تجسيد لمظاهر المحبة التي يكنها المغاربة على مر العصور للرسول الكريم
تسمى كل زاوية منها ركناً، وهي: ركن الحجر الأسود (شرقاً)، والركن الشامي (غرباً)، والركن العراقي (شمالاً)، والركن اليماني (جنوباً)، ثم على جنبات جدران القاعة الكبيرة، كتبت أسماء الرسل محمد وعيسى وموسى عليهم أفضل الصلوات وأزكى السلام بخط عربي كبير ومذهب.
معرض السيرة يعتبر ثمرة شراكة استراتيجية ثلاثية بين الإيسيسكو ورابطة العالم الإسلامي والرابطة المحمدية للعلماء، ويمثل النسخة الأولى من معارض السيرة النبوية خارج المملكة العربية السعودية، حيث يقع مقره الرئيس بالمدينة المنورة
عندما حط المعرض والمتحف الدولي للسيرة النبوية والحضارة الإسلامية الرحال ببلادنا، منذ سنتين تقريبا، حيث فتح أبوابه بمقر منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) في الرباط، يوم الخميس 17 نونبر2022، تحت شعار «السيرة كأنك تعيشها»، والذي يحظى بالرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس، كما حضر افتتاحه الرسمي ولي العهد الأمير مولاي الحسن في 27 من نوفمبر 2022، وهو يعتبر ثمرة شراكة استراتيجية ثلاثية بين الإيسيسكو ورابطة العالم الإسلامي والرابطة المحمدية للعلماء، ويمثل النسخة الأولى من معارض السيرة النبوية خارج المملكة العربية السعودية، حيث يقع مقره الرئيس بالمدينة المنورة، وهو يعرف كبير الإقبال من جميع فئات الشعب المغربي، حيث تجاوز عدد زواره حاجز الخمسة ملايين زائر، وذلك منذ افتتاحه أمام الجمهور العام في 28 من نوفمبر 2022.
كانت الرغبة تكبر يوما عن يوم للذهاب إلى حيث نقترب من نفحات روحية من سيرة الرسول الكريم، أعظم وأكرم مخلوق عند الله تعالى، الذي كان سببا في نشر نور الله على الأرض، وكانت رسالته رحمة للإنسانية جمعاء، ألم يقل الله تعالى في محكم كتابه الكريم «وما أنزلناك إلا رحمة للعالمين». لقد كان الشعار مغريا وجذابا لناس تفصلهم عن الحقبة التي عاش فيها الرسول أكثر من 14 قرنا وتفصلهم عن المكان الذي بعث فيه سيد الخلق أجمعين، عليه الصلاة والسلام، مكة المكرمة، والمكان الذي دفن فيه، المدينة المنورة، عشرات أو ربما مئات الكيلومترات، لذا كان هذا المتحف فرصة للاقتراب أكثر من سيرته(ص) التي تعتبر نبراسا يقتدي به كافة المسلمين ونورا يتبعونه في كل مناحي حياتهم.
وقد كتب لهذا الزيارة أن تتحقق، مؤخرا، وكان الوقت وقت حج وتلبية وطواف قدوم ووداع، لذا كان لدينا إحساس أن هذا المتحف/ المعرض سيكون مناسبة فريدة ومميزة لا يمكن تفويتها لنعيش السيرة النبوية كما عاشها المسلمون منذ بعث النبي الكريم…نبي الهدى والرحمة ومكارم الأخلاق الذي قال عنه الله تعالى «وإنك لعلى خلق عظيم»… وكما يعيشها حجاج بيت الله الحرام في هذه الأيام المباركة، وهم الأقرب إليه عليه الصلاة والسلام، وإلى آله وصحابته، في تلك البقاع المقدسة.
كان علينا قبل الذهاب إلى الرباط حجز تذاكر الدخول( المجانية) عبر البوابة الإلكترونية للمعرض، وتم تحديد الوقت في الساعة الحادية عشرة صباحا مع التأكيد في شروط الزيارة على ضرورة الحضور قبل خمس دقائق من الموعد وإلا فإن هذا الأخير سيلغى نهائيا، وشروط أخرى كثيرة منها منع التصوير وإدخال الحقائب، وهو ما يعطى فكرة أولية عما يضمه هذا المعرض / السيرة من كنوز وما أحيط به من عناية.
في الوقت المحدد كنا أمام بوابة مقر منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، أول ما أثار انتباهنا الهدوء الكبير الذي يطبع المكان والنظام الذي يميز المشرفين والمشرفات على المعرض، كانت رائحة البخور المميزة هي أول ما استقبل الزوار، قاد مرشد الجمع الكبير الذي ينتظر الدخول إلى داخل بهو كبير، لنجد في انتظارنا مرشدة سترافقنا بين أروقة المتحف الذي يضم أدوات مصنوعة طبق الأصل، حسب قول المرشدة التي استقبلتنا. بدأت الزيارة بمجسم صغير للكعبة المشرفة لا يتجاوز المتر المربع مع مقام إبراهيم والركن اليماني، وشرح لبعض المناسك وسبب تسمية كل ركن أو جانب من الزوايا الأربع لبناء الكعبة المشرفة المقابلة للاتجاهات الأربعة، وهي الشرق والغرب والشمال والجنوب. وتسمى كل زاوية منها ركناً، وهي: ركن الحجر الأسود (شرقاً)، والركن الشامي (غرباً)، والركن العراقي (شمالاً)، والركن اليماني (جنوباً)، ثم على جنبات جدران القاعة الكبيرة، كتبت أسماء الرسل محمد وعيسى وموسى عليهم أفضل الصلوات وأزكى السلام بخط عربي كبير ومذهب، وفي قاعة أخرى وضعت شاشات رقمية قسمت عليها مواضيع عديدة تراوحت بين التعريف بمختلف شمائل الرسول وخصاله وزوجاته وأبنائه وبناته وصحابته والبلدان( المدن) التي زارها واللباس والأكل والألوان التي كان يحبها، والأحاديث التي تدل على كل موضوع من تلك المواضيع، والتي تصل إليها المرشدة بلمسة على الشاشة، ثم تترك لنا بضع دقائق لقراءة الحديث والانتقال إلى شاشة أخرى وهكذا دواليك، بعد ذلك سنُوجه إلى حيث وضعت على طاولات «ماكيتات» محاكية للمدينة المنورة ولمكة المكرمة وجبل أحد وبيت خديجة رضي الله عنها وغرف زوجات النبي وبعض بيوت الصحابة الكرام، كل ذلك مرافق بشرح مقتضب للمرشدات اللواتي يتغيرن مع كل قسم، وفي جانب آخر وضعت كتب مختلفة للبيع بأثمنة يصل بعضها إلى 500 درهم أو أكثر، تتحدث عن السيرة النبوية وعن الرسول الكريم وعن مناسك الحج…. إلخ، وفي رفوف أخرى تعرض تذكارات وسجادات للصلاة وبعض الحلي للبيع كذلك، في كل مكان من المتحف وضعت بعض الأواني المقلدة طينية أو جلدية أو خشبية كانت تستعمل في ذلك العهد، كلباس جندي أو قربة ماء وغير ذلك من الأواني مع إطلالة على مجسم يحاكي المنبر النبوي، إلى أن انتهينا إلى قاعة عرض تضم شاشة سينمائية عملاقة تعرض فيها «كبسولات» على شكل (3d) تجسد قصة مولد النبي (ص) وعام الفيل وبعض المحطات البارزة في سيرة النبي الكريم، وعند انتهاء العرض الذي تميز بالصوت الجهوري للمذيع والصدى الذي يتردد في القاعة والإضاءة الخافتة، سيتم توجيهنا إلى مكان آخر وسيطلب منا قبل الولوج وضع الهاتف على خيار الطائرة mode avion » » هناك سنتعرف على غرفة شبيهة بالغرفة النبوية الموجودة بالمسجد النبوي بالمدينة المنورة، التي توفي بها النبي( ص)، والتي كانت غرفة عائشة، رضي الله عنها، كان هذا العرض مختلفا قليلا عما قدم لنا في المراحل السابقة، حيث اعتمد على الواقع المعزز ثلاثي الأبعاد، الذي كان له عظيم الأثر في نفوسنا لأنه قربنا قليلا من حياة النبي الكريم ووفاته ودفنه في الغرفة ذاتها مع صحابته الكرام أبو بكر وعمر، كما تم تقديم نبذة عن مختلف المراحل التي مر منها المسجد النبوي والغرفة النبوية منذ عهد الرسول (ص) إلى وقتنا الحالي.
سنخرج من هذه القاعة بعد عدة دقائق ثم سنتوجه بمعية أحد المرشدين إلى جناح مختلف تماما، إذ لم يعتمد التكنولوجيا الرقمية والشاشات العملاقة والإضاءة الباهرة بل كانت التحف التي تعرض فيه أصلية وفريدة لامست كل جوانب من حياة المغاربة المسلمين المتبعين لسيرته المتفانين في حبه وتعظيمه وتقديره( ص)، فسيرة الرسول الكريم منهج حياة متكاملة لم تترك جانبا من حياة المسلم إلا ولامسته وأعطت فيه القدوة والموعظة الحسنة، سيرة ومنهج يوصلك إلى الله تعالى، في متحف أو جناح “صلة المغاربة بالجناب النبوي الشريف، جمال المحبة والوفاء”، الذي تشرف عليه الرابطة المحمدية للعلماء، تم تجسيد تلك المحبة التي يكنها المغاربة على مر العصور للرسول الكريم، كان أول من استقبلنا في هذا الجناح رائحة الأصالة المغربية التي حافظت على ذلك الرباط المقدس الذي يجمع المغاربة الموجودين في أقصى أرض الإسلام بنبي الإسلام، سكينة تستشعرها في أول خطوة تخطوها في هذا الجناح المتميز بهدوء مريح زادت من درجته المرشدة البشوشة المتمكنة من معلوماتها التي أسهبت في شرح مفصل حول صلة المغاربة بالرسول ومختلف تمظهراتها، سواء من خلال المخطوطات التاريخية النادرة المكتوبة باليد لعلماء ورحالة بل حتى لملوك وسلاطين مغاربة، أو اللوحات والعملات القديمة، أو من خلال نماذج من العمارة والزخارف والنقوش المغربية المتميزة، وكذا من خلال مختلف معاملات المغاربة اليومية، ومعاملات ملوكهم وسلاطينهم، مع بعضهم البعض، واتباعهم للهدي النبوي وللسيرة النبوية في أخلاقهم وتجارتهم وكيلهم ومكيالهم، ومراعاتهم، على مر التاريخ، لما كان عليه النبي من كريم الأخلاق وحسن السلوك واقتدائهم به ومحبتهم له، سيرة جسدها المغاربة في العمارة المغربية التي اتخذت شكل نعل النبي، في الأقواس والقبب والزخرفة، وفي الكتابة والخط المغربي، وفي المخطوطات الأصلية التي تتحدث عن النبي وسيرته، والتي برع المغاربة في كتابتها وتدوينها، وفي لوحة «بركة محمد» التي كانت تعتلي كل بيت من بيوت المغاربة خصوصا في الصويرة التي حرص بها مؤسسها سيدي محمد بن عبد الله على أن توضع أعلى كل باب حتى بيوت اليهود منهم…
سيرة تظهر أيضا في حرصهم على الصاع النبوي في الكيل، في معاملاتهم التجارية التي تنتهي دائما بجملة «صل ع النبي»… وغيرها كثير، وكلها تجسيدات ملموسة للسيرة النبوية التي ترافق المسلم كل حياته، في اهتماماته ومعاملاته الدينية والدنيوية وفي معيشه اليومي، تجسيدات لسيرة النبي ظهرت أيضا في احتفال المغاربة كل سنة بالمولد النبوي، ولابد من التذكير أيضا ونحن نحتفل به بداية الأسبوع، في 12 من ربيع الأول، أن المغاربة ابتدأوا الاحتفال بهذه المناسبة العطرة والذكرى العظيمة منذ أزيد من ثمانية قرون، حيث كان أبو العباس العزفي السبتي المتوفى سنة 1236 ميلادية أوّلَ مَن دعا إلى الاحتفال به، والذي كان يطوف على الكتاتيب القرآنية بسبتة ويشرح لصغارها المغزى والغايات من هذا الاحتفال العظيم، حسب بحث لمحمد التهامي الحراق، وذكر ابن عذارى المراكشي أن ابنه والي سبتة أبو القاسم العزفي كان “يُطعم أهل سبتة ألوان الطعام، ويؤثر أولادهم ليلة المولد السعيد بالصرف الجديد من جملة الإحسان إليهم والإنعام، وذلك لأجل ما يطلقون المحاضر والصنائع والحوانيت يمشون في الأزقة يُصلون على النبي عليه السلام كما كان طول اليوم المذكور يسمّع المسمّعون لجميع أهل البلد مدح النبي عليه السلام، بالفرح والسرور والإطعام للخاص والعام، جارٍ ذلك على الدوام في كل عام من الأعوام».
ويعتبر تمسك المغاربة بهذا الاحتفال السنوي من مظاهر حبهم للنبي وتفانيا في اتباع سيرته ودوام فرحهم به( ص ) والتشبث بمكارم أخلاقه وسعادتهم به وبيوم مولده (ص) وكما قال أحمد شوقي، «ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء عند ولادة الرسول الكريم أضاءت الدنيا بأسرها، وعمت السعادة في كل الأرجاء».