الشّمس أجمل وهي ترتدي النظّارات قراءة في: «لا شيء ينتهي بإسدال السّتارة…» لعلي بنساعود

 

لا شيء ينتهي بإسدال السّتارة إلاّ أن تكون شفيفة تلوّح من ورائها أياد مرتعشة تسكنها دهشة السّؤال…
ولا شيء ينتهي إذا اقتحمت بصرك وجوه من أزمنة منسيّة، يتربّص بك غموضها الرّمادي، وتلفّك نظراتها الضّاربة في طيّات ذاكرتك الشّعبيّة…
هي ذوات تتستّر وراء تضاريس التّاريخ، وتنظر إلى النّور بعين واحدة، وبنصف وجه تواجه صرخة الهويّة، من يكون هذان الرّجلان الغارقان في سواد كأنّه ليل المحيط الأطلسي؟ ومن تكون هذه المرأة التي تتوسّطهما بابتسامة أنثى شرقيّة؟
هي مثلهما تطفو على سطح شطحات الألوان الملتويّة على أبعاد قصيّة، الأسود والرّماديّ والأحمر والأبيض، ألوان فخمة قلّ أن تلتحم إلاّ أن يكون بركانا قد تنفّس قليلا… إنّها العلامات واجهة للخيالات السّرديّة.
وثلاثتهم أثاف تحمل عبء بوح الحكايا المرويّة…
«لا شيء» صرخة حمراء قانيّة تلقي حمم وجع ترسّب تحت أقنعة الحياة وقد خبا جحودها قليلا، فوجدت الكلمات طريقها إلى سطح صفت مشاعره، إنّها الكتابة المحفوفة بعلامات تجعلك تخلع نعليك على عتباتها، وتتقدّم وجلا إلى اكتشاف عمارتها الدّاخليّة…
وتجد نفسك في حضرة القصص، في حضرة السّرد السّلس المنساب كنهر عميق، لا تعقيد في بنائها الفنّي، ولا حوشيّ في كلماتها، ولا غرابة في مضامينها، ولكنّك تقرأ القصّة منها، ثمّ تتوقّف وقد أغلقت الخاتمة وراءك، وتكتشف أنّك لا تسيطر على فهمك للأحداث أو للنّهاية، فتفتح القصّة، وتدخلها من جديد في رحلة ملاحقة للمعنى تتجدّد مع كلّ قصّة تقريبا أو هكذا حصل معي…
وتعيد الانخراط في مدارات الصّراعات التي لا تنفكّ تتوسّع وتبتلع تفاصيل ذاكرة مكتظّة بمشاهد ومواقف مخزّنة من تلك الأثقال التي ناءت بحملها صدور النّساء، إنّهنّ ذوات العمر الخصيب تخرسهنّ أصوات سكنت أعماقهنّ، فربين على اعتياد الصّمت حتّى أصبحن الصّمت ذاته…
فتستوطن الصّمت أمّ عزباء تستقبل مولودها وحيدة مكلومة ينهشها الحزن، تدقّ الأجراس، ولا تلقى جوابا…
وتوزّع العروس ابتسامات الفرح والسّعادة لتغطّي خيبتها في الزّواج، وهي تشعر أنّها تتورّط في الوحل، وتشلّ حركتها، وفي الضفّة الأخرى زوج مزيّف مخادع أخفى عنها عجزه، وتركها ترمّم، وحدها، الصّورة الاجتماعيّة.
ويستيقظ الوجع متأرجحا بين الحقيقة والخيال، فتختلط الأبعاد حتّى تمّحي الحدود بينها، وتجد الرّاوية الشخصيّة نفسها حاضرة بقوّة في مأساة إحدى الفتيات حتّى كأنّها مأساتها، وأنّها هي التي سلبت كرامتها، واعتدي عليها…
ويكفهرّ مزاج طفلة بريئة، لما تلقاه من غطرسة معلّمتها المثيرة للشفقة قسوة، ونفورا من الحياة. وتودي بها هذه المعاملة إلى غياهب الرّغبة في الانتقام والثّأر لبراءتها المشروخة في القسم حتّى تنهار نفسيّا، وينذر التيّار بابتلاعها، وتطرأ على حياتها تقطّعات سببها جحيم الكوابيس الذي يلاحقها، ونعمة الهروب منه بفضل الأدويّة المهدّئة.
وقد تكون خلف الباب طفلة تقتحم عالم السّرد لتروي حكاية تعلّقها الشّديد بدميتها حدّ التوحّد معها، فتكتشف من خلال هذه العلاقة جوانب من الحياة، وتعيد ترتيب أخرى… وتكون الحكاية سبرا لعالم النموّ النّفسي الطّبيعي للطّفلة الحالمة، وتختلط الحقيقة بالخيال في أطوار القصّة، وتغرق النّهاية في الغموض، وينفلت المعنى.
وقد تميد الأرض تحت قدمي طفلة بسبب سوء معاملة أمّها لها، فيورثها ذلك هشاشة نفسيّة مرضيّة، وتحتمي من هذا الضّغط بالكذب، وشيئا فشيئا يتضخّم الكذب، وتتلاشى الحقيقة، وتتعطّل البوصلة…
وهذه بعض من حكايا أخرى كثيرة، السّرد فيها هادئ وممتع، ولكنّ دورة الأحداث غير ثابتة، فتسير سيرا خطّيا عاديّا مرّة، وتتقلّب بتقلّب الحالة النفسيّة للرّاوي/ة أخرى. أمّا النّهايات فمزعجة أغلبها، ضبابيّة، ومرهقة لقارئ أراد أن تطأ قدماه رمل الشّاطئ ليرتاح، لكنّه لا يجد نهاية واضحة يقف عليها، فيبقى أفق التّأويل مفتوحا بالنّسبة إليه، وتبقى كلّ الاحتمالات واردة حتّى أنّه يصبح جزءا من النصّ ذاته. إنّها قصص مغرقة في الواقعيّة النفسيّة يغلّفها الخيال الخصيب، ولا يحجب نبضها بروح مجتمعاتنا الشرقيّة المركّبة التي تتبدّى في هيئات متناقضة وإن ادّعت استقرار الملامح.


الكاتب : بسمة رجب (تونس)

  

بتاريخ : 11/12/2025