السّردُ خُطةٌ جمالية ووعيٌ ضدّ الزوال

في رواية أحمد المديني « درب الحاجب 36»

1. حين علمت بصدور رواية « درب الحاجب، 36»، سألت نفسي، ماذا، يا ترى، يكون أحمد المديني قد كتب بعد روايته « رجال الدار البيضاء « التي بدت لي، من خلال تتبع إبداعه الروائي والقصصي، تكثيفًا و»تصعيدًا» جماليًا لإبداعه الروائي، وارتقاء به إلى مستوى جعلني أفترض، عن خطأ كما سأتأكد في ما بعد، أنها إحدى « ذُرى» رواياته، أودع الكاتب فيها جَماع أسرار إبداع السردي، وصَهر فيها، بصنعة الكيميائي ودُربته، سُلافة رؤاه الفنية، ظل يختبر ويقلّب بدائلها، تبعًا لرهاناتٍ وسياقاتٍ روائيةٍ متنوعةٍ ومتباينة.
تعاظَم سؤالي وانتظاري، لكون المديني، ظل يُفصح، أيضا، خاصة في رواياته الأخيرة، عن هاجس يؤرّقه؛ هاجسُ التوقف عن الكتابة، لشعوره بأن « لكل شئ نهاية»، وأن المبدع، قد يبلغ، «سِنَّ اليأس»، يكُفُّ عن الإبداع، ويخلَد إلى الراحة، من تعبٍ أو وهن؛ وأيضا، لدَرء محاذير التكرار واجترار المثيل، وكذا لحيرة تنتابُه، تقُضُّ مضجعه وتُشيع في نفسه قدرًا من اليأس، قد يخِفّ أو يشتدّ وقعُه عليه، من جدوى الكتابة وفائدتها في مجتمع لا يقرأ (كما أثير ذلك مثلا في روايته: رجال ظهر لمهراز).
هما، إذن، سؤالٌ وانتظارٌ استبقا قراءتي لرواية « درب الحاجب 36»، واشترطا، كما تقول الرطانة النقدية، استقبالها وتلقّيها. وكم كانت دهشتي كبيرةً أثناء القراءة وبعدها؛ إذ تأكد لي أن رواية «رجال الدار البيضاء»، لا يمكن أن تدّعي لنفسها الاستفرادَ بمزِيّة « النصِّ الجامع»، المكثّف والمُصعّد، لإبداعية المديني، والمرتقِي بإبدالاتها إلى ذُراها. أفترضُ أن رواية « درب الحاجب 36»، قد أبانت بدورها عن أن القدرة الإبداعية عند الكاتب، لم تبُح بكامل أسرارها، ولم تفِ بعد، بوعودها كلِّها. لقد بدت  الرواية، برؤيتها الفنية المجددة، وبمعمارها المركّب وطرائقِ بنائه، وبلغاتِها، تعددت طبقاتُها ومستوياتُها ، وبأمكِنتها،  انبسطت خرائطَ بمعالم دقيقة، برغم ما اعتراها من محو  وبدَد، وبأزمنتها المتراكبة، وبشخوصها، هي ذواتٌ متمايزةٌ ومصائرُ فريدة، وبلعبها الحاذق والشّائق بالواقع والخيال؛ بهذا كلِّه وغيرِه، بدت الروايةُ  تكثيفًا و» تصعيدًا» جديدًا، لجماليات وإبدالات الإبداع عند الكاتب، رهانُها الكتابةُ عن موضوع فريد، أو هو «لا موضوع «، يعصَى على  الاحاطة والإمساك، يتأرجح واقعًا وخيالاً، وجودًا وعدمًا، مرئيًا ومحجوبًا،  يكاد يُصيب من كابَده ، أو خاطر بالحكي او الكتابة عنه،  بالخبَل والجنون.
تأكد لي كذلك، أن صعوباتِ الاستمرار في الكتابة، يشعر بها المديني، بله يفزَع منها، في كل تجربة إبداعية جديدة يحدِسها ويتهيّأ لها، هي أمرٌ محايثٌ لفعل الكتابة لديه. فهذه تتخلّق من قلب استحالتها، وصعوبة تحققها.  يمكن أن نقول إن إبداع المديني، شأنَ أي إبداع حقيقي، ينطوي على استحالته، على بياض الاستحالة وصمتِها، لا يتحقق ضدها، أو بالرغم منها، بل يتحقق بفضلها، هي نسغُه ، « سببُ وجوده وسرُّ مثابرته وإصرارِه عليها.  قرينٌ ما يسميه سبينوزا persistance dans l’être.
« ركِبني فزعٌ غيرُ مسبوق، هل سأبقى أراوح في المكان وأتلعثم بالسؤال؟ هل بلغت سنَّ يأس الكتابة، أوَ ليس لكل شئ نهاية؟ وماذا سأفعل بنفسي بدونها، على الأقل لما تبقّى من العمر؟، فجأةً، لا شك، مَسٌّ من الجن آخرُ أصابني « فهداني» أخيرا إلى صراط ذاتي غيرِ المستقيم..» ص 15.
2. كنت وصفت رواية «درب الحاجب»، بكونها معمارًا. وهي كذلك لأنها أخذت شكلَ رواية مركّبة، بصفحاتها التي ناهزت 624 صفحة، بأقسامٍ، وفصولٍ قصار، لم يتعدّ أغلبها ثلاثُ أو أربعُ صفحات.  ضمّت الرواية محكيَيْن كبيرين، هما بالأحرى روايتان متقاطعتان. الأولى، كتابة سيِر ذاتية، مشروعٌ لم يكتمل، اعتزمت إحدى شخصيات الرواية، حمدان لحريزي، كتابتَها بعد بلوغها سنّ التقاعد.
بدأت الرواية بسفَر لحريزي إلى برشيد، مسقط رأسه، لجمع المعلومات التي يحتاجها لكتابة سيرته، التقى أولا بخالته المُسِنّة يأمل أن يستعين بذاكرتها التي أصابها الخرف، ثم بابن خالته عبد الواحد، شخص ظلّ وفيًا للمدينة، لم يغادرها شأنَ كثيرين، وجده لحريزي يبحث عن مأوى لمجانين أصبحوا مشرّدين بعد نشوبِ حريقِ في المشفى الذي كان يأويهم. والوثائق التي تعرّف بهم.
لن يكتمل مشروع كتابة السيرة. إذ سيتوقف باختيار من الكاتب نفسه، «فضّل» حين انتهى إلى مفترق هام في الرواية، محكيًا كبيرًا ثانيًا، تمدّد وتوسّع، فأصبح قلبَ الرواية، مدارَ جذبها، ونواتَها الصلبة، حولها، وبتعالق معها، انتظمت باقي المحكيات، تعدّدت بتعدّد متكلمّيها (الكاتب، السُّرّاد، الشخصيات، الأشياء…)، فأضفت تنويعاتٍ على أحداث الرواية، أثرت عوالمَها، ووسعَت مظانّها.
التخلّي عن المحكي الأول، لم يكن نهائياً، إذ سيعود إلى الظهور من جديد في قسم أخير من الرواية، قسم «وصْلُ ما انفصل»، لإعادة لحْم ما بدا كتلتين نصّيّتين متمايزتين، التقيَا في صياغة وضعيات مارقة، لأشخاصٍ مجانين أو على حافة الجنون، وحّد بينهم فقدانُ بوصلة الهوية وبداهةُ الانتماء.
أما المحكي الثاني الذي أفضى إليه اختيار الكاتب، فيعود زمنيًا، إلى بداية الثمانينيات ( 1982)، تاريخ تقرر فيه إخلاءُ درب الحاجب المحاذي لدرب الحبوس بالدارالبيضاء من ساكنته، وإعادةُ إيواء قاطنيه في حيٍّ جديد (الحي الحسني)، لتوسيع مضمار الإقامة الملكية.  بحثت الرواية في ملابسات هذا الحدث، بالعودة أولاً إلى نشأة الدرب في بداية القرن العشرين، تشكّل بيوتات وطيئة وبسيطة، قطنتها ساكنةٌ قدمت أيام الاستعمار من مناطق من جنوبي المغرب بحثًا عن العمل بمدينة الدار البيضاء. وقد أقيمت هذه البيوتات على أرض كانت ملكيّتها تعود إلى حاجب ملكي اسمُه اعبابو، كان يعمل بداية القرن الماضي حاجبًا للسلطان مولاي يوسف.
كما بحثت الرواية في ملابسات الحدث، بالبحث في الوثائق وجمع شهادات بعض من عاشوا وقوعه، وتنويع محافل الرواية ومصادرها، وعبْر تخييلٍ أضفى على حدث الرحيل، بُعدًا مجاوزًا لواقعيته المفترضة، ومتعدّيًا لماديته المشهودة، واستكناه، كما سنرى، ما انطوى عليه من أبعاد «لا واقعية» ولا معقولة».
2- هكذا إذن، قاربت الرواية حدثَ رحيل الساكنة، توثّقه، وتستقصي الواقعَ وشهادات الغير. أما حين يعُوِزُ الواقعُ وتَقصُر الشهادة، فإن الرواية تستعين، كما يقول كاتبُها، بالخيال، لسدّ ثقوب الواقع ومَلء ثغراته.
وبالكشف عن هذا المسعى الجمالي، أضفَت الرواية على موضوعها وضعًا مفارقًا. فالمكان الذي تكتب عنه، لم يعد موجودًا، أصبح عدمًا، والحيواتُ التي كانت تقطن فيه، تحيا وتعيش، طوى أغلبَها النسيان أو واراها الغياب. لذا صدرت الرواية عن رؤيا مفارقة، جهدت من خلالها في إعادة الحياة لمكانٍ زائل، بماديته الصلبة، بأحيائه وبيوتاته، بموقعه الذي يفرزه عيانًا، مثْبتًا بحدوده الجغرافية، على سطح خريطة الأمكنة المجاورة، وبحيوات ساكنته، بحكاياتها وسلوكاتها اليومية، وقتَ أن داهمها الرحيل؛ لعمري حدثٌ جلل، أربك وجودها وعصفَ بسكينتها الألوفية، فكان أن تفاعلت معه، بترقّبٍ وخوفٍ وتوجّس، بيأسٍ وامتثال، بالشكوى والضّراعة، برفض ضمرته، وعبر تمثلّات تمتح من معين متخيَّلٍ شعبي جماعي مشترك، لم يُسعفها على استيعاب فداحة الحدث، وإرجاءِ وقوعه الحتمي.
لقد سلكت الرواية، في إحدى محطاتها الحكائية الفارقة، منحى الحبكة « البوليسية» القائمة على التحقيق والتشويق، واستنطاق الآثار الدّارسة والعلامات الحائلة لاستجلاء «الحقيقة»، حقيقةِ ما حدث، بعد أن انبرى الكاتب الذي «ثبَت» لديه خلط ٌوإبهامٌ في استعادة الوقائع من قبل محافل روائية أخرى، إلى إجراء مقابلات مع أشخاص ( رواةُ أمثال النبّاش، ابن أمين النّجار.. )، ساعدوه على تجميع المعلومات وتدقيقها ونخْلها، سعيًا إلى بناء الحدثِ بعناصره الموثوقة.
بيد أن هذا المسعى الذي استغرق فصولاً من الرواية، لن يلبث أن يصطدم ب» االقدرة الغرائبية واللاواقعية « التي ينطوي عليها الحدث. إذ لن يلبث هذا الأخير أن يفلِت من زمام الرصد والتدقيق وإعادة البناء، كي يستعيد زخمّه اللاواقعي ولا معقوليتَه الفاحمة، وينفُر من محاولة «عقله» وتوثيقه. إنه، بمعنى ما، الوجهُ المنقلبُ للحدث، جانبُه المضئ والمعتِم، المتحقق و»المحتمل»، القابلُ وغير القابلِ للتصديق في آن؛ مسعًى مستحيل إذن، يحتار الكاتب في شأنه: «هل هو كابوسٌ ما أتخبّط فيه أم واقع صخر».
لقد أعادت الرواية الحياة لهذا الدرب أساسًا من خلال بعثه الخرائطي، أمعنت الرواية بإلحاح متواتر، شبهِ عُصابي، في تدقيق إحداثياته، وتثبيت معالمه، لاستبقائها حاضرةً وماثلة.  وأيضا، من خلال بعث الحياة في الدرب، عبر إسناد السرد لشخصياتٍ عاشت فيه، وتمثيل حيوات ناسِه، في معيشها، وبواسطة لُغاتها وخطاباتها الشفوية، وإدراكاتها ومتخيّلها الجماعي، دون فلكلرة أو نزوع غرائبي، الكلّ يرشَحُ بأتراحها وأفراحها، فيما أفقُ عيشها أضحى مدلهِمًّا، بنُذُر عاصفة.
تبعًا لذلك، التقطت الرواية وضعيةَ الدرب، وفق دينامية متصاعدة، وعبر منظور شخصياته ( بوفارس، فاتح، الفقيه التّاودي، ميلود العشاب، العسكري، جعفر النباش، لهراوية..الخ)، تناوبت على الحكي والتعليق والمناجاة والتبتل، أحيانا، رجعُ صدى الوقع المتنامي للحدث، بدأ شائعةً،  ثم أضحى حقيقةً، أقوى من فرضة صادمة. وقادت الرواية جَماع هذه الأصوات، بما فيها أصواتُ كائنات جامدة، بحسٍّ يمزج الهزْلَ بالمأساة، صنيعَ قائد أوركسترا، يرتّب بوليفونية آلاتِ العزف، أعني بوليوفونية الرواية، كي يمضي بها، دون نشاز، إلى العزف الأخير، هو اللحنُ الذي أنهى، بضربة لازِب، وجودَها بالدرب.
بيد أن الرواية، بصنيعها هذا، تعي سطوةَ العدم، وتزِن محاذيرَ مطاولته. ولعله المعنى الذي اختزنه مسبقًا الجزءُ الثاني من عنوان الرواية (36). ثمّة شخصيةٌ رئيسةٌ في الرواية، وأحدُ سُرّادها المميزين، تعكس المآل الذي يُفضي اليه الإصرار على استدامة علاقةٍ بمكان صار أثرًا بعد عين. هو «بوفارس»، شخصية متبصّرة، حدست منذ البداية، ثم وعت بدون أوهام، المصيرَ الذي ينتظر الدرب. لكنها ستُصاب لاحقًا بما يمكن أن نسمّيه، ب «رضّة فقدان المكان»، فأصبح الشخص منشطِرًا، على حافة الجنون، إن لم يكن جُنَّ بالفعل، يعيش دون تمييز، بين المكانين، المكان القديم الأول، ومكان الإقامة الجديد. يعاني مما يمكن وصفه أيضا ب « إنكار الأمر الواقع» ، بالإصرار على أنه يقيم، لا يزال، في درب الحاجب، وليس في الحيّ الجديد. استفحلت وضعية بوفارس بعد أن لم يتمكن من الحصول على شهادة السّكنى لقضاء أغراض إدارية طارئة، لكونه ليس محسوبًا على الحيّ الجديد، يأبى الاعتراف لنفسه بأنه أصبح واحدًا من ساكنته، كما يستعصي عليه في الآن، إثبات سكناه في حيّ لم يعد له أثر في خرائط المدينة وفي وثائق الادارة، بل ولم يَعُد له حضورٌ في ذاكرة الجماعة. سينتهي الأمر ببوفارس إلى اللجوء إلى صديق قديم، حمدان لحريزي، يعمل في إدارة سرية، بمصلحة « تقييد النفوس»، تحتفظ وتصون المعلومات، قديمها وحديثها، كي يطلب المساعدة على إثبات انتمائه لمكان لم يعد.
هي وضعيةٌ تنضح في الوقت نفسه بالملهاة والمأساة، تفتح الرواية إبدالاتها، وقدراتها على التخييل والابتداع، لتستوعبها، وتستوعب غيرها من وضعيات انطبعت بدورها بالمروق والخبل والجنون.  منها محكيُّ فاتح، الذي التحف بجنونه ليقاوم الرحيل، بالصراخ عاريا، وبالقهقهات العالية، وبتدوين أقوال ابن خلدون تنتقد العَسف والجَوْر وتمريرَها على الورق الذي يستعمل في بيع الزريعة وكاوكاو، قصد التداول الواسع؛ وأيضا المحكيّ الطريف لمجانين برشيد، اشتعل حريق في المشفى الذي يؤويهم وفي وثائقهم الشخصية، فأصبحوا مشردين بلا هوية، فلجأوا بدورهم إلى الإدارة السّرية، لاستخراج البيانات التي يستعيدون بها هويتهم المفقودة، فضلا عن المآلات المجنونة لشخصيات أخرى.

4. في هذا السّياق، لم يشأ الكاتبُ تركَ قارئه بعيدًا عن التصورات والانشغالات الجمالية التي انتظمت وفقها كتابةُ روايته الجديدة،  وافتراضًا رواياتٍه السابقة. منها علاقة الكتابة بالجنون، أو بممارسة « الشّطط ضد العقل للانتقال إلى كوكب حياة غير مسبوقة. ما يعني ان الكتابة هي في الأصل مشروع « مجنون»، لأنها لا تتطابق، مبدئيًا، مع الأشياء، أو تتماهى وتتماثل مع واقع الحال. هي خطُّ انفلاتٍ وجنوحٍ وانطلاق. من لا يَعي ذلك قراءةً أو كتابةً، يجدر به أن يغادر مضمارَ الرواية، ويكتفي بنتاجات العقل و «الحس العام».:  «ما باليت يومًا بمطابقة الخيال للواقع، أو قصورِ الثاني عن الأول، إذا كان أحدُهما موجودًا بقوته المادية، والثاني متصوّرًا وراء ما تُدركه الأبصار، فهُما معًا عند الكاتب نِتاجُ إرادةٍ وثمرةُ جنونٍ لا بد منه، شططٌ ضد العقل، لننتقل إلى كوكب حياة غير مسبوقة، يجب.»
أوْلت الروايةُ عناية خاصة بالقارئ.  تخاطبه باعتباره شريكا في الكتابة، وليس قارئا تابعا، يستهلك المنتوج، دون أن ينفذ إلى الأهم: كيفية إنتاج الرواية أو طريقة صنعها. لذا غالبًا ما تلجأ رواية المديني إلى كشف لعبها وعرض صنيعها، تُعلّلهما بخطابات ميتا روائية، تَشِفُّ عن منظورها للكتابة، تضع القارئ في قلب مختبرها، تشاطره أحيانًا الحيرة والتردد اللذين ينتابان كاتبها، خاصة حين يُشرف على مفارقها الكبرى، حيث تجد الكتابة نفسها مجبرةً على الاختيار، اختيارَ مساراتها وحسمها، واستبعادَ غيرها، شأنَ ما تفعله كلُّ كتابة، في طور تناميها، تُجبر على تقليص ممكناتها، والحدِّ من احتمالاتها، والاقتصارِ عنُوةً على بعضها دون البعض الآخر.
كذلك فعل الكاتب، حين اضطر إلى الاختيار بين تمديد علاقة حمدان لحريزي (صاحب مشروع السّيرة الذاتية)، بابن خالته عبد الواحد والاسترسال في حكايات قاطني الأمراض العقلية في برشيد؛ أو العودة بحمدان لحريزي إلى الدار البيضاء، وإلى مكان عمله، كي يشرع الرواية على أبعاد حكائية أخرى، لا زالت تتلامح في ذهنه أو مخيلته، لكنها تبدو « ألصقَ بفضاء وشخصيات وهموم الرواية التي تبنى وتكتب تحت سمعكم وبصركم.» هذا، مع ترك صفحة بيضاء للقارئ الذي « لم يعجبه سردنا»، يدوّن فيها اقتراحاته البديلة.
3- يتأكد هذا المسعى في إفصاح الكاتب لقارئه عن المنطلق الجمالي الذي اعتمده لكتابة روايته؛ ما قد يساعده على عبور مفاوزها ودروبها الوعْرة، إن هو استمات وقبل هِبته الجمالية.
يدرج الخطاب الميتا روائي جماليات الرواية، فيما أصبح الآن تقليدًا، اجترحه فرانز كافكا (تُحيل عليه الرواية ص 331)،  والذي فتح، حسب ميلان كونديرا « ثغرة في جدار الاحتمال الواقعي»، وعثر على الجواب الأنسب لحل المعادلة التي تقتضي «التقاط الواقع والاتغمار في الآن نفسه في لعب فانتازي»
« (Les testaments  trahis. Gallimard.Folio. p.67.68)
دأب المديني في مجمل ما كتبه، على اعتماد جماليات تتأرجح على التخوم الزلقة بين الواقع واللا واقع، الواقع والخيال، الواقع والفانتازيا، باعتبارهما عنصرين متلازمين، تَلازُم التربة مع نبتتها البرية، شأن كُتّاب « يستعملون تربة الواقع لتفتيق الأزهار الغريبة» (سلمان رشدي في حوار مع مجلة « باري ماتش» عدد 20/8/2016.).
هذا المنظور اختزله الكاتب في مفهوم « الواقعية الافتراضية»، لتوصيف كتابة، لا تقف عند حدود واقعٍ مبتسر، ضحلٍ، محدودٍ ومنتهٍ، مليئٍ بالفراغات والثقوب، قاصرٍ عن استيعاب الغياب واللامرئي والعدم. الكتابة وحدها تستطيع مطاولة هذا الرهان، بما رحُبت به من أدواتٍ فنية وحدوسٍ وجنون وأخيلة، كي ترتاد المفازات، مناطات العبور التي تنتزع الحياة من مخالب الزوال:
« بالنسبة لي في روايتي قيد الكتابة الشئُ ذاته وارد، إذ واقعي المشكوك فيه، غير الموثق، سأعوّضه بغيره، بما يملأ فراغاته، قررت أن لا أستعمل في حقه مصطلح تخييل (fiction), imaginaire، أعوّضها بواقع افتراضي لا بمعنى virtuel, وإنما أقرب إلى اصطلاحي المحتمل/الممكنle vraisemblable، سيعطينا ما لم نتوقع، روايةً واقعيةً افتراضية مركّبةً يظهر ويتواصل فيها الدرب الحاجب موجودًا وهو محجوب، ومحجوبًا وهو موجود، مكانًا وحياةً وأشخاصًا/شخصياتٍ ومصائر؛ فكيف يتفق هذا؟ هنا المعضلة، هيت لي!
(…) ثم إن الأخطر ومنه الأبهر في الرواية أن الحياة تمضي والبشر يفنون، فيما هي إن اقتدرت، وحذِقت واستوعبت وتمثلت، وعت وأحست ورأت خاصة رؤية ورؤيا تصبح الضِّعف وتبقى، تشتمل الواقع وما تحته وفوقه، فتجمع الحاضرَ والغياب والحي والفاني في أضمومة؛ وهذا ما أريد للرواية، وأتمنى أن أحقق ب ( الواقعية الافتراضية) ل « درب الحاجب» البقاء الأدبيَّ الأطول، وسأعترف أن من واجبي أن أفعل من أجل أصدقاءٍ وناسٍ بسطاءَ كانوا هنا وكنا» ص 332.
يمكن أن نختم هذه القراءة بالتأكيد على أن خلف الاختيارات الجمالية للمديني، تكمن اختياراتٌ إيطيقية ، تكرّس انحياز الرواية لمبدأ الحياة، بالتجاسر على الزوال، لاستبقاء ما مضى، واستدامة ما انقرض. كذلك مصير درب الحاجب، فبعد أن انمحى موقعه من خرائط المدينة، وغاب أثره من أرشيفات الادارة ووثائقها، وتناسته الذاكرة الجماعية، استضافته الرواية، بتوثيقها وتخييلها، بمروقها وجنونها، لتعيده إلى الحياة من جديد، إلى موقعه الأول، المرسوم في الخرائط المفقودة، ولتبتعث «أجداث» و»رميم» ساكنته (من ثمة بُعدها «القيامي») كي تنبض مرة أخرى، بالأتراح والأفراح، بالمشاعر المتضاربة، بالآمال والمخاوف والخيبات. هي حياةٌ ثانية، تهَبها رواية المديني لدرب الحاجب، بفضلها، يظل باقيَا أبدا في مراتع وأبهاء المتخيل الروائي المغربي والعربي.

* ناقد أدبي


الكاتب : نورالدين درموش

  

بتاريخ : 07/07/2023