الشاعر عبد السلام المساوي من الشعراء المغاربة القلائل الذين يتحكمون في النص الشعري ويجعلونه فضاء طيّعا للتعبير عن هواجسهم الشعرية والإبداعية والثقافية، بما يتمّيز به من قدرة إبداعية قوية في صياغة المعنى المتعدد، و المستند إلى رؤيا ذات أصول ضاربة بعمق في أصول الإبداع العربي، ناهيك عن كونه من الشعراء المثقفين الذين ينسجون متخيّلهم من منظور ثقافي ضابط ومتمكن من قواعد الشعرية كما هي متعارف عليها، سواء في السياق النقدي العربي أو الثقافي الإنساني. من هذا المنطلق ارتأينا إجراء هذا الحوار بمناسبة حلوله ضيفا على مدينة قرطبة، بدعوة من جمعية الصداقة الأندلسية – المغربية.
p الشاعر والباحث في الثقافة الشعرية العربية، د. عبد السلام المساوي: قمتم بزيارة مدينة قرطبة قبل أيام، ضمن ثلة من شعراء المغرب. هل تشرحون للقراء ظروف وسياق هذه الزيارة؟
هناك جمعية تسمى جمعية الصداقة الأندلسية المغربية (منتدى ابن رشد)؛ الجمعية الأم يوجد مقرها المركزي بمدينة مالقة بالأندلس جنوب إسبانيا. وتأسست بمبادرة من أدباء ومفكرين مثقفين وإعلاميين، وتهدف إلى الاهتمام بالروابط التاريخية والاجتماعية والثقافية والجغرافية الوثيقة التي تجمع إسبانيا والمغرب، وتطوير العلاقات الودية بين المنطقتين وبين سكانهما، وتعزيز قيم العيش المشترك والثقافة المشتركة بين البلدين.كما يسعى المؤسسون إلى تثمين علاقات التعاون في كل الميادين،منها: التاريخ والتراث والثقافة والاقتصاد، والعمل على تعزيز المعرفة المتبادلة، والدفاع عن مبادئ التضامن والاختلاف،والمجالات الإنسانية،وحقوق الإنسان. وللجمعية فروع في المدن المغربية التاريخية كالرباط ومراكش والدار البيضاء وفاس.
وتعمل الجمعية، دوريا، على تنظيم أنشطة ثقافية في الضفتين يشارك فيها مبدعون ومفكرون أندلسيون ومغاربة. وفي هذا السياق تم تنظيم ملتقى المنارة –طريق النور في مدينة قرطبة، في الفترة الممتدة من 4 إلى 8 نونبر 2024. دعيت إلى المشاركة فيه بمعية مجموعة من المبدعين المغاربة، هم: ثريا ماجدولين، وخالد الريسوني، وعبد العزيز كوكاس، وعزيز التازي. وتمثلت مشاركتي أساساً في إلقاء محاضرة عن راهنية الشعر الأندلسي المعاصر بالأكاديمية الملكية بقرطبة، وكذا بقراءات شعرية في كلية علوم التربية بمعية المشاركين المغاربة.
p ماهي النتائج المترتبة عن هذا التواصل الإبداعي؟
عقب انتهاء فعاليات الملتقى، وجه الشاعر والناقد خوسيJosé Sarria(منسق لقاء المنارة) رسالة إلى المشاركين في ملتقى المنارة، عبر فيها عن امتنانه للمشاركة والتعاون في “لقاء المنارة” للكتّاب الأندلسيين والمغاربة، الذي عقد مؤخرًا. وذكر بأن اللقاء الذي أُقيم في ثلاث فعاليات: في جامعة قرطبة (كلية علوم التربية)، والأكاديمية الملكية لقرطبة، ورئاسة الجامعة، قد حقق نجاحًا كبيرًا، سواء من حيث الحضور الشخصي أو في الشبكات الاجتماعية، حيث بلغ إجمالي الزيارات إلى الموقع الإلكتروني الذي أنشئ لهذا اللقاء 5,270زيارة، كما كان هناك 550 متابعًا ثابتًا على صفحة الفيسبوك الخاصة بموقع الملتقى على الأنترنيت، و100,800 تفاعل إعلاني من خلال الإعلانات المختلفة التي نشروها.وقال في رسالته معلقا على هذه الأرقام: “باختصار، كان لقاءً رائعًا، ونحن راضون جدًا عن جودة المحاضرين والمشاركين، وكذلك عن الصدى الذي تحقق.مع تجديد شكري لمشاركتكم النشيطة التي أسهمت في جعل هذا اللقاء حدثًا لا يُنسى”.
هذا يعني أن النتائج المباشرة عكستها الأرقام التي تضمنتها رسالة المنسق إلى المشاركين. أما النتائج الحقيقية، فهي التي تتحقق ـ عادة ـ على المدى المتوسط والمدى البعيد، ذلك أن التبادل الثقافي يؤتي أكله مع استمرار هذا التفاعل الثقافي والحضاري بين مثقفي الضفتين.
p زيارتكم للأندلس تعكس عمق الروابط التاريخية بين المغرب والأندلس على المستوى الإبداعي؛ألا يزال الشعر المغربي قادراً على الحضور في مثل هذه المحافل، خاصة وأن الشعراء المبدعين يعدون على رؤوس الأصابع؟
في اعتقادي أن الشعر لعب في القديم ولا يزال إلى الآن مختلف الأدوار الثقافية والاجتماعية والسياسية.. صحيح أن السياقات الحضارية تختلف من زمن إلى زمن، باعتبار تحولات الذوق والمزاج والاستراتيجيات، إلا أن الإبداع الشعري ظل طوال الأزمنة سفيراً للجمال، وداعياً إلى الانفتاح والسلام، ونبذ الحروب، وتكريس قيم السلوك المدني وحقوق الإنسان، أينما وجد هذا الإنسان. ألم يصدح هلدرلين بعبارته الشهيرة: “ما يبقى يؤسسه الشعراء”. وهي العبارة التي تثمن دور الشعر والشعراء عالياً. فما تعجز عنه المفاوضات السياسية بين الشعوب، يمكن أن تضطلع به القصائد، إن هي أنصت مبدعوها، برهافة، إلى دبيب الحياة وتفاعلوا مع آلام الإنسان وآماله.
ولا شك أن الأدوار التي تضطلع بها جمعية الصداقة الأندلسية المغربية، كما أشرنا سابقاً، هي تطوير العلاقات الثقافية والفكرية بين الضفتين؛ ومن شأن ذلك أن يؤطر جوانب هامة من الحياة المشتركة بين الشعبين الإسباني والمغربي، ويدفع بها إلى آفاق رحبة من الانفتاح والتعاون. أما النتائج المباشرة التي عدت بها من هذه الرحلة، فهي التعرف على عدد لا يستهان به من أصدقاء مبدعين ومفكرين، والظفر بمجموعة من الكتب الشعرية والنقدية التي شكلت حصيلة هذه الرحلة.. عدا أن المكوث أسبوعا بقرطبة مكنني من التواصل مع المشاركين والتعرف عليهم عن كثب، والتفكير سوياً في مشاريع إبداعية وثقافية مشتركة يتم تنزيلها في البلدين.
من جانب آخر، أتاح لنا برنامج ملتقى المنارة القيام بجولة ثقافية أطرها، في اليوم الأخير، رئيس جمعية كتاب الأندلس، مانويل كاهيتي، شملت زيارة المسجد الكبير، والأحياء العتيقة، حيث يوجد تمثال ابن رشد وابن حزم، في إشارة إلى غنى التراث الذي يجمع البلدين.
p الملاحظ أن القصيدة المغربية بدأت تتخلص من بعض التقنيات الفنية الأكثر تعبيراً عن المعاناة، كالرمز والأسطورة وبعض تجليات الغموض الذي ميز القصيدة العربية منذ السياب الى أمل دنقل. الى ماذا يعود ذلك؟
إن انتشار الثقافة الشعرية في العقود الأخيرة، سمح بترسيخ الوعي الشعري لدى فئات عريضة من الشعراء، فالوعي الشعري أمر على درجة كبيرة من الأهمية من أجل إبداع حداثي يستجيب لخصوصية اللغة الشعرية، ويطمح إلى تطوير التجارب الشعرية. والمتأمل في المنجز الراهن يلاحظ أن كثيراً من هذه التجارب الجديدة أصبحت تعادي التنميط وتميل إلى الانفتاح على كل الحساسيات الجديدة. من ذلك مثلا، الكفّ عن بعض الممارسات الفنية النمطية التي فرضتها سياقات تاريخية وجمالية سابقة، كتوظيف الأسطورة والعمل على تشفير النص برموز وصور ممعنة في الغموض. فالزمن الآن غير الزمن بالأمس، والتحولات الحيوية والحضارية أدت إلى تحولات في الذوق والمزاج، ومن ثم تغير الذائقة الفنية وانفتاحها على وسائل تعبيرية جديدة. والشعر بطبعه لا يركن إلى المحافظة والجمود في أنماط معينة. لذلك اندحرت قواعد النقاد، وفقدت قداستها، فكان لابد أن يواكب الشاعر المعاصر، تعبيرياً وفنياً، لحظات التحول التي شهدتها الحياة المعاصرة. لقد أصبح الشاعر مهتما بالمعنى والدلالات والرؤية أكثر من اهتمامه بالشكليات اللغوية التي سادت منذ القديم إلى العصر الحديث.
إن المتخيل عند الشاعر المعاصر أصبح يراهن على التحول الحقيقي للمعنى، وتحول المعنى كفيل بأن يخترع لغته معجما وتركيبا ورموزا.. هذا هو الحد الجوهري الذي تتأسس به الحساسية الجديدة التي تؤشر على وجود وعي شعري مختلف..
ولعل كل ذلك يعود إلى الانفتاح على مرجعيات الشعرية العالمية المعاصرة، وتتكون هذه المرجعيات أيضا من رصيد المقروء الغربي إبداعا وفـكرا، خصوصاً بعد انفتاح المناهج التعليـمية على الثقافتين الفرنسية والإنجليزية،بالإضافة ــ طبعا ــ إلى مرجعية المعيش المليء بالمفارقات في الحياة المعاصرة، تلـك التـي تعطـي للنص نكهته الحيوية، وتزوده بنكهات المفارقات والسخرية السوداء.
p يتميز نمطك الشعري بالقدرة على تنويع المتخيل وتوزيع الصور وتوسيع الرؤية داخل النص الواحد بشكل يعكس حداثة النص وثقافة الشاعر .هل من الضروري ان يكون الشاعر مثقفا حتى يصير النص عنده جيدًا؟
ليس فقط على الشاعر أن يكون مثقفا ثقافة عالية، بل وعلى القارئ كذلك. لأن النص الشعري يكتسب حياته وحيويته من التفاعل المزدوج بين الشاعر والمتلقي. إن الموهبة، وحدها، لا تكفي لإنتاج شعر تتحقق له مواصفات الجودة بالمعايير الجديدة والطرائق الفنية الجديدة. كما أن المعيش من التجارب لا يكفي وحده للإبداع الجيد. فثقافة الشاعر لا تتأتى إلا من الكم النوعي من المرجعيات التي يطلع عليها، فيعمل على دمجها بالمعيش لتصعد من ذلك الخليط العجيب نصوصا مبتكرة. كل ذلك يحركه الرغبة في الانعتاق من القوالب الجاهزة، بحثاً عن فضاء حر للغة الشعرية، فضاء يبرر وجود الشعر في حياتنا المعاصرة، ويربط وجوده بالإبدالات المتحققة على المستويين الذوقي والثقافي في سعي دؤوب إلى تحقيق تواصل رمزي محايث في سياق تلك الإبدالات.
p هل مازلنا في حاجة إلى الشعر؟ ماجدوى الشعر في زمن الابداع – الذكاء الاصطناعي؟
أعتبر نفسي من أكثر المتحمسين لدخول التكنولوجيات الحديثة في حياتنا، وتسخيرها لخدمة الإنسان في كل حالاته. ولعل الإبداع الأدبي استفاد كثيرا من خدمات التكنولوجيا، سواء على مستوى المعالجة النصية والاعتناء بالمظهر الطباعي والكاليغرافي، أو على مستوى تسهيل تداول النصوص وإيصالها إلى المتلقين أينما كانوا. وبالرغم من أن هذه التكنولوجيات قد عرفت تطوراً مهولا إلى أن وصلت إلى مستوى تطوير الذكاء الاصطناعي الذي دخل حياة الناس من بابها الواسع، إلا أن الإبداع الشعري سيبقى خصيصة إنسانية بامتياز. إن أعمال برمجة الذكاءات الاصطناعية قد أعطت أكلها في شتى المجالات، لكن بالنسبة للشعر سيظل الأمر عصيا عليها نظرا للخصوصية الإنسانية والروحية لهذا النوع الإبداعي. فالشعر ليس صناعة؛ والآلة لا يمكن أن تصدر زفرات وآهات إنسانية حقيقة. الشعر تجارب حقيقية في الحياة تهذبها المرجعيات، ويطلع منها الشاعر المبدع نصوصا بخصوصية لا يمكن استنساخها.