الشعر كَتَفَتُّق وانكشاف .. قِراءة مُوَازِية في أُضْمُومَات مصطفى محسن

تتميز انشغالات الدكتور مصطفى محسن بثراء مواضيعها، وغنى أجناسها، وتنوع مسألياتها على اعتبار أنه:
-يَنْهَلُ من معين الفلسفة بما هي تساؤلات منظمة/مبنية، واستراتيجية للتفكير قصودها إخصاب منظوره العلمي حيال الأنساق الثقافية، والإيديولوجية والتربوية والاقتراب أكثر فأكثر من ظواهر المجتمع المغربي لأجل فهمها؛ وغاية في تقليبها في كل أوجهها لإبراز دلالاتها العميقة، والكشف عن غوامضها، وهدفا أيضا إلى تفسير سيرورات التحول التي تعتري منظومة القيم والمقومات والنظم، فضلاً عن التنظيمات، والتبادلات فالعلاقات الإنسانية…وذلك بالارتكاز على منظور نقدي تكاملي وسمه الأستاذ مصطفى محسن في أكثر من عمل ب»النقد المتعدد الأبعاد» الذي تنهض حيثياثه على «نقد إبستيمولوجي وسوسيولوجي وحواري تكاملي منفتح للذات والآخر»(محسن:2022،ص:11-12)وعلى المجتمع في شموليته، بنيات وهياكل، ونظما، ومؤسسات، وعلاقات، وتوجهات، وأنماط تفكير، ومجالات مادية ورمزية متعددة..
– ويَمْتَحُ في الآن نفسه من عيون الأدب، وصهيل القصيد العربي على وجه الخصوص الذي افتتن به منذ طفولته، مرورا بفورة المراهقة، فمرحلة الشباب في «مدرسة النهضة» و»ثانوية الهداية الإسلامية «بآسفي مسقط رأسه حيث بداية تجربته مع شغف القراءة، وتَخَلُّق مغامرته مع أسرار اللغة. هكذا عكف على قراءة القريض، وهكذا عَمَدَ إلى تعميق ممارسته للكتابة الشعرية سَاوَقَتْ الممارسة السوسيولوجة والفلسفية لديه؛ وهذا ما وضحه حين كتب: «إن انشغالي بحقل الفلسفة والعلوم الإنسانية عامة. ومنذ هذه الفترة المبكرة من مسيرتي الدراسية والثقافية، قد ساهم، بشكل رائع كبير، في تعميق فهمي للأدب والفكر، وفي توسيع نظرتي إلى أبعادهما الفلسفية والسيكولوجية والسوسيولوجية…وإلى كل ما يرتبط بذلك من قضايا الإبداع والالتزام، والدور الاجتماعي والسياسي للأدب والثقافة والفن، ومناهج النقد والدراسات الأدبية، وآليات اشتغال الخطاب الأدبي لغةً وأسلوباً ومضامين ومرجعيات نظرية فنية وفكرية وثقافية وبراديغمات وتوجهات وخلفيات معرفية وثقافية واجتماعية مختلفة ومتعددة…مما كان له بلاريب، أثرٌ في كل ما كتبتُ من أعمالٍ فكرية وإبداعية»(تجليات، ص: 17).ويَسْتَطْرِدُ مصطفى محسن فيقول: «غير أن ما يجدر بي التنويه به في هذا المَسَاق هو أن عِشْقِي للفلسفة قد ظل يَصُبُّ، على العموم، في صميم وَلَهِي وحُبِّي للشعر والأدب.» (تجليات، ص:17-18)
بهذا المعنى يصير الشعر بالنسبة لمصطفى محسن مغامرةً؛ وًعُبُوراً نحو الوجهة المفتوحة التي يقطنها الإنسان، ورحلة صوب «الإيتوس» الذي يقيم فيه، ويأوي إليه نُشْدانا للسكينة؛ وَتَوْقاً إلى الدفء، وَشَوْقاً بالمُحَصِّلة، إلى الفضاء الذي يتبرعم فيه وجوده؛ وتَتَفَتَّقُ فيه آدميته. (Heidegger. 1966.p:138).
مُقتضى هذا الكلام، في ما أحسب، أن الشعر- ومنبع الأثر الفني- لن يكون بَوْحاً جميلا قُصُودُه تلطيف أدران النفس، وانفعالاتها أو تطهيرا للذات من «آثار الأصل»، (Freud.p:5) ومن القوى الجَوَّانية المُصْطَرِعة داخل المبدع/الفنان ليتسنَّى له الركون إلى الدَّعَة، وَإِيثَار الاطمئنان في خضم شَرْطٍ إنساني اختلط فيه الجنون بالسواء، وامتزج فيه المعنى بالعبث على نحو غريب..
الشعر خطاب مزعج لمنطق العادة؛ ولحظة نشيطة مُرْبِكَة للمألوف، ومُؤَزِّمَة للمعتاد الشيء الذي يجعله(الشعر) بمنأى عن المسأليات الإستيتيقة اللصيقة بالذوق والحساسية من جهة؛ ثم منفصلا عن دعاوى الذات المتأملة والمتخيلة من جهة ثانية؛ بِحُسْبانِه معبرا عن اللغة الأصلية التي تنتظم فيها روح الأمم؛ وبوصفه مجسدا لصوتها الخاص وعبقريتها القومية. فحيثما توجد لغة تبرز أشياء، وحيثما يوجد عالم يتدفق عبق التاريخ مادامت روح الشعر/الفن قوة مُتَلَجلجة، خفَّاقَة تَحْمِلُ مختلف مكونات الشعب على الاندماج من خلال الإنصات لنداء الوجود أثناء استثارته، وإبَّانَ َتَفَتُّقِهِ، وفي غُضُونِ انْكِشَافِه. (Heidegger:1966.p:75) و(Heidegger:1973.p:294) و(هيغل: ص:114).
سمحت لنا قراءتنا لأُضْمُومات مصطفى محسن الشعرية من التوقف عند ذات يقظة، متسائلة، ومُتَوثِّبَة، كَرَعِيلِها تَصْدَحُ بِتَوَلُّهٍ بغير ضفاف لوطن يسكن الحشا والدم على نحو مثير؛ برغم الانْكِلام الداخلي، وبرغم الجروح النازفة. إنه العشق الذي كاد، ذات «سنوات جمر ورصاص»، أن تترتب عنه تبعات جِسَام كالتطويح في غياهب الأقبية النَّدِيَّة. (تجليات: ص: 20) وعلى ظَنِّي يَغْلُبُ أَنَّ المَشْمُولاَتِ البلاَغِيَة طَيَّ هذا المقطع تُبِينُ عَنْ بَعْضٍ مِنْ ذلك:
«من برك الدم المسفوح في منبسطات بلادي،
من فوهات البراكين (تجليات: ص: 63)
«ها قد علمني الجرح أن الأحمر لوني
أتسألوني يا أصدقاء الحب/المحنة؟
أجيبكم:
وطني صفحة مقرورة في كتاب منبوذ..
أجمعه من شتات الرميم الذي في الصدور،
أفتحه أمام وجه الشمس…»(تجليات: ص: 31)
ليس الوطن بالنسبة إلى شاعرنا حَيِّزاً مُسَيَّجاً داخل حُدُودٍ مُوصَدَةٍ، أو معزولا ضمن تُخُومٍ قُطْرِية. الوطن رقعة شاسعة تمتد من الشط إلى الشط، بيد أن هذه الرقعة تَضجُّ بالأوجاع، وتُكَابِد المُقاساة، وتَنِزُّ بأثقال الانكسارات المتوالية التي تَحَصَّلَ منها انْثِيال معمارها الاجتماعي منذ نكبة1948، وَرَجَّة 1967التي جعلت الضمير العربي يتخبط في محنة وجودية لا قِبَلَ له بها، وليس أَدَلَّ على ذلك من هذا الاقتباس الشَّفِيف:
«وأذكرك يَافَا،
في غُرْبَة الشَّتَات والحُزُون
وخيبة الظنون
أيتها العزيزة القتيلة
يا قلعة النضال والصمود…
فمدي إلى يديك
يا فريدة الزمان والمكان
يا غريبة الديَّار
وضمي يدي إليك من حرائق اللظى
من خلل نيازك الخراب والدمار…»(مدارج التيه: ص:40)
ويبلغ أَسَى الشاعر مداه الأقصى حينما أَلْفَى نفسه محاصرا بِهَمِّ المآل العربي غداة الاقتتال الطائفي الذي اندلع في لبنان عام 1975؛ ثم لحظة اجتياح الجيش الإسرائيلي لبيروتفي بحر عام 1982تمهيدا لمشروع الترحيل القسري للمقاومة الفلسطينية، وغاية في تشتيت أطرها القيادية؛ وتعقبهم لاستئصال شَأْفَتهم بالتصفية، والاغتيال ثابتة السياسة الإسرائيلية منذ النكبة:
«بيروت!
يا حزننا العربي الذي نحمله صليبا..
بيروت!
هذي مرايا زمانك العاثر..
فانظري، واذكري:
قد اغبرت طلعة منك …
فأين الجمال العربي السمات؟
ماذا دهاك يا ابنة السنور الشوام…
يوم كنت مرفأ السلام والغناء والليالي الملاح
يحملهم إليك كل صوب وطريق ودولار…
أواه يا بيروت، خانت أَرْزَكِ الجميل
كل الفصول العربية!…
بيروت!
يا شبح الخطيئة الذي يطارد وجهنا العربي…(تجليات: ص:33-34-35)
بيروت، «المدينة الملونة» بتعبير حليم بركات، التي ما انفكت كالعنقاء تنبعث من رمادها كُلَّمَا تَأَجَّجَ في أُوَارِ تَنُّورِهَا سَعِير الاقتتال الطائفي؛ واحْتَرَبَتْ في بيدرها المصالح الدولية، هي أيضا التي استوقفت الشاعر لينشد بقناعة المثقف العروبي وحرقة المفكر-الملتزم:
« من غير لونك العربي الأسمر؟
من أطفأ الأضواء في وجهك الممراح؟…
من باع بالدولار حارتنا،
ونسوتنا الحصينة،
والأرض،
والأشجار،
والأنهار،
وخيمتنا الجميلة.( تجليات: ص:37)

فيض من حُزُونِ وضعنا العربي المأزوم، والمسدود أيضا، هي تلك التي تمخضت عن الانقلابات الراهنة العابرة للقارات والجنسيات التي فرضتها مقتضيات «النظام الدولي الجديد» لتطال كافة المجالات، والعلاقات والقيم والتوجهات والمعارف، والمعتقدات، والأبعاد الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المتعددة.
في حمأة وضع كهذا ستندلع، جراء ديناميات داخلية وخارجية «ثورة الياسمين» في تونس على إثر إقدام الشاب «محمد البوعزيزي» على إحراق نفسه أمام محافظة مدينته «سيدي بوزيد» دفاعا عن كرامته ضد اختيارات النخبة الحاكمة التي جعلت من الوطن «وطن السلطة وليس وطن الشعب»؛ (أبراش: ص:130-131) واعتراضا على مسلسل الإقصاء والتهميش الناجمين عن انتهاج منظور أَمْنُوقْرَاطِي مرتكز على ديموقراطية شكْلاَنِية صُورِية؛ ثم احتجاجا على إخفاق السياسات الاقتصادية المُنْتَهَجَة طِوالَ عقود والتي أَسْفَرَتْ عن تَصَدُّع النسيج الاجتماعي والسياسي. وَهَاكَ، هَاهُنَا، بَعْضٌ مِمَّا تفاعل به مصطفى محسن لحظةَ تَفَجُّر ِالشَّرَارَة الأولى لما اصطلح عليه بـ»الربيع العربي» و «الثورات العربية» طَوْراً؛ وَبـ»الانتفاضات العربية» تارة أخرى:
«…محمد البوعزيزي
زين الشباب في حَيِّهِ المكلوم
عز الشباب في رفقته
يترنح شوقا
يهتز يحترق احتجاجا
يضرم في «عربات» الذل….
نيران غضبته الجميلة…»(من شرفة الفجر: ص: 24-25).
ثم يمضي الشاعر، في موضع آخر، قائلا:
« الخلد لك أيها البوعزيزي
يَا شَرَارَةَ انْقِدَاحِ «رَبِيعِنا العربي»
من «قومة الشبان»
تَسْطُر باللهيب وبالدماء وبالورود
«هبات الفل»، كرنفال الياسمين»
حِكَمَ الأجيال للأجيال
عبر الشهداء للأحياء…
تمنح للمخاضات العسيرة
في أوطاننا الحابلة بالضَّيْمِ…»(من شرفة الفجر: ص:27).
صفوة القول، يظل الشوق إلى شمس الأمل، رغم المُعَسِّرات المختلفة، ويظل التطلع إلى التغيير الشامل، رغم المُثَبِّطَات التي تنتصب أمامنا مَطْلَباً ومُبْتَغًى، انتصارا للتقدم، ونُشْدَاناً للعقل قاطرة الحداثة والديموقراطية، والحرية ومحرك كل انطلاقة قشيبة في تجربة الحياة يشكل فيها الإبداع رَتْقاً للذات، وترميما لان كلاماتها، وتضحى فيه الكتابة، في أسمى تجلياتها، رديفا فريدا لفن العيش،(مدارج التيه: ص:11)ومحفزا على الحفر في الأنطولوجيات الراهنة ومن ذلك استفهامات الحقيقة، والتقنية والفن وقضايا العنف والإرهاب، وإشكالات الهوية والكينونة والمصير.. التي طفقت، أكثر من أي وقت مضى، تسائل وعينا وضميرنا في زمن بات مُنْدَمِغاً باللاثبات، واللااستقرار، ومُنْوَسِماً باهتزاز التأكد وانعدام اليقين. فلنتأمل معا هذا المقطع الشعري:
«في ذاكرة هذا الفجر المَشْنُوقْ،
تشكلوا قناطر في كل السبلْ،
وافتح واله في كل الآفاق ألف كُوى…
ليطل غدا أو بعد غد…
مولودا يرتعشْ،
ينشق هواء الصباح الجديدْ…
وطني!
تعشقتكَ…
قَرّاً وسَعِيراً،
كي أقرأ َفي عينيكَ تسبيحةَ الأفْجَارْ!»(تجليات: ص:32)

إحالات مرجعية:

°-»القراءة الموازية» هي التي تكون مستقلة تماما عن النص، بحيث تحتفظ بحريتها كَيْمَا تعمل لحسابها الخاص. انظر: تقديم عبد الكبير الخطيبي لكتاب: كيليطو(عبدالفتاح):1983، الأدب والغرابة، دراسات بنيوية في الأدب العربي، الطبعة الثانيةص.ص:5-6.
1-محسن(مصطفى):2022، في المسألة الشبابية، نحو سوسيولوجيا نقدية لتحولات أنساق القيم والتكوين والتوجيه والتشغيل وأسئلة الهوية واندماج الشباب في عالم متغير..
2-محسن(مصطفى):2006، تجليات، من ذاكرة عشق للوطن والشوق (نصوص شعرية)، الطبعة الأولى.
3-محسن(مصطفى):2023، مدارج التيه،(نصوص شعرية)، الطبعة الأولى.
4-محسن(مصطفى):2023، من شرفة الفجر، (نصوص شعرية)، الطبعة الأولى.
5-أبراش(إبراهيم):2011، الثورات العربية في عالم متغير، (دراسة تحليلية)، منشورات الزمن، 6-
هيغل:(جورج، ف، ف):1981، العقل في التاريخ، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، لبنان.
7-Heidegger(Martin):1966, Questions III, Gallimard,nrf.
8-Heidegger(Martin):1973, Approchede Hôlderlin,Corbin-Deguy-Fédier, Gallimard.9-Freud(Sigmund):1933,Esaisde psychanalyse appliquée, Idées/Gallimard.

(باحث سوسيولوجي)


الكاتب : د.ناصر السوسي

  

بتاريخ : 11/10/2024