بعد ظهور التصوير الفوتوغرافي، تحرر فن الرسم من مجموعة من القواعد الأكاديمية، مما أدى بالفنانين إلى هجر المحترفات، والخروج للقاء الموضوع، تغيرت مقاربة الفن التشكيلي للواقع، الذي لم يعد موضوعه تخيلا أو استرجاعا أو مصنوعا داخل المحترف، وأصبح الرسام في علاقة مباشرة بالأشياء التي يود ان يرسمها دون وسائط، متحررا من فكرة إعادة انتاجها كما هي، لينتقل إلى رسم الانطباع الذي تولده عنده في اللحظة والحين، أي ان الحاضر حاضر فعل رسم اللوحة أعيد له اعتبار مع حركة الانطباعيين وما بعدهم. يصادف ذلك لحظة ظهور السينما صدفة. إن كلود مانيه في وقت لاحق عندما كان يرسم Nymphéas زنابق الماء وعينيه مريضتين لا يحاول بحيلة ما ان يخفي عدم قدرته بصريا في تمييز الأشياء والألوان ولكنه يرسم هذه الحالة أو الوضعية كما هي، أي يرسم كما يرى وان يتقاسم معنا اللحظة، بنزاهة، ودون أي خداع.
تذهب سينما كودار في اتجاه خلق علاقة بديلة عن تلك التي تعودنا عليها بين المتفرج والفيلم، وذلك بالتخلي التدريجي عن كل العناصر التي تتأسس عليها السينما السردية المبنية على التماهي. إن كودار يخلق عند المتفرج نوعا من الالتباس والحيرة والتوتر وهو يتابع نفس المشهد، عندما يقطع أجزاء تحرم الأخير من إتمام الجملة ليتم المعنى شكليا ومعنويا. مثلا عندما يصور صفحة أو صفحات من كتاب سوف يذهب إلى تأطير الصور بالشكل الذي يجعل النص عبارة عن كلمات لا تربطها ببعضها اية علاقة وبالتالي غير مفهوم، وهذه المشاهد تعود كثيرا في كل أفلام كودار. هناك رغبة في تجاوز المعنى اللفظي إلى المعنى الصوتي أو الشكلي في بعده الفيزيائي. وعندما يضع في الشريط الصوتي مقطعا موسيقيا، يوقفه في منتصف الجملة الموسيقية تتحول معه إلى نشاز، يتعامل بنفس الطريقة مع الحوار الذي يقطعه بنفس الطريقة، أو يترك الأسئلة دون أجوبة مثلا.
يكتفي كودار بمبدأ تجميع مواد، بكونها مواد، وليس تمثلاتها، وجدت في الحياة اليومية للمخرج في اللحظة التي وجد فيها محفز للوجود فكرة مشروع إنجاز الفيلم، قد يتعلق الامر ببساطة بطلب من منتج، أي أن الفيلم في كليته يولد كفعل في الزمن الحاضر أي كحصيلة وتجميع لأفعال وأشياء تصادفت في نفس الزمن وفي محيطه. إن الفيلم في هذه الحال، لا يحكي بمنطق الحكي الروائي، احداث ماضية نستعيدها باللغة وفعل الحكي، يحاول أن يقبض على الحاضر، ومندمج فيها كليا، لا تتحول الى فعل ماض، لأنه بعد فعل التصوير، فعملية التلقي نعيشها في الزمن الحاضر، ولأن الأشياء على الشاشة تعاش في الآن. ان فعل التصوير الذي بريد ان يستعيد الماضي، لا يوجد إلا بكونه صور توضيحية لفكرة سابقة، بمنطق إعادة تمثيل الجريمة ينسى أو يحاول ان يتناسى انه كذلك، أي حدث إعادة تمثيل الجريمة يريد أن يوهما بأنه هو نفسه الجريمة. أي ان السينما بمنطقها الداخلي عندما تريد ان تستعيد الماضي فإنها تنظم ذلك في إطار لعبة الأدوار، بمسافة نقدية مع منطق الايهام والتخدير الشامل، أو كحيلة لحكي الحاضر. بالتالي نلاحظ أنه في أفلام كودار يغيب مفهوم الشخصية ببعدها المتداول في الرواية والمسرح الكلاسيكي، وبالتالي فان أداء الممثلين يتراوح بين أداء أي لا يذهب في اتجاه تقمص شخصية ما لا وجود لها، أو أداء يكتفي من خلاله الممثل بالحضور الجسدي وأداء نص لا تجاوز حدود الإلقاء بالمعنى البسيط والحرفي للكلمة، وبغياب تام للتمثيل والتقمص.
بعد ظهور التصوير الفوتوغرافي، تحرر فن الرسم من مجموعة من القواعد الأكاديمية، مما أدى بالفنانين إلى هجر المحترفات، والخروج للقاء الموضوع، تغيرت مقاربة الفن التشكيلي للواقع، الذي لم يعد موضوعه تخيلا أو استرجاعا أو مصنوعا داخل المحترف، وأصبح الرسام في علاقة مباشرة بالأشياء التي يود ان يرسمها دون وسائط، متحررا من فكرة إعادة انتاجها كما هي، لينتقل إلى رسم الانطباع الذي تولده عنده في اللحظة والحين، أي ان الحاضر حاضر فعل رسم اللوحة أعيد له اعتبار مع حركة الانطباعيين وما بعدهم. يصادف ذلك لحظة ظهور السينما صدفة. إن كلود مانيه في وقت لاحق عندما كان يرسم Nymphéas زنابق الماء وعينيه مريضتين لا يحاول بحيلة ما ان يخفي عدم قدرته بصريا في تمييز الأشياء والألوان ولكنه يرسم هذه الحالة أو الوضعية كما هي، أي يرسم كما يرى وان يتقاسم معنا اللحظة، بنزاهة، ودون أي خداع.
تحكي لوحة أو لوحات «كاتدرائية روان» لكلود مانيه التي زمن رسمها بتحول الإضاءة، أي ان اللوحة تحتفظ بكل الأزمنة التي رسمت خلالها، لأن الرسام ربما كان له اختياران أن يعود يوميا إلى نفس المكان ليصادف نفس الإضاءة أو أن يستمر في الرسم ومحاولة تذكر الإضاءة التي بدأ بها رسم اللوحة، لكنه فضل أن يختار المدة الزمنية عوض اللحظة التي سيتنازل عنها الفن التشكيلي لصالح الفن الفتو غرافي مع التطور الذي عرفه الأخير فيما يخص زمن العرض (سرعة فتحة الكاميرا) الذي أصبح يقل، وبالتالي أصبح القبض على اللحظة ممكنا.
لقد تمكن الفنان التشكيلي انطلاقا من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من القدرة على القبض على تلك الأحاسيس التي تولد من اللحظة واللحظات التي يجتازها فعل الرسم، أدى في بعض الحالات إلى تكثيف لمجموعة من اللحظات في مساحة اللوحة أي في المكان. ربما بنفس المنطق وجدت التكعيبية من حيث ان اللوحة تضم تعدد زوايا النظر مجمعة في زاوية نظر واحدة، زاوية نظر اللوحة أي حيث يقف جسد الرسام من الموضوع.
في لوحة أو لوحات الكاتدرائية روان أو لنقل بشكل عام حركة الانطباعيين يتعلق الأمر هو محاولة القبض على الزمن، وفي حالة التكعيبية هو محاولة تمثل المكان بكل ابعاده، أي أن ان اللوحة التي من المفروض أن تعبر عن زاوية نظر وحيدة تحولت الى تعبير عن مجموعة من زوايا النظر لنفس الموضوع، ربما لتعبير عن حقيقية الشيء. ادا كانت كاتدرائية روان تعبير عن حركة الضوء أي حركة الزمان، فإن التكعيبية في زمن لاحق تعبير حركة في المكان، وفي كلتا الحالتين يحتفظ العمل الفني مرئيا بأثار الفعل الذي أوجده وتكتيف للزمن أو مجموعة من اللحظات في نفس اللحظة، تتقاطع فيه حكايتين حكاية الموضوع المصور، وحكاية فعل الرسم ذاته وإن غابت الحكاية في الموضوع المصور، فإنها تحضر في فعل التصوير ذاته الذي يترك اثاره على سطح اللوحة، التي تتحول إلى مساحة عاكسة وشفافة في نفس الآن.
*******
التوجه لمتفرج سلم نفسه بشكل ارادي كرهينة للفيلم، في وضع لا يستطيع فيه الحركة أو توقيف العرض متى شاء، وفي فضاء يعمه ظلام مطلق، وشروط تقنية تجعل الكتابة السينمائية، تختلف عن كتابة تتوجه إلى متفرج سيد الحدث، يمكن ان يوقف العرض متى شاء واستعادته في لحظة لاحقة، وحتى تغيير سرعة العرض (في حالة بعض منصات مشاهدة الأفلام). الكتابة لسينما يكمن أن تكون أكثر مغامرة وجرأة من شاشة التلفاز، لأن المتفرج يوجد رهن إشارة الفيلم. الوضع الذي يجعل من السينما متحررة من مجموعة من شروط الإثارة والتشويق والابهار التي أصبحت تميز الأعمال الدرامية إلى درجة أن الاعمال التي تقترحها الآن منصات مشاهدة الأفلام أصبحت تتشابه بشكل، الوضع الذي دفع هذه المنصات نفسها ولخلق هامش من التنويع لاقتناء أفلام المؤلفين المعروفين أو تنتج أفلاما تعتبرها مختلفة ومستقلة ابداعيا أو تنفتح على السينمات الوطنية لم يمكن لها موقع في السوق العالمية، لتحافظ على موقعها في السوق وزيادة عدد المشتركين.
عندما كانت السينما هي الفرجة الوحيد المتوفرة والأكثر شعبية، عندما كانت هي الفرصة الوحيدة لمشاهدة الصور المتحركة والحكايات، كان الذهاب الى السينما عادة وتقليد، وكان كذلك بقوة الواقع، وبفعل الندرة وعدم وجود إمكانية أخرى للترفيه بالشكل الذي وفرته السينما لا من حيث ثمن التذكرة التي كانت في المتناول أو من حيث توفر فضاءات العرض في المدن والقرى أكانت معمارا أو قوافل متنقلة أو عروض في الهواء الطلق، لكن مع ظهور التلفزيون، سيبدأ بالنسبة السينما العد العكسي، بنفس الشكل الذي فقد به المسرح شعبيته، وتحول إلى فن نخبوي نسبيا مع ظهور السينما والتلفزيون.
********
جاء فيلم الرصيف La jetée لكريس ماركر1962 عبارة عن حكي بمتتالية من صور الثابتة، وكأن الأمر يتعلق بقصة مصورة. فيلم يضع صور ثابتة داخل مدة زمنية تبث فيها الحياة، وتعيد النظر حتى في مبدأ كون السينما هي صور متحركة. إلى كون السينما هي وجود صور ثابتة أو متحركة، أو أشكال مطبوعة على الفيلم الخام مباشرة (كما هو الشأن في بعض الأفلام التجريبية) في مدة زمنية ما، كانت مصحوبة بشريط صوتي أو صامتة، الشيء الذي سيفتح امام التعبير السينمائي إمكانيات جديد وافاق رحبة. نحن في فترة لم يظهر فيها بعد مفهوم سينما التحريك وما زالت أفلام الرسوم المتحركة تنجز للأطفال، ولم تأخذ بمأخذ الجدية بعد، ومازالت الحدود بين الوثائقي والروائي قائمة.
********
ذهب الآن كفالييه بعد مسيرة مجموعة من الأفلام الناجحة جماهيريا إلى انجاز أفلام تقطع نهائيا مع الأسلوب الذي اتبعه في الأفلام السابقة، مرورا بتجربة تقطع نسبيا مع التجربة السابقة كفيلم تريز الحاصل على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان سنة 1986 تخلى فيه لآن كفالييه عن الديكور والاحتفاظ بخلفية وحيدة ثم بعد ذلك إلى فيلم حررني 1993 libera-me/ الذي صور بنفس الأسلوب مع التخلي هذه المرة عن الحوار. بعد هذه التجربة سينتقل كفالييه إلى تجربة أخرى، سيتخلى فيها عن كل شيء، ويحتفظ فقط بكاميرا رقمية صغيرة لتصوير أفلامه وحيدا، أفلام تقترب في اسلوبها من مذكرات شخصية أو يوميات. احتفظ الآن كفتالييه فقط بفعل التسجيل بالصورة والصوت المباشرين، حتى التعليق والحكي الشفهي المرافق للصورة والذي يتم عادة تسجيله في مرحلة ما بعد الإنتاج يقوم به مباشرة في لحظة التصوير، الشيء الذي يجعل اللقطة بكل مكوناتها وليدة اللحظة، لحظة التسجيل، وهو في الحقيقة تمرين صعب.
********
بعد مسيرة مجموعة من الأفلام، أنجزت بشكل متعارف عليه مهنيا وتقنيا انطلقت بفيلم اليوم الذي سقط فيه الخنزير في البئر 1996 ثم المرأة مستقبل الرجل 2004 وحكايات السينما2005 وكان لها حظ المشاركة في مهرجانات كبيرة والحصول على جوائز، تخلى ونغ-سان-سونغ مند سنوات في أفلامه الأخيرة عن كتابة السيناريو والإنتاج والتحضير المسبق للعمل والطاقم التقني…تنطلق فكرة انجاز فيلم معين من وجود إمكانية لتصوير في ديكور معين وموافقة صاحبه على استقبال الطاقم التقني الصغير لونغ-سان-سو ولمعداته البسيطة. عندما يتوفر ذلك يتصل بالممثلين الذين يأتون بملابسهم، يستيقظ في الخامسة صباحا، ويكتب مشهدا مستوحى من المكان الذي من المفروض ان يصور فيه خلال اليوم والممثلين الذي تم استدعاءهم، يشتغل بطاقم صغير يضم فقط مدير تصوير ومهندس الصوت، وعندما يحتاج تقنيين اضافيين، يطلب من طلبته في الجامعة، حيث يعمل كمدرس، وحيث يوجد مقر شركته الحضور للمساعدة. مع هذا التحول في مساره الفني أصبح ونغ-سان-سون يصور ثلاث أفلام في السنة تشارك هي الأخرى في مهرجان كبيرة، وتحصل على جوائز من بينها …في مهرجان برلين …..
في غالبية أفلام ونغ-سان-سون يتقاطع نسبيا الزمن الواقعي مع زمن السرد، جل افلامه تحكي يوم أو يومين من حياة الشخصية التي أغلبها تعمل في السينما لكن الفيلم يلتقطها خارج أجواء العمل كما هو الشأن في أفلام المخرج الفرنسي إريك رومير الذي يفضل هو الاخر ان يحكي حياة شخصياته غالبا خارج فترات العمل، خلال العطل مثلا. إنها سينما الزمن الحاضر بامتياز. تقطع كليا مع الكتابة الدرامية، وتأتي في شكل وقائع يومية، تحفزها أشياء بسيطة لا تشكل الاستثناء في حياة الشخصية، وتغيب فيها الحبكة الدرامية بالشكل المتعارف عليه. نرتبط بالشخصيات لا بكونها حاملة لهدف درامي أو لأنها ستقوم بإنجاز ما، ولكن لأنها حقيقية وتشبهنا، ونرتبط الفيلم الذي في ظاهر يبدو بسيطا لكنه عند نقطة معينة نكتشف ان الامر اعقد من ذلك ونكتشف ان السرد الذي في ظاهره خطي وسهل، يذهب بنا إلى المتاهة، في منطقة يجد ذهن المتفرج في بعض الحالات صعوبة في إيجاد الحدود ما بين ما هو واقعي، وما هو متخيل داخل سياق احداث الفيلم.
عبر مجموعة من الأفلام تكرر نفس الوجوه، أي نفس الممثلين ونفس الأماكن أو على الأقل المتشابهة، وتكرار نفس المواقف ونفس الثيمات (إلى درجة أنني شخصيا أجد صعوبة في تذكر فيلم بعينه لأن الذكريات تختلط، وكأننا امام نفس الفيلم، يعيده بتغيير ترتيب بعض العناصر أو تغيير زاوية نظر الحكي من شخصية إلى أخرى) ترسم أفلام ونغ-سونغ-سو حكاية تطور أسلوب سينمائي من خلال هذا التكرار مع بعض التنويعات، وفي اتجاه نوع من التقشف وسلسلة من التنازلات عن الأشياء التي يمكن للعمل السينمائي أن يوجد في جوهره بدونها، أي يمكن ان بتخلي عنها، أشياء نعتقد أنها أساسية، ولكنها في جوهر وجود عمل سينمائي ليست إلا اضافات. ترسم إذن أفلام هذا المخرج طريقها بترك في كل مرة شيئا ما على مراحل. والتخلي هنا على ما يبدو من الأفلام، البحث عن تخفيض ميزانية الفيلم أو استراتيجية للترويج، ولكن للبحث عن أسلوب سينمائي شخصي يستطيع أن يقبض على الحاضر بدون حواجز، ليتحفظ الفعل السينمائي بطراوته، وعفويته بتقليص المسافة بين فكرة الفيلم ولحظة الإنجاز، الشيء الذي يتطلب في النمط الحالي للإنتاج السينمائي سنوات. القطع مع تقاليد العمل المتداولة، والعودة إلى بساطة الفعل كما كان في بدابته في زمن الطفولة السينما عند ظهورها، هو شكل من اشكال المقاومة من داخل منظومة الإنتاج، وخلق نوع من التوازن بين السوق والابداع وعدم التوازن لصالح الابداع.
بمناسبة وجوده بمهرجان كان الدولي رفقة مجموعة من الممثلين، وقبول صديقته ايزابيل هوبير التي عرض عليها الفكرة، سيصور فيلم « كاميرا كلير «2017، وهو مرة أخرى وكسابق أفلامه مرتجل وجون سيناريو سابق، وممكن فقط بفعل توفر بعض إمكانية وظروف العمل. في إحدى حواراته بمناسبة خروج احدى أفلامه، وجوابا على سؤال كيف ولدت فكرة الفيلم، يرد الأخير أن فكرة مشروع فيلم ما، وجدت لأن منتجا عبر عن الرغبة في انتاج عمل له، ويكون في تلك اللحظة قد قرأ كتابا ما، وألتقي بممثل أو ممثلة أو اثار انتباهه في احدى الأفلام التي شاهدها في نفس الفترة، أي أن مشروع الفيلم باختصار هو حصيلة لكل هذه العناصر، أو أخرى التي تصادفت في اللحظة، ولا يوجد في انفصال عن الحياة اليومية لصاحبة، وبعلاقة مباشرة معها.
********
ربما لأننا أصبحنا غارقين في الصور التي تحاسرنا أينما ولينا وجهنا، فقذ يصبح الذهاب الى السينما طقسا، وتصبح الصور التي نذهب إلى مشاهدتها في السينما صورا مختلفة عن التي نتداولها يوميا على التلفاز، وعلى الحاسوب، والهاتف النقال، وشاشات الدعاية التي تملأ ساحات المدن، وفترينات المحلات التجارية، ولافتات الاشهار الإلكتروني وغيرها… كل الفراغات أصبحت تعوضها الشاشات تعرض بدون توقف الصور المحركة والثابتة والتي تم تحريكها أو بلورتها رقميا وكأننا في حرب.
طقس الذهاب إلى السينما في هذا الوضع بريء من عفوية البدايات، وبصبح فعلا واعيا بأن مشاهدة فيلم في ظروف العرض السينمائي مكمل للعملية الإبداعية، بنفس منطق الفن المعاصر الذي تحول فيه الفن التشكيلي من اللوحة إلى الحدث، حدث عابر وفاني، حيث ان العمل الفني لم يعد مثبتا على لوحة أو منحوتا يمكن امتلاكه وتداوله، ولكنه حدث عابر ومحدود في الزمان والمكان، الفرق أن العمل السينمائي يحيا بمناسبة أي عرض الذي أصبح هو الأخر نادرا.
أفضل أن اشاهد فيلما لا يعتدر عن كونه فقط فيلم، ويحاول أن يوهم بشفافية ما أو كأنه واقع، بالعكس أفضل أن أشاهد فيلما يستمد قوته الإبداعية من كونه فيلما، ومجموعة من اللقطات أي ان يكون العقد بينه وبين المتفرج نزيه، يُظهر الأشياء كما هي، ودون أي خِداع. كما أفضل أن أرى الآثار التي تتركها مسارات الفرشات على اللوحة، بحيث تتحول من مساحات مسطحة إلى تضاريس شاهدة على الحركات التي تعرضت لها، وعن طبيعة المواد التي رُسمت بها وانفعالات واحاسيس الذات المسؤولة عن ذلك.