سألنا عنه في الهاتف ونحن في طريقنا إلى المقبرة. لا يزال في البيت. ماذا يفعل في بيت ليس بيته؟ إنه يستعد.
لم يكن الأمر غريبًا لأنه لا يحب التسرع، خصوصًا الآن وأمامه كل هذا الوقت. وهذا يلائم تعثر سيارتنا في طريق مزدحم بالسيارات والشاحنات والعربات والمنبهات التي صارت لها رنة الموسيقى الجنائزية. تلائم توترنا وبؤسنا. وألمَ أننا نسير ناقصين، كأنما فقدنا أصبعًا أو عينًا.
وصلنا إلى مقبرة الرحمة بعد ساعة من الصمت المثقل حزنًا. واكتشفنا أننا وصلنا قبله، كما يحدث عندما يسبق الضيوف صاحب الدار. وكما يحدث عادة فالحركة مستمرة. الموتى يزدحمون على باب المقبرة. كما يزدحم الأحياء على السوق أو ملعب كرة القدم. متعجلون. فرحانون حسب ما أتصور. صديقنا الذي ننتظر هو الذي لا يتعجل الوصول. اتصلنا في الهاتف مرة أخرى. لا، عنيبة غيّر رأيه. لا يريد مقبرة الرحمة. وماذا يريد؟ عنيبة هو الذي يعرف أين يريد أن يستقر. القبر قبره في النهاية. ليس في حي الرحمة على أية حال. عنيبة لا يحب هذا الحي الذي يزدحم فيه الأحياء حتى أنهم يوشكون أن يبنوا مساكنهم فوق القبور. الشاعر يحب الفضاء الرحب والسماء الواسعة والنجوم الكثيرة التي ستنير ليله. اذهبوا إلى سيدي مسعود. وقلنا هذا الرجل يضحك علينا. لماذا لا يضحك وقد أضعنا المقبرة والطريق التي توصلنا إليه؟
سألنا دركية في الطريق. فين هي مقبرة سيدي مسعود؟ الدركية لا تعرف مقبرة اسمها مقبرة سيدي مسعود. تقولها وهي تضحك. سألنا رجلًا يبيع الليمون على جانب الطريق. لا يعرف. وبدا أن لا وجود لهذه المقبرة. وحتى إن وجدت، فلن نصل إليها أبدًا. وربما لا يرغب صديقنا في توديعنا بهذه السرعة. أو ربما إنه يضحك.
يستقر الشاعر بعيدًا عن الضوء. ضوؤه في ضحكه الذي يفيض عليه وينير الفضاء من حوله. ومن حولنا. لأنه رجل متكتّم. يسكنه حياء قديم. يرتاد الأمكنة كما يدخل المتصوف إلى محرابه. لأنه لا يحب الظهور. والتظاهر. تعجبه الخلوة. حياؤه المزمن لا يسمح له بغير هذا. مرة وقف أمامه رجل محتدم المزاج، منتفخ الأوداج وقال له علاش كتضحك؟ السي محمد لم يفهم السؤال. فأردف الرجل الغاضب موضحًا علاش ديما كتضحك؟ التفت صديقنا نحونا، مستغلًا بعض اللحظات كي يستوعب السؤال ثم راح يدور كما يفعل الدراويش. ويغني «مررت بالبحر فاهتاجت لرؤيته عواطفي وبكت عيني على الأثر». يقولها بلغته. فعولن فعولن فعولن فعولن. ويضحك. هو هكذا. يضحك بعينيه أولًا قبل الفم واليدين والقدمين.
جملته الأخيرة بْغيتْ نمشي. بينما أبناؤه ينزلونه إلى بيته الأخير، سمعت ضحكه. هو هكذا السي محمد. فرحان في كل وقت. لا يزال في العنيبة ما يُشرب. تلك العنيبة لن تجف. قطرات خمرتها تسقي هبوطه الأخير. أهالوا عليه التراب ولم يستغرب. منه جاء. مسحتُ دموعي وهدأت. وابتهجتُ لصورته الأخيرة. نازل ويضحك. فعولن فعولن فعولن فعولن. ونحن عدنا إلى جهامة أيامنا الآتية.