الشّاعِرَاتُ يَكْتُبْنَ أحْسَنَ الْمَغْرِبِيَّاتُ هُنَّ …

لاشك أن «العيالات» أحسن من «الرجالات» في شتى مجالات المفاضلات والمنازلات وحتى المغازلات : كتنظيف البيت وتصنيف الأثاث وتنضيد المتاع وتصبين الثياب وكيها وطيها وغيرها من أعمال و «تَخْمال» المنازل على سبيل المثال.
وهناك مجالات أخرى كثيرة الجدال ومثيرة السؤال : أيهم أحسن عملا فيها النساء أم الرجال؟
والكتابة، الشعرية على سبيل المثال، من هذا القبيل الجميل: أيهما يكتب أحسن من الآخر؟
يمكن – لي بالأقل- القول إن هناك غير قليل من «الشاثرات يكتبن أحسن» من بعض «الشُّثَّارِ الْكثَار» على غرار ومعيار عنوان «النساء يكتبن أحسن» لـ «صديقي الكاتب» محمد صوف – كما يحلو لي أن أدعوه باسم إحدى أجمل أقاصيصه- و «الترجمان المحلف» لمختلف الأوراق والأشواق من كل العشاق والآفاق كتلك المختارات القصصية الأمريكية اللاتينية التي عرّبها واختار عنوانها منها.
ومن الممكن للعين القارئة والناقدة، العاشقة والعالمة، العادلة والمنصفة ، الاعتراف بتفوق «شاعرات يكتبن أحسن « من بعض الشعراء، المجايلين والمماثلين لهن، في «المواطنية الشثرية» proême والإبداع على منهاج إيقاع «أذنك وزنك» وسراج «عينك ميزانك» والأسلوب هو الإنسان» على حد ترجمة قول جورج بوفون 1753 امرأة ورجلا على قدر سواء.
إن هذا التفضيل – يكتبن أحسن- ليس التقليل من قدر هذا والإعلاء من شأن تلك، ولا النيل من سمعة هذه البدعة الشِّثْرية الممتعة أو الميل إلى هوى جماعة السنة والشيعة الطائفية الفتنة المتحيزة والموازنة المتحاملة والمفاضلة المجاملة لواجهات نظر دون أخرى.
وهي تفضيلات نقدية، ودية وندية، قديمة وحديثة، وموازنات بين الشعراء والشاعرات، الفرادى والجماعات، وبين معاني ومباني القصائد والمقاصد والأغراض والأعراض والتنابز بالألقاب والأنساب والأحساب و «التدابز» بالكلمات واللكمات، طوال عصور العصبيات القبليات «الجاهليات» السابقات واللاحقات والحاليات والتاليات، انطلاقا مثلا من حكومة أم جندب بين زوجها امرئ القيس وعلقمة الفحل، الذي حكمت له فطلقها امرؤ القيس وخلفه عليها علقمة الفحل، مرورا بحكومة النابغة الذبياني في قبته الحمراء بسوق عكاظ و من نقائض التميميين جرير والفرزدق حتى موازنة الآمدي بين الطائيين أبي تمام والبحتري والوساطة بين المتنبي وخصومه للجرجاني ولا منتهى للنزال والسجال والجدال اللساني في «بلاد العُرْب أوطاني» والجبانِ الطعانِ على حد قول الرفيق المعلم العظيم أبي الطيب المتنبي:
وإذا ما خلا الجبانُ بأرضٍ،
طلبَ الطعنَ وحدهُ والنِّزالَ !
غير أن «الشعرية الفيمينيستية» مغموطة الحقوق من عقوق النقد الطائفي، الذكوري، سواء بافتعال النزاع اللساني، الحاد السِّنان، بين شِثْرية القصيدة العمودية الشقيقة بأختيها العمودية الموزونة المقفاة، والعمودية الحرة الخالية من القافية الموحدة الروي والوزن، والرفيقة التفعيلية من جهة والإيقاعية الحرة الطليقة تماما، أم بقتال الأبِ الرمزي الحَدِبِ والحَنون والقطع مع حَليب الأم الرؤوم وهمزة وصل الأرحام الأولى التي جاء منها كل تراثي حداثي وكل حداثي تراثي، وباستعمال حتى العلم العسكري، والبلاغ الحربي، كنسف وتفجير اللغة الأم والأب، والتصدي والاختراق، رغم التناص والتلاص واقتناص رموز أساطير الأولين وكنوز الآخرين، بل السَّطو عليها و السَّرقة منها، والادعاء مع ذلك بالتخطي والتجاوز والقفز فوق كل الحبال و الحواجز والحدود والقيود والضوابط والروابط المنظمة لحسن الجوار وفن الحوار بين جميع أجناس الجِنّة والناس وأنواع الإبداع والإمتاع والإشباع والإرواء الإلهي والطبيعي والإنساني.
هل من خصوصية خاصة بالشعر النسوي، الأنثوي، مختلفة تماما عن خصوصية الشعر الذكوري، الرجولي؟ وهل يراد لهما أن يكونا على طرفي نقيض بطبيعة التكوين العضوي وشريعة الحيوان المنوي الذكوري والبويضوي الأنثوي، وذريعة الدين السماوي وبدعوى توزيع الطباع غير المتساوي وتقسيم المهام ورسم الحدود ومناطق النفوذ لأطراف الجسم البشري على نهج هذا القول والنقل والعقل اليقيني لأحد الدهماء والغوغاء كما لو كان شاهد عيان عند حقن «وزيعة اللحم» في الرحم وشحن الوظائف الخاصة بالجنس الخشن واللطيف، وبكل عضو وشلو على هذا النحو المضحك والمبكي والشكل التالي: خذ البراءة أيها الطفل، إليك الطيش أيها الشباب، وللرجل الخشونة، وللمرأة الليونة والنعومة والخجل والحياء والخفر للعذراء.. وهكذا أخذ كل جسم نصيبه وحظه المقدر المكتوب له وعليه ولا وراثة لعلم ولا دماثة لأخلاق ولا حداثة لارتقاء وانتقاء واصطفاء وتطور واكتساب. ولذلك فهي غير صالحة لهذا العمل أو ذاك، لطبيعتِها مانعتِها من بعض الأعمال ودافعتِها لأفعال أخرى. ولأنها أصل الجمال ليست بحاجة إلى قصيدة تكتب جنسها ونفسها وينوب عنها رجلها وبعلها وحسبها أن تكون ملهمة ومؤثرة، وهي أصل الجمال والرجال الكمال! ومهما تكن عبقرية الشعرية النسوية فهي دائما متهمة بأن الرجل هو الذي يكتب لها وبين أظهرنا شاعرات وكاتبات يقال إن ما يكتبنه يمليه عليهن «شيطانهن الذكر» على حد قول أبي النجم العِجْلي:
إني وكلّ شاعر من البشرْ،
شيطانُهُ أنثى وشيطاني ذكرْ!
إن أيّ حرَكَةٍ «فيمينيستيةٍ» مبارَكةٍ وكتابةٍ شعرية نسوية ما كانت لتظهر في العالم إلا بسبب اضطهاد النساء، ونضال الجمال وجمال النضال من أجل حقوقهن الإنسانية في حياة المساواة الكاملة والحرية التامة والفرص المتكافئة الشاملة.
وكذلك في «المواطنية الشِّثْرية» ليس ثمة من شعرية نسوية وأخرى ذكورية، إذ يمكن للذكوري التعبير عن الأنثوي، أحسن من النسوي، ولهذا الأنثوي أيضا قدرة فائقة وخلاقة للتعبير عن كل ما هو ذكوري، وبالتالي ما من حقل دلالي نسائي وآخر رجالي، وهما معا زوج بهيج وأريج مزيج من جميع زهور الحديقة الخصوصية والعمومية التي يزرعانها معا وجميعا، وعلى حد تعبير شاعر وفيلسوف التنوير فولتير بلسان بطل «كانديد أو التفاؤل»: Candide ou l’Optimisme: « ربما يكون على حق» زرع كل منهما حديقته الخصوصية و « لكن يجب أن نزرع حديقتنا» العمومية أيضا معا وطرا وجميعا :»IL faut cultuver notre jardin !
ولكن زرع الحديقة، الخصوصية والعمومية، يحتاج إلى تخصيب تربتها وتنقيتها وتهيئتها لاستقبال الجديد من الزروع والبذور والحبوب. بينما واقع الحال والمآل لا يزال كما يقال « الجديد له جدة والبالي لا تفرط فيه» يبدو ذلك في جميع الحقول والعقول. لم نفرط في البالي القديم بتاتا ولم ننخرط تماما أو إلا لماما في الجديد والحديث والعصري، من الزي إلى الأثاث فالمطبخ والمخ والعقل النقدي والشعري أيضا.
وفي جميع مظاهر الحياة تسود ازدواجية أو تعددية لم يحسم فيها الخيار والقرار والاستقرار، ويبدو انتشار الحداثي الآلي والتقني طاغيا على الحداثي العقلي والذهني وحتى على التراثي الحداثي، والحداثي التراثي، العقلاني والإنساني، وكما في العمل الإبداعي والفعل الاجتماعي لا يعدو التحديث أن يكون بمثابة تجديد التقليد وتقليد التجديد أو توفيقا وتلفيقا بين تجديد البالي القديم وتقليد الحالي الجديد والحديث والعصري.
وبالتالي لا تزال المفاضلة والمغازلة بل وحتى المنازلة والمقاتلة قائمة بين مناصرة المعاصرة والأصالة لم يحسم فيها الخيار والقرار والاستقرار، تماما على حد هذا الرد النقدي الودي والندي للشاعر ابن شرف القيرواني:
قل لمن لا يرى المعاصر شيئا، ويرى للأوائل التقديما!
إن ذاك القديم كان جديدا، وسيغدو هذا الجديد قديما !
وله من هذا القبيل الجميل أيضا:
أغريَ الناس بامتداح القديم، وبذم الحديث غير الذميم!
ليس إلا لأنهم حسدوا الحيّ ورقّوا على العَظام الرميم !
وكذلك شأن «الحسد الطبقي والعرقي» والميز البارز في «امتداح و تقديم» الذكوري على نحو قول أمير الشعراء عن خداع النسوي :
خدعوها بقولهم حسناء، والغواني يغرهن الثناءُ !
ومن مظاهر انخداعهما معا وتبخيسهما حصر تجنيسهما بنفسهما وبجنسهما النسوي الأنثوي والرجولي الذكوري، حتى بات شِعْرُ «النسوانية» أشبه ما يكون «بمشكلة الشعرانية» المتمثلة في الشَّعَر الزائد عند النساء، الذي يسارعن إلى إزالته حيثما نما على الوجه والدقن والصدر والبطن والساق وأعضاء أخرى.
والشعر بالتالي كذلك كائن عضوي، فيه أمشاج من الذكوري والأنثوي والخنثوي، وذو جسم من لحم شخصي ودم نصي، وخُمٍّ كقفص الدجاج منه الشعر البلدي والرومي والكروازي ومنه الذكوري الرجولي، قد لا يحيد عنه قيد أنملة، ومنه النسوي الأنثوي، قد لا يميد عنه قيد شعرة، وإلا عُدّ هذا ذا قصيدة مؤنثة مسترجلة بلحية وشاربين، وعُدّ ذاك قصيدة ذكورية مخنّثة ومؤنّثة!.
وقد انطلت على الشعرية النسوية هذه الحيلة الذكورية الماكرة والساخرة بالقول: كل ما لا يؤنث لا يعول عليه! وما هي إلا عبارة ذكورية ناطقة عن هوى النزعة الفحولية والخدعة الرجولية، إذ غدت تكتبُ الشعر النسوي الأنثوي بالضمير الذكوري، وتُغيّبُ جنسها وذاتها وأناها وضمائرها المعبرة والمستترة عنها، تماما كما لم يسمع لسان العرب الطويل «بامرأة فارسة» ويرفض سيده العالم اللغوي الأعظم ابن سِيدة «الاعتراف بالنساء الفارسات» القاصرات الطرف في الخيام، وكالحلى والجواهر خوف الكسر والضياع تصان في الأحقاق، ومقصورات راكبات ومركوبات على سروج الحمير وهوادج البعير ومخدرات ومهجورات في المضجع والمخدع و السرير والحصير، ومجردات النون النسوية حتى من تاء تأنيثها كامرأة حصان،، مصون، حنون، وخادم، خدوم، رؤوم، و»اركعي مع الراكعين» و «كانت من الغابرين» ومتى اجتمع التذكير والتأنيث الغالب جانب التذكير، والأصل والكمال للذكورة وللأنوثة الفرع والنقصان، وأجمع أهل لسان الجنان والديوان العروبي على تغليب الذكور، في اللفظ والمعنى، ومنتهى ونهى الجموع وهلم دحما ورجما.
وقد يَتأذّى شخصُها بها ويُؤذيها نصّها إذا حاولت أن تطير بأجنحة «لِيلِيثِيّة» ثائرة، متمردة، على كل ما يكبح جماحها وأن تنشب أظفارها في لحم كل ما يتحرش بها ويغتصبها من سلطة ذكورية وحتى من سطوة نسوية ملتحية ومنقبة، مضادة لنفسها وجنسها، وأن تقدمها جرأتُها وجسارتُها قربانا لداحميها وراجميها!
كان أبو نواس يحفظ عشرين ألف بيت من شعر النساء، ولم يبق منه في سفر الدهور وعلى شفاه ديوان ولسان العرب الطويل سوى القليل الجميل.
وإلى عهد غير بعيد عرف المشهد الشعري المغربي طفرة شعرية نسوية إن لم تكن ثورية غير مسبوقة في تجارب الحساسية الشعرية الرائدة والجديدة، لا تخطئها العين القارئة والناقدة، العاشقة والعالمة، العادلة والمنصفة، التي ينبغي أن تكون ضريرة عمياء وعمشاء وحولاء البصيرة والسريرة حتى لا ترى في بعض تجاربها الشعرية النسوية خاصة من قصيدة النثر أقوى حداثة من رجالها بل ومتفوقة على فحولها ومفارقة في أشكالها ومضامينها وتفاصيلها وفي فنها وجمالها وبرؤيتها ورؤاها وبلوريتها وتوهجها وتكثيفها، وبساطتها وعمقها، وتحقيقها لأكثر مما في تعريف «قصيدة النثر» للشاعر والناقد الفرنسي إدموند جالو والمذكور غالبا على لسان الناقدة السيدة سوزان برنار كالتالي : «قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحدة، مضغوطة، كقطعة من بلور، خلق حر، ليس لها ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجا عن كل تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية» ولي عنه التعليق التالي : وبعد استشهادها وإشادتها بهذا التعريف تقر بأنها لا تعرف لقصيدة النثر قواعد محددة، بل لم تثبت حتى أنها «شعر خالص» سوى كونها قطعة نثر فيها عناصر شعر» ولم تر فيها إلا «ثورة دائمة» بالتعبير التروتسكوي، و : تعني ثورة فكرية لا شكلية و «مظهرا من مظاهر النضال المتواصل للإنسان ضد مصيره أكثر من كونها محاولة لتجديد الشكل الشعري- «واجهات نظر نقدية/تصويبات وتطويبات- منشورات مكتبة السلام الجديدة 2024» وليحفظ عن ظهر قلب بعض الشاعرين _بأنفسهم فقط- خاصة من « مجانين» قصيدة النثر و»حمقى» عبادها ونقادها الطائفيين هذه المقولة الضالة الحكمة عن معظم المؤمنين بتعاليم مدام سوزان بيرنار وليتأملوا فيها مليا وليتمثلوا جليا _مضمونها الفكري- و –نضالها- الجمالي وجمالها النضالي «المتواصل للإنسان ضد مصيره أكثر من كونها محاولة لتجديد الشكل الشعري»!
وأجمل من ذلك كله أنهن «شاعرات يكتبن أحسن» الشعر ويخلصن له الود ولا يخلفن له الوعد والعهد ولا يتخذن النقد الشعري وليا وخِدنا وخِلا وفيا إلا نادرا جدا ولا يُنَظّرْن له ولا يُثرْن حوله زوابع أو توابع نقدية حادة وعنيفة على غرار بعض «عباقرة وعمالقة» قصيدة النثر والنقد الشعري الطائفي، المتعصبين الهائجين والمتشنجين والمتوترين، والمحتكرين، المصادرين لحرية الخيار، وحق الآخرين في اختلاف التنوع والتعدد و «الدفاع عن الخطأ» باحترام حسن الجوار وفن الحوار والتزام النقد -والنقض_ الذاتي، وافتراض الرد على كل رأي مغرض ومبغض بأقسى منه أو بالمثل على الأقل، فضلا عن واجب التحلي بالتواضع والتخلي عن التطاوس والادعاء والاستعلاء والاستعداء إلى حد «الحقد النقدي» وبغض عروض القريض الخليلي والأخفشي والتحرش بالتفاعيل والأوزان والبحور وإغراق كل السابحين والمستحمات فيها، ولم يُجد حتى هنا والآن أي نداء ولا دعاء إلى «المواطنية الشثرية» proême التي لا بحث فيها إلا عن «الشعرية» !
ولم يمض حين من الدهر على كتابة هذه المقولة السالفة الذكر عن الشاعرات المحررات للشعر ومن غير المنظرات له حتى وقع الحافر على الحافر أو توارد الخواطر من خلال هذه الشهادة –الفايسبوكية- الجديرة بالإشادة للشاعر بالفرنسية الصديق محمد زهراوي القائل فيها :»وحدهن الشاعرات حررن الشعر، لا من قدم قواعده، بل من جنسه : بعد نازك الملائكة أعطوني شاعرة عربية واحدة أغرقتنا نظريات شعرية»!
وغني عن البيان الختامي أن هذا المقال تَعَمّدَ في هذا المقام ألا يُعَدِّدَ – حتى لا تُصابَ بعين النقد الطائفي الحقود الحسود !- أسماءَ «شاعرات يكتبن أحسن» من بعض الشعراء المتوجين والمكللين والمجايلين والمشاكلين والمماثلين لهنّ وهنّ المغربيات الجميلات النضال المناضلات بالجمال الإبداعي،أحق وأولى –مثلهم – بكل أكاليل وتيجان الاحتفاء والاحتفال والعرفان بالجميل والجمال!..


الكاتب : إدريس الملياني

  

بتاريخ : 27/09/2024