الشاعر مصطفى مَلح … هكذا غرقت في لجج «آخر الناجين من الطوفان»

(1)
«لا ينْبَغِي أَنْ نَعْرفَ ٱلْوِجْهَةَ،
أَنْ نَعْرفَ يَعْنِي أَنَّنَا نَغْتَالُ عُشْبَ ٱلْغَدِ،
لاَبُدَّ من ٱسْتِقالةِ ٱلْحاسَّـة
كَيْ نُشاَهِدَ ٱلْغَابَةَ خَارجٕ ٱلْخَرِيطَةْ !».
يترك خلفه كل أمل في النجاة، حين يتوكأ على لغته، ويحمل نعش المحايث، ويلج سعير القصيدة. وفي هذا الولوج الثري، الذي يملأ به عينيه، دون أن يفرغ يديه، لا يكون مبصرا، إنما ينقلب إلى أعمى يمشي على صراط بصيرته مثل هوميروس. أليس الشعر هو سفر ضريرٌ في أحداق العالم ؟!
مصطفى ملح يتوجه إلى عرين الكتابة بجماع نفسه، وببضع حبره. ومثل لون الشروق، وهو في قبضة الغروب، يطفو فوق أمواج جليد العبارات، فيكتوى بنارها، ويحرقها بسعيره. ثم لا يستعير هلوسة سوريالي، بل هذيانا وجوديا.
«سأحتاجُ سماءً خَاصتي،
أحجزها في غُرفتي سَبْعَ ليالٍ
سَاعتَئذٍ لن يظْمَأ ٱلْعالم قطُّ».
معه، وفيه، لا غالب إلا التحرر من حرية العالم. والخروج من تابوت اللحظة الوثنية، نشدانا للاندغام في جوامع يقين ظن
«هُوَ ٱلتَّوَتُّرُ ٱلْأَقْصَـى» لنبيذ الكلم.

(2)
«أُسامحُ ٱلنّجَّار؛
ذلكَ ٱلذي سَيَصْنعُ ٱلتَّابُوتَ خَاصَّتِي،
وَيُلْقِي زَهْرَتِـي دَاخِلَهُ !»

إذا كنت أنا ألمح شيئا ما ينأى في تدانيه هو، فذلك لأنه يرى «شيئا يدنو» من لهاثي فيه. وكمن سمع نعيه وهو حي، أقابله في البياض الممتد بين «رماد ٱلشمس»، حيث يشرق مَلَكُوتِ
فراغ ضاج بالامتلاء، و»تمرين ضِدّ ٱلْعقلِ»، لا محيد أبدا عن سخاء الجنون المجنح على رسله.
مقبل، هو مصطفى، على القصيدة، كإقباله على الحياة. هنا اقتداره الذي يثريه فنجاهر به، وله نقيم الصلوات في معابد النشوة المتدثرة بفراغ «يَتَجَلَّى عَارِياً مِثْلَ ٱلْمَطَرْ !».
«مَرَّتِ ٱلسَّنواتِ عَلَى عجلٍ،
وأنا في ٱلنّهاراتِ،
أَحْلُمُ بٱلْانتِشَاء إلَى مَلَكُوتِ ٱلْعَنَاكِبِ!
أتراه لما قال: «سوف أدعو ٱللّه كيْ يجعلني شمسا»، كان هواه أن يجعله النص طوفانا ؟! هذا ما يبدو لي، أنا الذي في معية شعره أحسني أشرق في أوج أفولي.

(3)
«حتّى إذا أشْرقَ ٱلصُّبْحُ،
جِيءَ بِنَا للإقامَةِ داخِل بَهْوٍ،
يُسَمَّى ٱلنَّهار..».
لغته تحاكي سحنته: صرامة مغموسة في رقة. ورهبة مجلوة بألفة. وشجن دفنه في عينيه فسطع في نظراته. البذخ المشع في إملاق، هو، نفسه، ذاك المنحصر في اللفظ، المتراحب في المدلول. إنها متوالية من ٱيات التوثب التعبيري: لغة غاشمة، وثنية، تليها لغة ناعمة، ملائكية. والنص وحده من يدرك أين يشتد في وصفه، وكيف يلين في تشبيهه.
أحيانا، يلتقي بلغة محنطة في تابوت المعمم، فيجليها بنوره، بزخم معانيه، وبوافر حفره. وغالبا يضرب موعده مع لغة تبلغ من الطزاجة عتيا، فيدخلها إلى محترفه، إلى اقتداره، فتغدو، وهي بين يدي إزميله، أصغر من عمرها، وأكبر من طاقتها، ثم أكثر وقعا، فرنينا، في سمع الجملة، في نظر السطر، وما لا، لن يخطر على قلب إيقاع.
«وأنا أحلمُ أنْ يتّسعَ ٱلْعَالمُ:
إنَّ فِكْرةً واحدة تَحْتاجُ غاباتٍ وأَنْهاراً،
فكيفَ تخملُ ٱلْغُرْفَةُ نهْراً،
وَهْيَ بالكادِ تَضُمُّ امْرَأَةً بِجَانِبِي ؟!».
إن الشاعر، الذي يجاهر، واثقا من لعبته، قائلا: «تركْتُ ٱلشّعْر.. وصِرْتُ حَطّابا..»، والذي يصيح في وجه كل الدوال: «لا أوبِّخُ أحداً»، هو من قال عنه شاعرنا البهي أحمد بلحاج آية وارهام: «تكلم بلغة ٱلنّاس فأتْقنَ لُغةَ ٱلْآلة».

(4)
«سَأَكونُ يَداً لا عُودَ ثِقابٍ،
حَتّى أَمْنَعَ ميلادَ النّارْ !».
بين سيزيف / الإذعان، وبرومثيوس / التمرد، وقف ملح بيد تتأمل في النفير ولا تصرخ فيه. لكنه لم يسرق ماء القصيدة، بل أطفأ النار المقدسة لأسلافه الضالعين في اللهب. لعله، في خلقه للصور، في توليدها العجيب، تخطى التنافر لكي يمسك بالتجاذب. بيد أنه ما كان أعمى، كالحب، حين حول الماء إلى نار. بل كان بصيرا، كما العقل، لما جعل من قلبه أول الغارقين في سفينة ترسو فِي وهم النجاة !
«النُّقْطَةُ فَوْقَ السَّطْرِ،
وجُثَّةُ جَدّي فَوْقَ التّابوتِ الخَشَبِيِّ،
وكَلْبَةُ جاري فَوْقَ السَّطْحِ،
وبِضْعُ وُرَيْقاتٍ فَوْقَ الصِّهْريجِ،
وسَبْعَةُ أَضْرِحَةٍ تَتَراءى فَوْقَ التَّلِّ،
ونوحٌ فَوْقَ الماءِ،
ورَبّي فَوْقَ العَرْشِ،
ووَحْدي لَمْ أَكُ فَوْقَ مَكانٍ؛
لَسْتُ سِوى شَبَحٍ يَتَسَكَّعُ في طُرُقاتِ اللَّهْ !».
بلى، لَمْ يكُ «فَوْقَ مَكانٍ»، لأن المبدع خالق المكان. هو، فقط، كان يشبه «لعازر» الذي أحياه المسيح. كما تبدى الهالك الأكبر، الذي لم ينقذه نوح. وتوكيدا، حين توالت صرخات نبوءته، لم يكن بحاجة إلى توبة نصوح، بقدر حاجته إلى فتح كوة ضوء في سفينة / مسرحية بيرانديللو: «ست شخصيات تبحث عن مؤلف».

(5)
«يَصيرُ البَحْرُ أَعْمى،
عِنْدَما تَلْقى المُوَيْجَةُ حَتْفَها..
سَأَكونُ عَيْنَ البَحْرِ..
لا صَنّارَةَ الصَّيّادْ».
قرأته مرة وإثنتين وثلاثا. في كل قراءة يبدو لي مختلفا عن سابق عبارته. أهو عصا موسى ؟ أهو خاتم سليمان ؟ أم تراه بساط الريح ؟ ما أدركه أن شعره أشبه بالسبحة: كل قصيدة لها وجودها المستقل. بينما التجربة، برمتها، منطاد يطير بها، يحلق به، وكل سموات المعنى تحت أمره ونهيه !
«الثُّقْبُ في السَّقْفِ مَجازٌ،
ويَراهُ النَّمْلُ مَسْكَناً،
وقَدْ تَجْعَلُهُ الرّيحُ مَمَرّاً،
وإِذا جاءَ الخَريفُ مُرْعِداً،
أَغْلَقْتُ ثُقْبَ غُرْفَتي ونِمْتُ،
غَيْرَ مُدْرِكٍ،
بِأَنَّ نَمْلاتٍ تَشَرَّدَتْ،
وأَنْفاقاً لِريحٍ نُسِفَتْ !».
لا أذكر أن دهشتي قرأته، يوما، دون أن يمتد الحبر نحو يدي، ويأتيني أمر مجهول بالبدء في فداحة الانهطال. هل لأنه يرى بعيني أنا ؟ أم لأني أكتب بيده هو ؟ لا أملك إلا جوابا واحدا منه أستعيره: «الضَّوْء أَعْمى»، وحدها الكتابة تبصر !

(6)
«ما حاجَةُ القَلْبِ للأَلْفاظِ والجُمَلِ
سَأَكْتُبُ اسْمَكِ بالآهاتِ والقُبَلِ
فَوْقَ الغُصونِ الحِسانِ الخُضْرِ أَكْتُبُهُ
بِخافِقٍ دائِمِ التَّفْكيرِ مُنْشَغِلِ
أَنْتِ الزَّبَرْجَدُ مَحْمولاً إِلى عَدَنٍ
يَكْفيكِ عِزّاً جِوارُ الحُورِ والرُّسُلِ !».
جاءه الاصطفاء من ربات الخدور، فحمل رسالة الحب، وسار يبشر بأنوثة تتدانى من بهاء المثال. تنأى عن حدود النموذج. وتشهر خفقها المستتر عبر لغة رشيقة الانسكاب. ومشاعر بلا تخوم. وصور تلهج بحمد طغيان الحسن.
مصطفى يبحث عن الأنوثة في رحب الأنثى. وما المرأة إلا جسر يؤول إلى الضفة الأخرى للأنثى المشتهاة. لذا، لا تسأل عن غرامه وهو يهرول نحو المرأة / القصيدة. وبين الحقيقة والصدى، ليس ثمة سوى شاعر هامس، يحلم وفؤاده مفتوح على نواح المحبرة !
«أَنْتِ الحَقيقَةُ والغيدُ الحِسانُ صَدىً
شَتّانَ بَيْنَ حَقيقِيٍّ ومُنْتَحَلِ!
وأَنْتِ ما نَسَجَ القيتارُ مِنْ نَغَمٍ
وأَنْتِ ما سَكَبَ العُصْفورُ مِنْ عَسَلِ
وأَنْتِ هَمْسُ التَّرانيمِ التي انْسَكَبَتْ
وأَنْتِ صَوْتُ العَذارى في فَمِ الأَزَلِ».

(7)
«أَمامي عَلامَةُ ”قِفْ“،
ولَكِنَّني أَقِفُ الآنَ في مُلْتَقى طُرُقِ الأَبَدِيَّةِ،
مَرَّتْ ثَوانٍ فَيَوْمٌ فَعامٌ فَقَرْنٌ،
ولَكِنَّني لَمْ أَزَلْ واقِفاً،
وعَلامَةُ ”قِفْ“ صَدِئَتْ،
وأَنا أَتَعَلَّمُ كَيْفَ أَصيرُ صَديقاً لِأَيِّ غُبارٍ،
تَراكَمَ فَوْقَ رَصيفِ الحَياةْ !».
ورائي ثمة منبه يشير إلى كلمة: «امش». وأمامي لا أثر لكلمات ترشدني إلى مثواي في مأواه. أديم نصوصه مأنوس بأمواجه المتلاطمة بدخائلي.
دواته في حالة اكتفاء ذاتي. يدي، التي تكتبه، تعاني من ثراء العوز. كمن يدخل إلى مخبأ ليتقي غارة حبرية، ها أنا ألوذ بي لكي ألجأ إليه. ها هو يدور حولي كي أحترق بعيدا عنه. يكاد يراعه يقع بين ضلوعي !
«القِيامَةُ تَبْدَأُ مُنْذُ الوِلادَةِ،
يُصْبِحُ خَيْطُ الوُجودِ صِراطاً».


الكاتب : حسن بيريش

  

بتاريخ : 13/05/2022