الشاعر خارج التصنيف : في حكمة العري الإبداعي عند الشاعر محمد بنطلحة

يقول الشاعر
محمد بنطلحة:

« مِنْ مَزَايَا الشَّاعِرِ الحَقِيقِيِّ، أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى القَارِئِ بِيَدَيْنِ عَارِيَتَيْنِ،
مِنْ دُونِ وَسَائِطَ، وَمِنْ دُونِ أَنْ يَمُرَّ مِنْ قَوَائِمَ بِالتَّرْتِيبِ: طَوِيلَةٍ، مُتَوَسِّطَةٍ، قَصِيرَةٍ؛
بَلْ، حَتَّى مِنْ دُونِ أَنْ يُقَاسَ إِلَى تَرْتِيبٍ مُسْبَقٍ أَوْ تَصْنِيفٍ مُعَيَّنٍ،
مِمَّا نَجِدُ أَمْثِلَةً لَهُ فِي بَعْضِ المُقَارَبَاتِ وَالمُسَابَقَاتِ وَالمُبَارَيَاتِ – كُرَةِ التِّينِسِ نَمُوذَجًا.
أَيُّهَا الشَّاعِرُ!
اِمْلَأْ رِئَتَيْكَ بِالهَوَاءِ النَّقِيِّ،
سَمِّ رُوحَكَ غَابَةً، وَامْشِ فِيهَا عَلَى رُءُوسِ الأَصَابِعِ،
اِمْشِ دُونَ أَحْذِيَةٍ، دُونَ قُفَّازَاتٍ، وَدُونَ عَكَاكِيزَ.
لَا تَتَسَابَقْ، وَلَوْ مَعَ الظِّلَالِ وَالأَقْدَارِ؛
اِسْبِقْهَا، وَابْقَ خَارِجَ التَّصْنِيفِ.
دَائِمًا، كَذِئْبٍ مُنْفَرِدٍ: يَدَاكَ عَارِيَتَانِ،
وَنَصُّكَ هُوَ المِحَكُّ.
نَصُّكَ غَابَةٌ، وَأَنْتَ سَيِّدُ الغَابَةِ.»

1
الشعر عند محمد بنطلحة فعل وجودٍ ينهض من رماد اللغة، حيث تتقاطع الأسئلة مع الجراح، ويصير البيت الشعري بيتًا للروح قبل أن يكون بيتًا للكلمات. في زمنٍ تتكاثر فيه المسابقات الأدبية والتراتبيات النقدية، يأتي صوته كنسمة نادرة من وعيٍ مضادّ، يذكّرنا بأن الشاعر لا يُقاس بما يكتبه، بل بما يجرؤ على الصمت عنه.
يقول بنطلحة: «من مزايا الشاعر الحقيقي، أن يتقدّم إلى القارئ بيدين عاريتين… لا تتسابق، ولو مع الظلال والأقدار. اسبِقها. وابقَ خارج التصنيف. دائمًا، كذئبٍ منفرد: يداك عاريتان. ونصّك هو المحكّ. نصّك غابة. وأنت سيّد الغابة».
تبدو هذه الكلمات كما لو أنها وصية الوجود للشاعر: أن يظلّ يقظًا ضدّ التصنيف، متخفّفًا من الزخرف، عاريًا من الوسائط، يمشي في اللغة كما يمشي المتصوّف في صمته، لا ليثبت ذاته، بل ليُصغي إلى الوجود وهو يتنفّس داخله.

2
حين يدعو بنطلحة الشاعر إلى أن يتقدّم بيدين عاريتين، فهو يُعيد للشعر أصله الأول: الصدق قبل البلاغة، والكشف قبل الإتقان، والجرح قبل البيان. إنه العُري الذي يتحرّر فيه الشاعر من كل ما يحول بينه وبين نوره الداخلي.
فالعُري هنا ليس انكشاف الجسد، بل انفتاح الروح، تلك الحالة التي يصفها نيتشه حين يقول: «على الفنان أن يجرّد ذاته من القناع، وأن يواجه العالم كطفلٍ يرى للمرة الأولى». بهذا المعنى، العُري الشعري هو عودةٌ إلى الطفولة الأولى للكلمة، حيث لا وساطة بين الذات والعالم سوى دهشة الوجود نفسه.
3
أما الغابة التي يتحدث عنها بنطلحة فإنها ليست مكانًا، بل حالة للكتابة، فضاء داخليا يسكنه الضوء والظلال في آنٍ واحد. إنها استعارة للغة وهي تُحاور الغامض فينا، حيث كل خطوة داخل النصّ تفتح بابًا للتيه، وبابًا آخر للانكشاف.
يقول هايدغر: «الشاعر هو من يُؤسِّس الإقامة في العالم، لأن اللغة هي بيت الكينونة». هكذا يصبح النصّ عند بنطلحة غابة يتعلّم فيها الشاعر الإصغاء إلى أنين الأشجار، ويتعلم أن كل كلمة هي أثر قدمٍ على طين الوجود. فأن تكون سيد الغابة، كما يقول بنطلحة، يعني أن تعرف كيف تضلّ فيها دون أن تفقد طريقك، أن تكتب دون يقين، وتحبّ الغموض كما تحبّ الحقيقة.
4
حين يقول الشاعر: «ابق خارج التصنيف»، فهو يعلن تمرّده الهادئ على ثقافة القياس والمقارنة. إذ التصنيف في جوهره، هو موتٌ بطيء للنصّ، لأنه يُحوِّل الشعر من نداءٍ حرّ إلى معطى قابل للترتيب.
كتب رولان بارت: «الكاتب الحقيقي هو من يكتب خارج الأدب.» فالقصيدة التي تُكتب لتنال اعترافًا أو جائزة، تفقد براءتها الأولى، لأن الشعر الحقيقي لا يتسابق، بل يتنفّس. هو تمرين على الصمت، على الإصغاء إلى ما لا يُقال، وعلى الحفاظ على هشاشة الكائن أمام ما لا يُفهم.

5
في روح ريلكه نجد الصدى الأعمق لهذا الموقف: «اكتب فقط إذا كان عليك أن تموت إن لم تكتب». فالشاعر الحقيقي يكتب لا لأنه يريد أن يقول شيئًا، بل لأنه لا يستطيع أن يصمت أكثر. والشعر هنا ليس مهنة، بل ضرورة تشبه التنفّس. هو شكل من أشكال البقاء في عالمٍ يزداد نسيانًا لروحه. ولذلك، فالعزلة التي يتحدّث عنها بنطلحة ليست انسحابًا من العالم، بل تحررًا من زيفه.
الشاعر ذئبٌ منفرد، لا لأنّه يكره القطيع، بل لأنه يعرف أن الصوت لا يولد إلا في الصمت، وأن الشعر لا يُستخرج من الضجيج بل من الفراغ الممتلئ بالانتظار.
6
إن الشعر في فلسفة بنطلحة، ليس قولاً جميلاً، بل فعل تمرّد على المألوف الوجودي. يقول بودلير: «الشاعر هو من يرى في العاديّ شيئًا خارقًا، وفي اليوميّ شيئًا أبديًا».
إن بنطلحة يُعيد للشعر مكانته كقوة تُزعزع الثابت، كصوتٍ يفضح الادّعاء، وكهمسٍ يعيدنا إلى سؤالنا الأول: لماذا نكتب؟ ومن نحن حين نكتب؟.
هو يذكّرنا أن الشاعر ليس من يشرح الحياة، بل من يعيد اختراعها في اللغة.

7
يبدو محمد بنطلحة كمن يكتب من ضوءٍ يتهجّى نفسه. كمن يضع إصبعه على نبض اللغة ليقيس نبض الإنسان فيها. هو الحكيم الذي اختار الصمت المضيء بدل الصخب العقيم، والذي جعل من الشعر طريقًا نحو التحرّر من الحاجة إلى التصنيف، ومن الذات إلى الأفق المفتوح للكينونة.
لقد فهم بنطلحة، كما فهم هولدرلن من قبله، أن «الإنسان يسكن الشعر كما يسكن العالم»، وأن القصيدة هي آخر معقلٍ للحرية في زمنٍ تآكل فيه المعنى. في العُري اللغوي الذي يدعو إليه، وفي العزلة التي يحياها كشاعر خارج التراتب، يتجلى جوهر رسالته:
أن تكون شاعرًا، يعني أن تعيش يقظًا في الهشاشة، أن تنصت إلى الوجود وهو يتلعثم، أن تمشي على حافة اللغة، دون أن تسقط في معناها الأخير. فالشعر، كما يهمس بنطلحة في صمته، ليس ما يُقال، بل ما يجعلنا نرى العالم كما لو أنه يولد من جديد، في كل قصيدة.


الكاتب : د مصطفى غَلــــمَــان

  

بتاريخ : 24/10/2025