( الشعر لا يتطابق إلا مع الأفكار اليقظة الشغوفة بالمجهول، والمنفتحة أساسا على الصيرورة. فليس هناك من شعر إلا حيث يكون ثمَّةَ خلقٌ وإبداعٌ مطلقٌ )
الشاعر الفرنسي: بييرْ جانْ جُوفْ
1 – إقامة في عُشَّيْن سياميين
دأب الشاعر أحمد لمسيح في ما صاغ وكتب من شعر، على مواكبة حركية القصيدة المغربية التي شرعت تبني شعريتها، وتُشَرْعِنُ صوتها وهويتها الغنية المتكثرة بوعي جمالي وتؤدة محسوبة وإِنْ تكنْ أحيانا مندفعةً متسرعة بسبب من تأخرها قياساً بأختها المشرقية والشامية، مجددة لسانها ولغتها وَسَمْتَها فترة السبعينات من القرن الماضي. إذْ كان لمسيح واحداً مِمَّنْ أصابته « هبَّتُها « وشبوبُها، فانخرط فيها وارتمى في أحضانها مغردا ومفارقاً في آن، حيث بنى عُشَّيْن مُسامتين سياميين: عش الفصحى، وعش العامية، بل شبكهما وأدمج هذا في ذاك حتى صارا عشا مزيجا بل واحداً. وهو ما قصرت يد الكثيرين عن بنائه، وحمل القش الوفير والوثير له. ولعل النص الموالي، يلفت انتباه المتلقي إلى عنفوان لمسيح، ورهانه التحديثي، وإدراكه لحرفة وحرقة الشعر والشاعر:
اللّي يبني بالَحْجَرْ
ماشي بْحَالْ اللّي ينقشْ فيهْ
اللّي يْسَمَّرْ لْعودْ
مَاشي بْحالْ اللّي يَتْبوردْ بيهْ
اللّي يزرعْ كْلامو
وبْذاتو يَرْويهْ
ماشي بْحَالْ اللّي يشَدّْ كلامْ الناسْ
ويْعاوَدْ فيهْ. ( شكونْ طرزْ الْما )
كل الجدة والهاجس التجديدي، والبحث عن الصوت الشعري المتفرد، يقوله المقطع أعلاه. ليس ذاك وحسب؛ فرهان تحديث القصيدة الزجلية، ولغة كتابتها وإيقاعها، سيدفع بالشاعر إلى إدماج البعد البصري من خلال هندسة البناء النصي، وجعله عنصرا من عناصر بناء متخيلها، وهو ما يتبدى في طريقة توزيع الأسطر والكلمات على فضاء الصفحة، مكتملا بعملية المحو التي يباشرها كلما تحقق الإشباع الجمالي والدلالي. ولعل ذلك أن يكون إسهاما من جهته، وسعيا حثيثاً إلى إيجاد وتوقيع صوت شعري جديد قلَقٍ مؤْتلقٍ ومختلف يُجَسْدِنُ الشعور والإحساس اللاّهبَ، والحرص على إبراز صور النفس الإنسانية وهي تتفكك وتَلْتَم وتتبعثر، تذهب وتعود، تروح وتجيء في حركة لولبية أو بندولية أفقيا وشاقوليا، إسوةً بمجايليه الشعراء المشَّائين، شعراء السبعينات تحديداً، وبخاصة: محمد بنيس، وعبد الله راجع، وأحمد بلبداوي، ومحمد الطوبي في ما بعد، الذين انحازوا إلى تفجير وتشجير أشعارهم، وتفخيمها حبراً وكتابةً على غرار الشاعر الأندلسي الاستثنائي: « الجلياني «، في ديوانه « التدبيج»، وعلى غرار الشاعرين: مالاَرْميوأبولينيرْ، وآخرين. معجم أحمد لمسيح الشعري، معجمٌ غني متكثِّرٌ وسياميٌّ في الآن عينه. وليس ذلك بِدْعاً ولا سرّاً، إذ كتب في التجربتين اللغويتين: الفصيحة والمفصحة، قبل أن تستغرقه عشقا وَوَلَهاً، وانقطاعاً لها، القصيدة الزجلية التي أعطاها من حدبه ومراودته وتعهده ودمه وصبره، فعرَّشَتْ عاليةَ الأفنان، شهية الأثمار، دانية القطوف. ودليلنا ديوانه الثمانيني الفصيح: (فيضان الثلج) الذي نشرته دار قرطبة. على أن الفصحى لم تغب عن التجربة، ولم يُوَلِّها الشاعر ظهر المجن. فهي حاضرة ناشبةٌ متغلغلة في أطواء نصوصه الزجلية (العامية) مندسةً في الدارج المغربي المشذب والمهذب، منشبكة بتراكيبه الصرفية وأجروميته، متموضعة طَيَّ المخيال والصور الشعرية. فالنص يحوز اللسانين معاً، أو اللسان الواحد بعد انصهار الإثنين.
2 ــ العمل الشعري: « جْزيرةْ فَ السّْما «:
يعكس العمل إياه ـ بدرجة قوية، وبمنسوب عالٍ ـ أناهُ الشعريَّ الغنائيَّ والصوفيَّ بمعناه العريض، وتحولات تجربته مع اللغة والصورة والرمز والأليغوريا، والأشكال البارودية الساخرة، وخبرته بها جميعا. كما يكشف، من ناحية أخرى، عن احتفاء باذخ بالشعر والحياة.
إنه كتاب شعري ذو شجا وشجن، لكنه ـ في العمق ـ دعوة إلى الفرح، وتلك ميزته الكبرى. معالجة شعرية خيالية خلاَّقة لعلاقة الشعر بالشاعر، ما يعني للبحث الشاق والحارق من أجل كتابة نص رفيع يقول كل ما يبتغيه أو لا يقول شيئا.:
سْحابةْ جْزيرة ف السّْما
والشاعر دَمْعة مَنّْها
أو ظلّْها
أو قْبَرْ فيها
أوْ ما كاينشْ
ويكشف العمل الشعري عن كيفية بناء الذات لذاتها مُداريةً مُناورة مُتحرقةً ومُبتهلة، بعد أن يتهددها المحوُ أو ـ في أقل تقدير ـ بعد أن يتهددها العجز والاغتراب. وعن كيفية الخروج من الورطة الوجودية كمثل سحابة يخرج من رحِمِها، الغيثُ، ومن مَشيمَتها الأثيرة: فراخ الحياة، وكتاكيت الضوء. إن « السحابة « هي البؤرة الدلالية والجمالية والرمزية التي ترنو لها كل العناصر والأنفاس، وتنصهر في « بوتقتها « كل المكونات الشعرية البانية للديوان، للحالة النفسية والشعورية، لا للموضوعة أو للمحتوى. بناء الذات لذاتها، يستدعي مفهوم الأنا الغنائي في الشعر ـ كما أتصوره ـ وكما كتب فيه وعنه الناقد إيفْ تادْيي في ( المحكي الشعري ). وكما تحدث عنه في نقده الشاعر الفرنسي بول فاليري، والناقد اللساني الشاعر هنري ميشونيك، والفيلسوفة الألمانية كَيْتْ هَمْبَرْغَرْ، وغيرهم من النقاد والشعراء الكبار. ليس الأنا الغنائي هو ما ينبغي أن تعبر عنه الذات الشعرية غنائيا في النص بتأثيثه بالبديع، وتزويقه بالبلاغة واللغة المرفرفة، والقلب المُدَمَّى، والصورة الباكية الرخوة، والرومانسية السمجة والفجة. بل، إن الأنا الغنائي هو ما يحقق للشعر شعريته، ويمنحه صوته الأعلى الساحر، ولغته الإيقاعية بالمعنى العريض لمفهوم الإيقاع، ومداليله الظاهرة والخفية. الأنا الغنائي هو أُسُّ الشعر والشعرية، وروحها المفارق للخطية السردية الباردة. وقد نجح أحمد لمسيح في إبرازه تعبيريا، والتدليل عليه جماليا، وإتيانه مجازيا واستعاريا وباروديا. إنه انسياب المحكي الشعري في المجرى المبتكر، يسري شاديا وهو يشق أرضا بكراً، ويستمطر غيثا ورحمةً، ويُعْلي بالخيال والتخييل، طُنُبَ الأقاويل الشعرية بتعبير الشيخ الرئيس الفيلسوف ابن سينا. ويُزَيِّتُ، من ثَمَّ، مفاصل وأعطاف الكلام بعذب ولذيذ المُدام. وليس المدام ـ هنا ـ سوى الشعر بما هو: لغة عليا وصوت أمير.
شكلانيا، يتيح عمل لمسيح: « جْزيرة فَ السّْما «، القولَ باستغراقه خصائص الشعرية المجنحة والمشتعلة. فكأنما العناصر الطبيعية التي رُكِّبَتْ وساهمتْ في بناء العمل الشعري، كمثل الفضة البيضاء» سائلة من السبائك تجري في مجاريها» على حد قول البحتري واصفا بركة الخليفة العباسي المتوكل. تضافرت لتحقق ـ بإجمال ـ لغة الشعر، وشعر اللغة مثلما ذهب إلى ذلك « أوغستْ فيلهلمشْليغلْ « أحد أقطاب الرومنسية الألمانية، والترجمة للشعريات الكونية في زمنه. ومعنى ذلك ـ من جهة ثانية ـ أن لغة العمل الشعري لا تحمل معنى النص / الكتاب وحسبُ، بل تحمل ـ استبطانا ـ معنى تجربة الشاعر الروحية والفنية، وخبرته الحياتية. فعمله هذا ينخرط في مشروع شعري أوسع، مشروع توجد اللغة في صلبه وصميمه، مُتْرَفةً رافعةً العامية إلى ذروة البيان الفصيح، مستضيفة اللغة العالمة بما تتطلبه الاستضافة من كرم وجود وحسن استقبال واحتفال واحتفاء. ومن ثَمَّ، يندرج العمل الشعري ـ كما أسلفنا ـ ضمن قلادة شعريته، وفي حلقات سلساله الذهبي التي ما انفكت تومض وتلتمع كلما اقترب منها شعاع النقد الباني والعارف الذي يتمثل، في اقترابه ومقاربته، شعاع الشمس الذي يُفَتِّحُ ويكَوِّنُ بالكْلُوروفيلْ عيونَ وأحداقَ البراعم والبتلات والورود، والورق والشجر والنبات. سنقول بكثير من التعسف ـ ربما ـ أن السحابة هي الشعر، هي الماء والغيث منتَظَراً. وأن الظلَّ ـ بقليل من التأوُّل ـ هو الشاعر يبحث عن الفيء اتقاء لصهد العالم، ورمضاء الواقع، وحر اليومي والمعيش المر. إيحاءات وإشارات وطوابع فلسفية وجودية تثوي وتقيم في نسيج صور شعرية فارهة:
سْحابةْ وَضَّاتْ الشِّعْر
وسْقاتو رْحيقْها
سْكَرْ الشعْرْ
ونْسى راسو فيها
لالَّة سْحابةْ
ارْوِيهْ مَنَّكْ سكْرَة يرْجعْ شاعرْ ( ص: 29 )
ــ ويقول في نص: حاولْ الظَّلّْ يكونْ:
مَلْتْ وانا ظلّْ
وكانتْ السحابةْ مْظَلّْ
خبّاتْني مَنّْها
وأنا كنتْ نَطَلّْ
بْلا سْحابةْ ما كانْ الظلّْ يَوْصَلْ
حَتَّى يَنْجَى مْنْ الضُّو
وبالضّو كانْ وادْ واحْمَلْ. ( ص: 68 ).
توظيف السخرية والباروديا والفلسفة توظيفا إجرائيا حيا لا سكونيا بحيث تتمطى، سعيدة تيَّاهةَ الذيل والأعطاف في أعماله الشعرية السابقة، وفي العمل قيد القراءة، ظل رهانَ وملح لمسيح ووسواسه. فكعبه عالٍ في هذا الباب. سخرية تخدم عموم النص الشعري، وتمنحه دينامية وحركة وتوثبا، تعضده الجمل الفعلية المتلاحقة، والحدس الرؤياوي، والحاسة السادسة. تلك السخرية التي سادت ولا تزال عالمه الشعري ودنياه الفنية. صورٌ ومداليل غاية في الجدة، مستقاة من القاع الشعبي: من لغته وأحواله، وأمثال و» حكم» الناس فيه، ومن تجاربهم الحياتية البسيطة لكن العميقة ارتباطا بمعيوشهم، وأحيانا بغموض مسراهم ومسعاهم، وميتافيزيقا وجودهم. مجاز لغوي مرسل وعقلي وصور ملقحة كما يلقح ذكر النحل ملكتَه اليعسوبَ، بشهي الماء، وشهوة التحليق والبسط، وحلاوة العسل، ودهشة العطر وخدره المجلوب من خواص الخزامى والنبق المنضود، والبنفسج الهائم النائم، والياسمين المتفتح الزاهي.
أخيرا: أحب أن أشير إلى وجوب الالتفات والاهتمام بهذه اللغة الشعرية العامية الجميلة والبديعة، المنحدرة إلينا من الأندلس، وفراديس الحب والغناء وطبوع الملحون. إذ أنها ليست لغة عامية شعبوية حلقوية، وإنما هي لغة مُبْراة محكوكة ومحبوكة ومنخولة ومنتخبة. لغة وُسْطى ( واسطة العقد ) بين الفصيح والعامي. تمتح الجميل منهما، وترتوي من مائهما: تارة من حياض الفصحى، وأخرى من حياض العامية الذي يعج وينغل بثقافة خلفية ثرية ولا نقول تحتية. فأحمد لمسيح كما مراد القادري، كما حميد بلبالي، ورضوان أفندي، ونهاد بنعكيدا، وعبد اللطيف بنيحي، وإدريس بلعطار، وثريا القاضي، وعادل لطفي، ودليلة فخري، ويوسف تهوش، تمثيلا لا حصراً، يمزجون باقتدار وفنية بين القاع اللغوي العامي، والخابية التراثية العالمة، والأفق المعرفي والإبداعي الكوني، وذلك بعض من غايات الشعر والفن والأدب. أحمد لمسيح يكتب شعرا مسكونا بقلق التجريب والسؤال، ويحضر الهاجس الجمالي لغويا وإيقاعيا وتقفويا أحيانا، وسجعا، وتركيبيا ودلاليا، فيما يكتب.. في كل دواوينه الشعرية. ومن ثَمَّ، يكون راكم تجربةً ثرَّةً غنية تماما. فلا أقلَّ من ذكر أن ديوانه» جزيرة ف السما «، يستدعي عُمْقيا لا طُفُوّاً، أعلاما في اللغة والفلسفة والسياسة والشعر والرواية والغناء: الأصمعي ـ ابن حزم ـ نيتشه ـ ماركس ـ تروتسكي ـ ما ياكوفسكي ـ دوستويفسكي ـ المتنبي ـ النفري ـ إليوت ـ السياب ـ إزرا باوند ـ المجاطي ـ وايْتْمانْ ـ رامبو ـ خليل حاوي ـ يوسف الخال ـ جيل جيلالة ـ الحاجة الحمداوية. أسماء شَعَّتْ في العمل الشعري، وأغنته إغناءً لا مزيد عليه، من حيث توريقُ أجنحة البوح الشعري، وتكثيرُ سحائبه وشعاعه وظلاله، بحذق وبراعة وتشغيل مقتدر. جُماعٌ ثريٌّ أنعم على العمل غنىً وأخصبه حتى تلألأت لغته، وتجملت استعاراته، ونفذَ بوحه، وتغلغل صوته، وأغدقت دلالاته، ودنتْ وتدلتْ فاكهته وثماره. أسماء استضافها العمل الشعري واستضافته بدورها، لا بهدف التعالم واستعراض عضلات المقروء، بل بغاية الإضفاء على المكتوب، حرارة ثقافية، وسندا معرفيا، وبُعدا جماليا.
ــ يقول لمسيح:
بالحقّْ.. ما لي أنا فْضولي؟
يَا كْ.. الرّْضاعَةْ أصلْ الكتابة
والشَّهْقة قْفَلْ..؟ ( ص: 83 ).
ــ ويقول في ص 11:
الشِّعْرْ هو اللّي جايْ
ماشي اللي فاتْ
نعم، وهو كذلك يا أحمد. الرهان دوما على القادم ـ الآتي ـ المنتظر والمحلوم به. أما الحاضر ـ الراهن فمنذور للتلاشي والفوات ما لم يُنْجِهِ نبوغُه وماؤُه ووهجه من البقاء والاستمرار في الحياة والوجود.
تــنــــويــه:
يشار إلى أن العمل الشعري لأحمد لمسيح ( جْزيرة فَ السّْما ) مطبعة دار المناهل ـ الطبعة الأولى يناير 2022، تُوّج بجائزة المغرب للكتاب / صنف الشعر برسم دورة سنة 2023. فاستحق، بالتالي، التفاتتنا وعشقنا.