السينما بصيغة الحاضر (1/2)

تمفصلات السرد السينمائي.. البحث عن جماليات جديدة

 

العرض السينمائي هو شهادة ميلاد الفيلم، واللحظة الفعلية لولادته الفيلم، الذي يجعل من المشاهدة فعلا مشاركا في العملية من خلال الانغلاق في مدة زمنية معينة، تجعل من المتفرج مشاركا في عملية التفاعل في الزمان والمكان، وتجعل من هذه المدة في حد ذاتها مبلورا للقيمة السينمائية. العرض في القاعة السينمائية ليس إكسسوارا، ونوعا من الترف انه فعل مساهم بنسبة كبيرة في الفعل السينمائي، والاعتقاد بأن الفيلم عابر للشاشات بكل أنواعها الصغيرة والكبيرة، ولاختلاف ظروف العرض هو اختصار الفيلم في الحكاية فقط، واستثناء لكل ما هو سينمائي.

انطلقت فكرة اختراع السينماتوغراف، وظهورها من الرغبة في تصوير الحركة، ومن قدرة شبكة العين الانسانية على ملء الفراغات بين صور ثابتة يخلق تواليها الحركة، أي أن العين تحتفظ بالصورة الملتقطة ثانيتين، الشيء الذي يجعل الصورة تترابط مع الصور الموالية وتلتحم معها، وتولد الحركة أو بمعنى أدق يولد الإيهام بالحركة. إذن السينما هي صور متحركة، نتيجة توالي ولقاء مجموعة من الصور الثابتة بوتيرة 24 صورة أو25 صورة في الثانية، الحركة التي لا وجود لها خارج المدة الزمنية للعرض، ولا توجد إلا في ذهن المتفرج.
يولد الفيلم من لقاء لقطات فيما بينها ووجودها مجتمعة، الشيء الذي يجعل أشياء لا تجمعها علاقة، أو تجمعها علاقة في الواقع، تترابط فيما بينها في علاقة أو علاقات جديدة وفق ترتيب معين، الواحدة بجانب الأخرى، داخل وعاء المدة الزمنية المثبتة على الشريط الخام، على شريط مغناطسي (الفيديو) أو في ذاكرة رقمية تتحول إلى حياة عندما تعرض. الحديث هنا ليس عن العلاقات بين أشياء تترابط فيما بينها بمبدأ السببية، لكن عن علاقات بين أشياء في بعدها الفزيائي وأشياء تبقى منفصلة فيما بينها، ولا تترابط إلا بكونها توجد في فضاء نفس المدة الزمنية، مما يجعلها تخلق معنا أو إحساسا جماليا عند المتفرج، إحدى خصوصيات العملية الإبداعية في السينما عن كل الاشكال التعبيرية الأخرى.
أدى تطور السينماتوغراف السريع، وتحولها مباشرة بعد اختراعها إلى فرجة شعبية من العرض في المقهى، إلى السيرك إلى صالة العرض، من عرض لقطات متفرقة إلى الفيلم، إلى وجود وعاء الحكاية لاحتواء الأشياء وجعلها مترابطة أكثر بمنطق السببية لإعفاء ذهن المفرج من مجهود لصالح خلق المتعة. لكن تاريخ السينما رغم ذلك تخللته لحظات مفصلية في شكل قطائع أو كانت موازية مع ظهور مدارس وتيارات سينمائية جديدة (الواقعية الإيطالية، التعبيرية الألمانية، الموجة الجديدة الفرنسية، سينما-الحقيقة في إنجلترا، السينما المستقلة في الولايات المتحدة الامريكية…) أو تجارب فردية، كانت دائما تأتي بفكرة العودة إلى الأصل، وجعل الحكاية ذريعة فقط أو التخلي عنها بشكل نهائي لتحرير السرد السينمائي من مجموعة من الأعراف التي أخذت شكل قواعد بفعل الزمن، لصالح فعل التسجيل، ولجعل الباب مواربا أمام إمكانية ولوج الواقع إلى الفيلم.
**********
في الفيلم الأمريكي عجلة الألوان The Color Wheel 2012 لأليكس روس بيري. أتى سيناريو الفيلم كما يلي: تطلب جيير من أخيها كولين أن يرافقها لتستعيد حاجياتها من منزل أستاذها الذي كانت تربطها به علاقة غرام. كان جيير وكولين دائما على خلاف ولكن خلال مسافة السفر سيتعلمان تحمل بعضهما البعض. وهي حكاية واضحة بسرد خطي وسلس ومبررات حكيه تتقاطع مع مجموعة من الأفلام، حيث أن جل الأفلام في العمق تحكي مسار التصالح مع الذات والآخر. من الناحية الإخراجية، تخلى، عن الروابط بين اللقطات وبين المشاهد، بشكل نهائي، إلى درجة انه داخل نفس المشهد، أي داخل استمرارية الزمان والمكان، لم يتخل فقط عن الربط بين اللقطات بالحركة أو النظارات أو بالقطع الحاد أو احدى تقنيات الربط، ولكن بفصل اللقطات عن بعضها بلحظات قصيرة من السواد الصامتة. عندما يتم قطع المشهد بالسواد والصمت خلال المشاهد الأولى من الفيلم نعتقد أن الأمر يتعلق بنهاية مشهد، ولحظة المرور إلى المشهد الموالي، لكننا نفاجئ في اللقطة الموالية أننا ما زلنا في نفس المشهد، في نفس الزمان والمكان، ويتكرر الأمر عدة مرات خصوصا في مشهد الحفل إلى أن نتعود على ذلك، ويتحول إلى قاعدة خاصة بالفيلم، تشبه إلى حد ما طريقة التقطيع في الأفلام الصامتة -خصوصا وأنه فيلم بالبيض والأسود- حيث كانت المشاهد يتخللها توقف يضم جزء من نص الحوارات أو الإعلان عن بداية فصل جديد من الحكاية، وهي كانت ضرورة فرضها غياب الصوت، ولم يكن قط اختيارا فنيا كما هو الشأن في فيلم هذا الفيلم، أو في أفلام أخرى تستعيد تقنيات السينمات الكلاسيكية بنوع من النوستالجيا.
في حالة فيلم” عجلة الألوان» تم التخلي عن الحوار المكتوب على الشاشة باعتبار أن الفيلم ناطق، ولا تسبق فصوله عناوين. الاحتفاظ بالسواد كفواصل، جعل لقطات الفيلم منفصلة، لكن حكيه لم يأت مفككا، الشي الذي يعيد في نظري النظر في قواعد الربط السينمائية بين اللقطات، ويعيد النظر أيضا في محددات الوحدات الفيلمية من الناحية الدرامية، حيث ينتقل بوضع اللقطة من كونها فقط وحدة مكونة للمشهد إلى وحدة مكونة للفيلم.
إن لحظات فراغ الشاشة من الصوت والصورة قد يعني توقف الحكي أو توقف الفيلم ولو مؤقتا، لكنه في سياق استمرارية العرض السينمائي يتحول إلى وحدة فيلمية تؤدي وظيفة ما في سياق توالي اللقطات وتدفقها. إن قصر مدة هذه التوقفات التي لا تتعدى ثواني، يجعلها غير كافية لنخرج من أجواء الفيلم، إنها المدة اللازمة لتوقف صدى الأصوات في أُذُني المتفرج، والمدة التي تحتفظ بها العين بآخر صور بحكم قدرة ذاكرة العين بيولوجيا على الاحتفاظ بالصورة ثانيتين، القدرة التي تصبح مضاعفة بفعل قوة الظلام التام داخل القاعة. إن ما قد ننعته فراغا يتحول زمن العرض إلى لحظات تولد عند المتفرج إحساسا جماليا وإيقاعا ما عندما تتوفر المدة الكافية قياسا مع مدة لقطات العمل لتلتحم فيها عناصر الفيلم المرئية، أي آخر صور، وأول صور في المشهد الموالي أي الصورتان اللتان توجدان عند طرفي هذا الصمت، بعيدا عن التأويل والإسقاط الذي قد يجعل من هذه القطائع تعبيرا عن أحاسيس الشخصيات أو عن القطيعة بين جيري وأخيها كولين.
إن السرد السينمائي مبني في الأصل على القطائع بين المشاهد في الزمان والمكان، أي أننا من مشهد إلى أخر نمر من مكان إلى أخر، ومن زمن إلى أخرى، ومهما كانت الروابط بينها فإنها تبقى منفصلة، نحاول أن تغلب عليها بسلاسة وهمية لأن المكان كإحدى محددات المشهد وكمعطى فزيائي حتمي لا يمكن التخلي عنه. تلك اللحظات التي يقفز عليها الحكي السينمائي عادة، ولا يظهرها الفيلم، فيقوم ذهن المتفرج بتخيليها في حدود حاجته لها للفهم، وإعادة تركيب الحكي الكلي ذهنيا، أي أننا نتخيل ونعيش الزمن الواقعي من خلال زمن الحكي المكثف، ومن خلال لحظات متفرقة، انتقيت من زمن الحكاية حسب ببنية معينة، ووفق مجموعة من أعراف الكتابة الفيلمية، تجعل من الفيلم في ظاهره كأنه لحظة مستمرة، كأنه لقطة واحدة.
عندما نسجل الواقع بالصورة والصوت، فنحن لا نقوم بتحويله كمادة خامة، وصبه في وعاء لغوي مكون من علامات مجردة، إنه يحتفظ بنفسه كما هو على الشاشة، واقتطاعه من زاوية نظر معينة يتضمن قراءة أولية له، وربما تأويلا، لكنها قراءة تبقى مفتوحة، ويمكن إعادة قراءتها، حسب الاستعمال في سياقات التركيب، وسياقات العرض.
إن الصورة السينمائية تبقى محافظة على مادتها، لأنها قد تصور بنية مسبقة وبفكرة وضع في سياق فيلمي معين أو تصور بشكل عفوي منفصل عن مشروع فيلم أو قد تصور لفيلم معين ويتم استعمالها لفيلم آخر أو في أفلام أخرى أي أن الصورة السينمائية تحتفظ بوضعها كمادة خامة بنسبة كبيرة، بعكس الجملة المكتوبة التي عندما تتموقع داخل نص ما يكون ذلك نهائيا، وهي في الحقيقة لا يمكن أن توجد منفصلة عنه، لأنها تتبلور من داخل النص، والعودة إليها في نص آخر- ابداعي او نقدي- يتم الإحالة إلى مصدرها في النص الأصلي، مهما كانت نوعية هذه الإحالة.
عندما نصور شارعا، فصورته على الشاشة هي شارع، وليس مجموعة من العلامات أو الأصوات كما هو الشأن في اللغة المكتوبة والشفهية، إن تصوير منظر طبيعي هو في النهاية منظر طبيعي، نتأمله على الشاشة في الزمن الحاضر، ولو تعلق الأمر بقرن بعد تصويره.
غالبا ما لا يتطابق زمن السرد السينمائي مع الزمن الواقعي وزمن الحكاية، أي أن الفيلم السينمائي الذي تتراوح مدته في الغالب بين 70 دقيقة و120 دقيقة أو أكثر في حالات نادرة، يصور حكاية قد تمتد خلال عشرين سنة مثلا أو أكثر أو أقل، ونادرا ما تتطابق زمن الحكاية مع زمن السرد الفيلمي، وحتى لو كان الفيلم يحكي ساعات من حياة الشخصية، إلا في حالات نادرة في تاريخ السينما. يمكن ان نسوق بعض الأمثلة منها «الحبل» لألفريد هيتشكوك الذي هو عبارة عن تركيب لما يظهر في الفيلم أنه لقطة واحدة، حيث استعمل المخرج مجموعة من الحيل للإيهام باللقطة الواحدة من بينها القطع عند مرور الكاميرا على مناطق السواد، أو فيلم فروة فينوس لرومان بولانسكي الذي هو إعادة تركيب لنفس اللحظة ليس باستعمال اللقطة الواحدة ولكن بالتقطيع، أو فيلم تابوت روسي2002 لألكسندر سكوروف الذي هو عبارة عن لقطة واحدة مدتها 96 دقيقة صوت خلال 96 دقيقة تحكي آخر 96 دقيقة من حياة الارستوقراطية الروسية أثناء الثورة البلشفية. هذه حالات نادرة لأفلام تتقاطع فيها مدة الفيلم مع مدة الحكاية، وفي حالة قصوى حتى مدة التصوير كما هو الشأن في فيلم التابوت الروسي.
*******
انطلاقا من فيلمه الأول «حالة اختناق» ذهبت سينما كودار بالتخلي التدريجي، عن كل أعراف الكتابة السينمائية السردية، لينبني الفيلم كليا على قدرة ذهن المتفرج على خلق علاقات بين مجموعة من المواد الفيلمية، أي أجزاء من الواقع لا تتلاقى في الواقع، ليجعلها بفعل المونتاج قريبة بمنطق 1+1 يساوي 3، أي أن اصطدام ولقاء بين لقطين أو بين لقطة وصوت معين قد يولد لقطة ثالثة في ذهن المتفرج، أي لقطة ذهنية حيث توجد السينما، هذه المعادلة تتطلب في الأساس التخلي على فكرة جعل اللقطات تلتحم كليا وتتوحد فيما بينها شكليا في خدمة نص سابق الوجود، مقابل جعلها تحتفظ بوجودها ككثل متفرقة ومستقلة عن بعضها البعض. أي أن التواجد في وعاء مدة الزمنية لأشياء ربما لا تربطها اية علاقة مباشرة في الواقع أو تربطها، لكنها في هذا الوضع تترابط بعلائق أخرى غير تلك التي اعتدناها، افقيا اللقطات فيما بينها، وعموديا اللقطة في علاقتها بالشريط الصوتي، وكل تنويعات وتفريعات هذه العلائق، تجعلها تترابط، وتخلق عنصرا جديدا يبلور معنى وإحساس جديدين، من هنا تتحقق القيمة السينمائية، ويولد معنى في طبيعته، لا يشبه المعنى في جزء كبير منه المعنى، كما هو متعارف عليه، وكما يتبلور من نص مكتوب أو مسموع، هو معنى لا يمكن القبض عليه بنفس اليقينية وتثبيته بسهولة في اللغة. اننا في الكتابة نقبض على المعنى ونثبته بنفس اللغة التي كتب بها النص موضوع القراءة، أي الكلمات، أي أنه ليست هناك أي قطيعة من حيث طبيعة النص الإبداعي والنص النقدي. إن النص وتفسيره لهما نفس الطبيعة ويكتبا بنفس اللغة ويسلكا نفس مسار البناء بنفس المواد والآليات. إن المعنى الذي يتولد من تفاعل عناصر سينمائية أي الصوت والصورة، لا يمكن ان يكون له وجود مشابه لعمل فني أدبي أو مسرحي لان مادتهما الخام مختلفة، يخلق تجميها في وعاء الحكاية والمدة الزمنية للفيلم موقفا مختلفا عن الحياة والفنون الأخرى. لماذا لا نفترض أو نتخيل أن مقاربة أو قراءة فيلم بفيلم آخر قد لا ينجر مباشرة، قد يأتي بعد زمن طويل، مما يخلق شبكة من العلاقات، وحوار بين الأفلام لا تحترم كرونولوجيا معينة، مما يبلور تاريخ السينما، وهذه حكاية أخرى.
أعتقد أن جزء كبير من القيمة السينمائية للفيلم تتحدد بكونه كمجموعة من الاختيارات الفنية، وتجميع لعناصر من الواقع صوتا وصورة، وتتحقق أيضا مدة عرض الفيلم المستمر والغير المنقطع على عكس التلفزيون الذي يتخلل عرضه فترات استراحة والاشهار بالإضافة إلى وجودنا كمتفرجين في وضعية يمكن ان نجمع بين مجموعة من الأنشطة ومشاهدة الفيلم. العرض السينمائي هو شهادة ميلاد الفيلم، واللحظة الفعلية لولادته الفيلم، الذي يجعل من المشاهدة فعلا مشاركا في العملية من خلال الانغلاق في مدة زمنية معينة، تجعل من المتفرج مشاركا في عملية التفاعل في الزمان والمكان، وتجعل من هذه المدة في حد ذاتها مبلورا للقيمة السينمائية. العرض في القاعة السينمائية ليس إكسسوارا، ونوعا من الترف انه فعل مساهم بنسبة كبيرة في الفعل السينمائي، والاعتقاد بأن الفيلم عابر للشاشات بكل أنواعها الصغيرة والكبيرة، ولاختلاف ظروف العرض هو اختصار الفيلم في الحكاية فقط، واستثناء لكل ما هو سينمائي.
قد يكفي مثلا أن نعرض لقطات نركبها جنبا إلى جنب صورت في ازمنة مختلفة ومن طرف اشخاص لا تجمعهم أية علاقة ودون أي نية مسبقة عندما نعرض هذه اللقطات مجمعة في وعاء لحظة العرض بتوالي اعتباطي قد يبلور علاقة فيما بينها، ويجعل تلاقيها يخلق إحساسا ما عند المتفرج، وقد يدفعه هذا الوضع إلى بدل مجهود ذهني للبحث عن الروابط، بالأحرى ادا كانت هذه اللقطات مصورة ومركبة بنية مسبقة، ولو غابت الحكاية.
القيمة السينمائية ليس معطى قبليا، ظهر مع ظهور السينماتوغراف، ولكنها وليدة تاريخ السينما وتطورها كصناعة، وكفن. تطور مفهوم القيمة السينمائية، وبدأ التساؤل عن تحديد معالمها، ورسم الحدود الفاصلة بينها وبين مجال السمعي-البصري بشكل واضح عندما لم تبقى السينما مهيمنة على السوق. في الجزء الأول من القرن العشرين كان كل ما يصور، ويعرض على الشاشة الكبرى، الوحيدة المتوفرة آنذاك هو كذلك ولم تكن الحاجة إلى توصيف ما هو سينمائي وما هو ليس كذلك. إن ان الصفة السينمائية كتصنيف لم تكن واردة إلى حدود ظهور وانتشار التلفزيون. أصبح من المفروض في إطار هذه المنافسة ترسيم الحدود بين ما هو سينمائي، وما هو ليس كذلك على مراحل. في البداية بمحاولة يائسة من طرف الاستوديوهات الهوليودية اما الانتشار السريع للتلفزيون في المنافسة بالاستثمار في إنتاجات أفلام ضخمة حاولت أن تستغل كل إمكانيات الشاشة الكبرى لتوفير فرجة مختلفة عن الشاشة الصغيرة، لاسترجاع الجمهور الذي بدأ أنداك يهجر قاعات السينما.
مع المدارس السينمائية التي ستظهر انطلاقا من النصف الثاني من القرن العشرين أي مع ظهور التلفزيون، ستتطور السينما بالتخلي عن أسلوبيا وتكنولوجيا، والعودة إلى بساطة البدايات بوعي واختيار جمالي، وليس لأن ذلك كان مفروضا بالحدود التكنولوجية لتلك الأزمنة، لتجديد وتحريرها لكي تصبح قادر على قبض الواقع، وأكثر ديمقراطية.
بالمقابل بدأ التلفزيون باختصار السينما في الحكاية وجعلها في المقام الأول بإمكانيات محدودة في البداية، وباستعادة الاجناس السينمائية بجمالية بسيطة ووظيفية، واستعمال اللغة في حدود كونها وسيطا لنقل الحكاية. سننتقل من العرض إلى البث، ومن الإخراج إلى النقل التلفزي، ويتحول الفيلم في شبكة البرامج في نفس درجة مقابلة كرة القدم أو الاخبار أي برنامجا، ومبررا لبيع شاشات الدعاية في ساعات الدروة.
********
إنجاز فيلم لا يجعل من الفيلم موجودا، لأن الفيلم لا يوجد خارج زمن عرضه، ولادة الفيلم تبدأ يوم عرضه، اليوم الذي يبدأ في الانطباع في ذاكرة المتفرجين، وجود الفيلم هو تلك اللحظة العابرة التي يلتقي فيها مع المتفرج في فضاء العرض مخصص لذلك كيفما كان نوعه. إن العرض السينمائي هو ذلك الوعاء الثاني بعد الفيلم نفسه الذي يجعل سلسلة من الترابطات التي يقيمها الفيلم بين مجموعة من الأشياء ممكنة بشكل متماسك، الشي الذي يفتح لذهن المتفرج مساحات وإمكانيات أخرى للتفكير والمتعة.
البحث عن جعل لقطات الفيلم مترابطة فيما بينها بالشكل الذي يوهمنا بأننا من الناحية الشكلية نشاهد لقطة وحيدة، يلغي الإمكانيات الجمالية التي يحققها القطع وانتقالات الكاميرا من لقطة إلى أخرى، كاستعارة على زاوية نظر المخرج وتعددها، وكأنه يدفعنا ان ننسى اننا امام فيلم، وكأن ذهن المتفرج غير قادر على الربط بين لقطتين، بين جملتي نص، لا تربطهما روابط شكلية مباشرة. إن الربط المباشر لا يمهل الذهن ليجد العلاقات بين الأشياء أو يقيمها بينها توجد مجتمعة أو متفرقة في العمل.
عندما يبلور الفيلم بالهوس بخلق روابط مباشرة بين الأشياء، يختزل اللغة في خدمة الحكاية، ويجعل الإحساس بلعبة الميز-نسين تغيب، وتغيب معه إطارات الشاشة وجمالية الانتقالات، خوفا من ضياع المعنى والوضوح، إلى تجربة ينغلق فيها الفيلم على ذاته، ويصبح كلعبة شكلية ندخلها نتمتع في اللحظة بها بنوع من الانبهار، وتنتهي الحكاية عند الخروج من القاعة. لا تمتد تجربة الفيلم من الشاشة إلى الحواس والجسد والذهن الذي يستقبل الأشياء ويخزنها في الذاكرة دون أن يكون مشاركا فيها بملأ فارغات الحكاية وربط الاحداث والمشاهد واللقطات كل حسب نفسيته وثقافته، لتتحول الفرجة إلى تجربة حقيقية تترك اثارها وتستمر عندما يتوقف العرض، تنطبع في الذاكرة الفردية والجماعية.
إن البحث عن حكي سلس لا تتخلله قطائع وانسيابية مطلقة يمحي متعة جمالية اللغة، ولا يحتفظ إلا بمتعة جمالية الحدث. ينفي ذلك التوتر الي يمكن أن يوجد بين اللقطات أي بين لقاء اللقطات فيما بينها ويحرمها من إمكانيات عديدة من الولوج إلى مناطق أخرى في الذهن، تذهب عكس الخطاطات التفكير التي تعودنا عليها إلى حدود الحظة، الآليات التي تجعلنا ننظر إلى الأشياء من زاوية معينة لا نحيد عنها إلا بالقليل، ونادرا. إن تجربة فيلم لا يجب أن نخرج منها مطهرين بالمعنى الأرسطي لكلمة التطهير، ولكن بالعكس نخرج بطبقات جديدة وإضافية من الدنس لمساءلة الوضع القائم والانسجام الخادع الذي تظهر به الأشياء، وبإمكانيات جديدة لرؤي العالم والأشياء والتساؤل، وتدفعنا إلى إعادة النظر في البديهيات، لأننا فقط نكون قد توقفنا قليلا لتأمل الأشياء وتوقفنا عن اعتبار الأشياء بديهية، لأنه ببساط لا شيء بديهي في الحياة وان المعرفة قد تقف عقبة امام التعرف، وإعادة الاعتبار لما نعتقد معرفته بحكم العادة والتعود والتكرار. السينما تساعدنا على إعادة اكتشاف تفاصيل الحياة برؤية جديدة. تقيم السينما بيننا وبين الواقع علاقة مختلفة عن اللغة التي تقوم بتحويله الى علامات تجريدية، انها تحتفظ به كما هو وبالتالي غياب هذه المسافة النسبية، وكون ان الأشياء تحظر على الشاشة كما هي يجعلها تحيلنا مباشرة الى واقعنا، تدفعن ان نفكر فيه وفقا لتلك التركيب والبناء التي حضر به في الفيلم الشي الذي يجعلها تؤثر مباشرة في مستوى بسيط على حياتنا اليومية، بإعادة التفكير في ذواتنا والعالم وذواتنا في علاقتها بالعالم.


الكاتب : محمد الشريف الطريبق

  

بتاريخ : 26/02/2022