«كل كلام
هو حب مسبق»
نيتشة
التيه في القاموس من تيّهه عن عمد أي أضلّه وضيّعه.تائه بمعنى ضال.تيّه نفسه بمعنى حيّرها وأهلكها.يقال أرض تيهاء بمعنى يضيع فيها الإنسان.التيه مفازة لا علامة فيها يهتدى بها. أرض تيه : أرض مضلّة ، المتاهة . التيهان :الرجل الجسور الذي يركب رأسه، ما أتوهه وما أتيهه . تاه تكبّر أيضا.
يمكن اعتبار كلمة»تيه» وما ساوقها كالمدى والسراب والسديم والمهاوي والسدر ..كلمات مفتاح للتجربة الدرامية للشاعر عبد العزيز أمزيان في ديوانه «شبيهي في التيه» منشورات إيدسيون بلوس.ط 1. 2020.البيضاء. كما يمكن تقدير لفظة «شبيهي» على سلم درجات تدرّج المعاني مع مرادفات قريبة منها، كالصديق والصنو والصاحب والمثيل والنظير والنديم و النجي والصفي…
فالصديق هو صادق الود.ويستعمل للواحد والجمع والمؤنث. والصنو هو النّد و الشبيه هو المثل والمثيل هو شبيه فاضل، والنظير هو المساوي والصاحب هو المعاشر المرافق والنديم من يرافق في المدام والنجي من يسرك الأسرار والصفي من الصفوة …كل هذه المرادفات رغم اختلاف سلم دلالتها تعني وتقصد في هذا الديوان»الآخر» آخر الشاعر أو ظل الشاعر.»أنا هنا ظل لأناك» يقول أمزيان (ص17) .فهل هو شبيه» بالشاعر و ظله» لبول إلوار أم «بالمسافر وظله» لنيتشة؟
الظل في الشعر، كما في الفلسفة، هو المعنى الاستعاري للآخر. مشهور أرتور رامبو بقوله :»..لذلك، أنا هو الآخر».إذا أخذنا الجملة في سياق التضاد وعدم التناقض، فهي عبارة لا معنى لها.لكنها، في سياق شعري أو فلسفي صيغة تدل على العلاقة الحميمة بين الهوية والاختلاف، ودعوة لإدراك الذات في علاقتها بالغير، وهي تنم عن تأمل عميق لتحديد مكانة الآخر في بناء الذات. من هنا يكون الشاعر في وحدته متعددا إلى حد يجوز فيه القول إنه الآخرون يفكرون من خلاله. هل الشاعر مسؤول عما يكتب إذن ؟
في سياق مقاربة هذا التساؤل، لنتأمل هذا الحدث المعنون ب : «الشاعر وضعفه». في مقال نشر بجريدة إلكترونية «الزمان» بقلم الصحافية إليونور سولسير2015.تقول: هناك شاعران يحملان نفس الإسم:خوان لويس مارتينيس.الأول إسباني رحل إلى سويسرا في الرابعة من عمره ثم ترعرع هناك، والثاني من الشيلي توفي سنة 1993.الأول كتب ديوانا بعنوان «الصمت وانكساراته» بالفرنسية (منشورات سان جيرمان دي بري.1976 باريس) والثاني ترجمه إلى الإسبانية (ونشره تحت عنوان» أشعارالآخر» سانتياغو الشيلي2003 ) من توقيع نفس الاسم. في صيف 2014 تلقى الشاعر السويسري رسالة من باحث شاب أمريكي يدعى سكوت وينتروب متخصص في الآداب الإسبانية مسائلا أياه :هل أنت مؤلف الديوان؟أجاب الشاعر: أجل ! أعتقد ذلك..لكن من منا يملك اليقين التام بصدد هويته؟ تيقن الباحث أنه أمام اكتشاف ما لا يخلو من غرابة. منذ عشرات السنين وهو ينقب في كتابات الشاعر الشيلي الكبير (1942 / 1993) الذي هو أيضا فنان تشكيلي ورئيس جوق للأركسترا. من فناني الطليعة الجديدة .له كتاب تحت عنوان «الرواية الجديدة»1977 حيث لا يكاد يبدو اسمه على الغلاف بسبب المحو و التشطيب العمد الذي لحقه. لقد كان من هواة اللعب بأسماء الكتّاب وصورهم واستعارة أشعارهم ولصقها بعضها ببعض منسوبة إليه. شرح هذا الميل التوليفي لديه في حوار أجراه مع الفيلسوف الفرنسي فليكس غاتاري سنة1991 بالشيلي قائلا :»أهتم أولا وقبل كل شيء بتحطيم الأبوة بشكل مطلق(قتل الأب).وأرنو إلى صيغة المجهول إلى ما هو مثالي فيها إذا جاز لي استعمال هذه اللفظة .أطمح إلى القيام بعمل أو كتابة لا كلمة تكون فيها من تأليفي ..عمل طويل وشاق تتمفصل فيه كتابات مختلفة وترتبط في ما بينها».لم ينشر في حياته إلا مؤلفين..لكن كان له حضور قوي وتأثير بارز في مجايليه . بعض أشعاره لم تجمع في مؤلف إلا بعد موته سنة 2003.ضمن هذه الأشعار نفسها أشعار «الصمت و انكساراته».رغم أسلوبها المختلف اعتقد عشاق الشاعر أنها من تأليفه خاصة حين يقول :» لن أغمض عيناي / و لن أخفضهما» معتقدين أنها تقصد الصمود أمام بطش الديكتاتور بينوشي .وصل هذا الديوان إلى الشيلي عن طريق قيّم على خزانة المعهد الفرنسي بمدينة فالبارايسو وأهداه لصديقه شاعر الشيلي. في سنة 2014 أماط اللثام عن هذه القصة الباحث الأمريكي السالف الذكر في مقال بعنوان»الدعابة الأخيرة لخوان لويس مارتينيس» قائلا:»لا يكون الشاعر آخرا إنما يكتب كتابة الآخر.» ويحكى أن الشاعر الشيلي زار باريس بمناسبة مهرجان الآداب الأجنبية سنة 1992، أشهرا قبل وفاته.وللتعريف به اختار قراءة قصيدة بعنوان»من أنا؟» و تحت تأثير هذا التماهي شهق باكيا دافعا الجمهور الحاضر إلى مشاركته. في نوفمبر 2014 زار الشاعر السويسري الشيلي بمناسبة المعرض السنوي للكتاب والتقى بمحيط شاعر سانتياغو وعبر له عن امتنانه بهذه الحياة التي منحت لأشعاره. وهو الآن منكب على كتابة بحث عن خوان لويس مارتينيس ليقول لنا ما معنى أن تكون آخرا في ديوان شاعر آخر.
اجتمعت في هذا الحدث الغريب العديد من المفاهيم النقدية الشهيرة «كقتل الأب» و «السرقات الأدبية» و «أفق الانتظار» و»التناص» وهي كلها من مقومات الكتابة والتأمل الشعري.
الآخر أو الظل في شعر الشاعر عبد العزيز أمزيان يشبهه في التيه ولا يشبهه في الاسم، يشبهه في اختلاف الصفات ولا يشبهه في الهوية. في «وجوه تائهة»(ص 9) و «غيمة تائهة»(ص 19) و»خرائط التيه»(ص 47)و»متاهات»(ص51)…في كل هذه القصائد نعثر على المراد بالتيه والشبه وصلة الشبه بينهما. الآخر هو أولا في مفتتح «صدى الريح» كاف المخاطب:»ما عادت الأسماء تعرفك / ياصاحبي! و لولا عنادك لما أدركت «أن الفراشات تولد من رحم الأبدية». و لما تعانقا ـ الشاعر وظله ـ في المدى البعيد ،حيث توجد خرائط المعنى والقصد. شراعك يا خليلي شبيهي غيمة تائهة من عليائها تراقب طريق الأنبياء و تلتقط ما تتهامس به الأرواح وتنقله إلينا. من هناك في الغيب في المدى في التيه في السدر ـ كدت أقول سدرة المنتهى ـ عوالم لا ندركها بجوارحنا لكن الشاعر يحدسها بحساسيته ويلفّها في صوره وعباراته الشعرية. وهناك من صفاء تلك الغيمة لما تغور في منافيك تدرك دجى الدمى الغادرة وطريق المقصلة.قريني في التيه نحن سيان في عدم التعرف على بعضنا لأن الدوار أتلف بوصلتنا ولأن الرياح شتتت أوراقنا «لا جهة تدلني على البوصلة / لا يد تمسك اعوجاج الريح»(ص 99) وألفينا ذواتنا في صفرتها القميئة.ما السبيل إلى مرآة السفر؟أهناك خرائط للتيه كما للمعنى؟ التيه والبحث عن المعنى صنوان تربيا في حضن السديم. كقبض الريح (ص 71) ينفلت المعنى من بين الحروف كما ينزلق الماء من الينابيع في ما بين الصخور، ويتيه التيهان كما ينتشر الضباب في السديم.
تراجيديا الرؤية الشعرية عند الشاعر تنطلق من الذات المشروخة إلى شرخين .من جهة المحو والنسيان وطريق الشنق واغتيال النوارس…ومن جهة أخرى العناد وركوب الريح وملامسة الشمس . من جهة لا أفق للمدار ولا سبيل لحفر البحر وشقه ..من جهة أخرى يد طليقة توغل في رحاب المعنى وأنشودة للذكرى ترسو عند مرثية الأسى والحزن.
لوسيان، زهير التيجاني، ماريس،عزيز بنميمون، أحمد غيلان، محمد مهدي السقال… مرثيات للآخر الصفي النجي القرين الرفيق الشبيه …نظرة ثكلى إلى مدى الأفق.
يعتبر فيه لوسيان «رفرفة للرحيل من نهر اللوار إلى المدى الطويل» : «ارقد قرير العين [مع]/ صديقي زهير/ وانعم بالسكينة الأبدية».وها هي ماريس حبيبة ديوجين الكلبي في تيهانه قد عزمت على الرحيل، وبنمومن يخفي عنها بوصلة تقويم الريح. يا أحمد غيلان «هل تصدق أنك تكبر فينا»؟ مثلما كبرت في أعيننا مدرسة طاما غيلانة جدتك؟ و تكبر فينا الطفولة كلما تذكرنا السقال من بين أساتذتنا. ولسان حالنا يقول» لا تنسوا الفضل بينكم».
كل الشعراء يقتلون آباءهم الرمزيين بمن فيهم الشاعر عبد العزيز أمزيان، لكن هناك قتل رحيم وقتل رجيم .قتل الأب تحركه رغبات غالبا ما تكون مكبوتة تجاه الأب المهيمن والمسيطر لدى فرويد مخترع المفهوم، وهي نفس رغبات التميز للهيمنة في مجال الرأسمال الرمزي . ما قام به شاعر الشيلي كان قتلا رحيما لأنه أحيى شعرا كان بالفرنسية بشعر بات بالإسبانية، ولم يكن قصده انتحال الصفة ولا السرقة ..لأن طموحه كما صرح بذلك لغاتاري هو قتل الأبوة وقتل الملكية الفردية وحقوق المؤلف وتجاوز الذاتية إلى صيغة الإنكتاب “إنهم يكتبون مكاننا” أو بصيغة جاك لاكان “الهو يتكلم” . وما دام هذا الأخير أي اللاشعور مبنينا كما هي اللغة، أي يملك لغة خاصة به تتجلى في الأحلام مثلا بكل ما تعنيه من تخييل وهلوسة و فانطاسما، فلا حرج من القول إن هناك دواع غريزية تتجاوز الوعي هي المتحكمة في ما ينكتب.أما السرقات الأدبية إذا حصرت في دلالتها الأخلاقية، فهي فعل شنيع لا يليق بالأدب.لكن إذا اعتبرت مما هو متاح للبشرية، فالتقاط خيط الأفكار والمفاهيم وتصورات الآخر يسمى تناصا. والتناص هو تعايش العديد من النصوص في فضاء واحد، وذلك عن طريق ربطها إما بالإحالات أو الإلماعة أو الاستشهاد أو طي المراجع.
كل نص حسب جوليا كريستيفا هو عبارة عن خليط من هذه الإشارات ، وكل نص هو امتصاص وتحويل لنصوص أخرى وهو بالتالي كالنسيج يجب الاهتمام بخيوطه وتشابكاتها.لمّا يتخلص المؤلف من كتابه ويضعه رهن إشارة القارئ، فهو في حقيقة الأمر ينسحب من قيادة الكتاب ومن وصايته عليه ويتركه يتيما لا تتكفل به سوى لغته وأسلوبه وأفكاره وبناؤه. ويتلقاه القارئ بعد “موت كاتبه” في هذا اليتم ليقرأه كما يشاء ووفق أفق انتظاره .
لهذه الأسباب يبقى الشاعر عبد العزيز أمزيان قارئا آخرا من ضمن قرائه لنصوصه، لكنه غير مالك كلية لمفاتيحها ولا لمستغلقاتها، وهو بهذا الفقد يترك لنا حيزا، ولو صغيرا ، لكتابة نصوص موازية لنصوصه الشعرية.