي حققه أدب السيرة الذاتية أصبح بالإمكان الآن مقاربة هذا الجنس مقاربات متنوعة و تبويب ما ألـــّف أبوابا مثل:سير الأدباء ، سيرة المعتقلين السياسين ، سير المهاجرين السريين ، سير الفقهاء وزعماء الزوايا …. ونحن هنا ليس همنا الكتابة عن السيرة الذاتية، ولكن مجرد إثارة الإشكالات واستفزاز ذاكرة المتلقي عساه يتلمس بعض القضايا ويجعلها في يوم ما موضوع بحثه.
ولابد من الإشارة أيضا إلى أن المغاربة لم يقتصروا على كتابة السيرة فقط، بل تجاوزوا ذلك إلى التنظير والكتابة حول أدب السيرة الذاتية فألفت مؤلفات عدة تعرف بهذا الجنس و تبرز خصائصه و تقارنه بغيره من الأجناس السردية منها كتاب حسن بحراوي (جدل الذات والوطن: بصدد السيرة الذاتية عند عبدالكريم غلاب) ، وكتاب (الذات والسيرة ) لعبدالقادر الشاوي الذي تناول فيه بالدراسة والتحليل السيرة الذاتية (الزاوية) للتهامي الوزاني، في حين ركزت جل الكتب النقدية المغربية الأخرى على مقاربة المتن الأوتوبيوغرافي في تعدد نصوصه وأسمائه، من المغرب وخارجه: (الذات والسيرة) و (الكتابة والوجود) و(المتكلم في النص) لعبدالقادر الشاوي، و (البوح والكتابة) لعمر حلي، و(روائية السيرة الذاتية) لمحمد أقضاض، و(شعرية السيرة الذهنية) لمحمد الداهي، و(سير المفكرين الذاتية) لصدوق نوالدين. ينضاف إلى ذلك العديد من المقالات والدراسات التي تنشر في الصحف والمجلات ، أو تكون عبارة عن فصول ضمن كتب تتناول الأعمال السردية عامة كما فعل معظم الكتاب المغاربة المهتمون بالسرد.
وتبقى ليلى أبو زيد من أبرز النساء المغربيات بل النساء العربيات اللائي كتبن في السيرة الذاتية على قلتهن . فمؤلفها « رجوع إلى الطفولة « مساهمة هامة في السيرة الذاتية العربية. فكاتبته أوردت أن عبد المجيد شكير صنفه ذاتية روائية لأنه : « ينسف قاعدة التطابق بين المؤلف والسارد ، إلى جانب توفره على المكوّنات السردية الأخرى كتعدد الأصوات والتفضية وتداخل الأزمنة « ؛ وأوردت أن عبد العزيز جدير قال: )»رجوع إلى الطفولة ) فيه نقد للمؤسسة الرسمية والمعارضة على السواء بجرأة لا نجدها عند الكتاب المنضوين تحت أحزاب المعارضة « ، وقال أيضا : « يمكن اعتبار ليلى أبو زيد كاتبة المرأة بامتياز، فرواتها نساء وشخوصها النسائية أصوات … ( رجوع إلى الطفولة ) تعطي مصداقية للتاريخ الشفوي الذي تحكيه نساء أميات « .
ويمكن القول إنه منذ 1993 السنة التي نشرت فيها «رجوع إلى الطفولة « قد فتح الباب في المغرب على مصراعيه للسيرة الذاتية النسوية . فقد سبقت ليلى أبو زيد مثيلاتها في المغرب إلى كتابة السيرة الذاتية. وإلى الآن لايزال المشهد الثقافي المغربي والعربي عامة يشكو ندرة النساء اللواتي كتبن عن حياتهن الخاصة.