الصالونات الأدبية والرغبة في تأنيث المكان والخطاب

يعتبر بعض النقاد حركية الصالونات الأدبية علامة دالة على ثراء الحركة الثقافية لبلد بعينه، ومؤشرا بارزا على النهوض الثقافي لجهة معلومة، وممارسة مدنية تروم تداول أمور الثقافة والفكر.. بينما يعتبرها البعض الآخر فضاءات ثقافة نخبوية مخملية لا تمس هموم الشعب ومشاغله.. غير أن الثابت تاريخيا هو إصرار المرأة العربية على تأنيث هذه الفضاءات سواء على مستوى التسمية أو على مستوى الخطاب المتداول فيها. فبالعودة لنهاية القرن (19) نصادف صالون نازلي مصطفى فاضل والذي كان من أشهر مرتاديه جمال الدين الأفغاني، قاسم أمين، سعد زغلول، بيرم التونسي، والشيخ محمد عبدو.. وكلهم لهم بصمة في النهضة المصرية والعربية.. بل إن كتاب قاسم أمين» تحرير المرأة» والصادر سنة 1899 كتب بتحريض من الأميرة نازلي التي استقرت لمدة بباريس حيث تعرفت على صالوناتها الأدبية وأهميتها في الحياة الثقافية.. ولما أقامت بمصر كرست هذا التقليد بدءا من سنة 1875م وحرصت على استضافة الكتاب التنويريين نصرة لقضية المرأة. وبعدها جاءت الشاعرة اللبنانية مي زيادة صاحبة الصالون الثقافي الذي امتد على مدار عشرين سنة (1911/1931) بمصر، حيث كان من مرتاديه المنفلوطي، والعقاد وكلاهما هاما عشقا بها وإن شغفت هي بالشاعر جبران خليل جبران رغم تعذر فرصة اللقاء بينهما ولو لمرة واحدة. يضاف لهذين الصالونين الثقافيين صالون الأديبة السورية كوليت خوري، وصالون الشاعرة الإماراتية ميسون صقر القاسمي وغيرهن كثير، دون نسيان الإرهاصات الجنينية للصالونات الأدبية قديما، حيث ظهر مجلس سكينة بنت الحسين بالحجاز والذي كان يتردد عليه أهل الأدب. أما بالأندلس فكانت مدينة قرطبة مسرحا لمجلس الشاعرة ولادة بنت المستكفي، ملهمة الشاعر الأندلسي ابن زيدون..
والمغرب لا يخرج عن قاعدة تأنيث المشارقة لصالوناتهم الثقافية.. يكفي ذكر صالون الكاتبة زهرة الزيراوي الذي أسسته سنة 1990 بحي المعاريف بمدينة الدار البيضاء وامتد لأزيد من خمسة عشر ربيعا.. فضلا عن صالون الربوة الثقافي المؤسس من طرف السيدة خديجة شاكر.. وصالون الشاعرة أسماء بن كيران للثقافة والفنون بمدينة أكادير.. والقائمة طويلة. غير أن الأسئلة الحارقة على مدار هذا التاريخ الطويل والمركب تبقى عالقة ومنها:
-هل تسمية كل الصالونات الثقافية أعلاه بأسماء نساء مجرد مصادفة، أم هو صراع خفي أريد به تأنيث الأمكنة والمعرفة الرائجة فيها، وتثوير الدور التقليدي الذي أسند للمرأة في المجتمع الذكوري المعطوب؟
-وهل تحول دور المرأة من مجرد ضيفة عابرة إلى مستضيفة للرجل المثقف مؤشر على سيادتها الفعلية على المكان والخطاب؟
-وهل تكفي تسمية الأمكنة بأسماء النساء لكسر شوكة الذهنية الذكورية، أم أن الأمر لا يعدو كونه خطوة صغيرة في طريق طويل؟
-وهل توفقت هؤلاء النسوة –بتأسيس هذه الفضاءات-في حجب أجسادهن خلف صوتهن المعرفي، أم أنهن بقين في نظر الرجال مجرد أجساد تشتهى لا آراء نقدية وجمالية يعتد بها؟
-وبأي معنى يمكن اعتبار تسمية الصالونات الثقافية بأسماء المبدعات والمتأدبات تحديا لذكورة المكان واللغة؟
– ولماذا أصرت الأسماء السابقة على تأنيث أمكنة المعرفة تحديدا مع استضافت الرجل/المثقف ليسمع صوته في حضرتها لا في غيابها؟
– وهل يمكن اعتبار تأنيث مكان المعرفة (الصالون الثقافي) بداية تقويض مركزية الرجل؟
-وهل يكفي المرأة إنشاد الشعر في صالونها الأدبي لتؤنث اللغة، أم أنها مطالبة رفقة الرجل بتأسيس علاقة جديدة معه مبنية على التساوي؟
-وإذا كانت كل الصالونات الواردة أعلاه مؤنثة التسمية، فمن يتكلم فيها أكثر، ويشرعن لغة المكان، ويؤم هذه المجالس؟ فهل حضور النساء حضور زينة أم حضور سيادة؟
-وكيف للقوة الناعمة أن تقنع الفحل بالمساواة هو الذي تشكل وجدانه على أن دور المرأة لا يتجاوز سقف الجارية المعتادة على تلبية رغبة الرجل الشرقي؟
– ولماذا بقي تأنيث المكان في خدمة الرجل، هل العطل في الذهنية الذكورية أم في ذهنية بعض النساء اللواتي بقين مرتهنات للغواية قصد الإيقاع بالفحل؟
-ولماذا ساهمت بعض النسوة في تكريس ذهنية الفحل حيث انتصرت مثلا أم جندب لبيت علقمة على حساب امرؤ القيس، فبات منذ تلك الواقعة يلقب بالفحل.. صحيح قد ينظر البعض لهذا الحدث كبداية دخول المرأة على خط النقد وتقييم قول الرجل لكنها مع ذلك بقيت خارج السياق، وحكمت بين فحلين دون قدرتها على مساواة قول الشاعرة بالشاعر!! وتكرست فحولة القول الشعري مع المعلقات المنتجة من طرف الذكور حصرا.. وحتى واقعة النابغة الذبياني بسوق عكاظ حيث تنافس أمامه الأعشى والخنساء وحسان بن ثابت وأسقط الخنساء بقوله لها:» لو أن أبا بصير أنشدني لقلت إنك أشعر من في السوق.» وأضاف قائلا لحسان إنك لشاعر وإنها لبكاءة !!» وهنا تتضح ذهنية الرجل التي تتصور صوت المرأة ضعيف لا يصلح سوى للبكاء.
وفرة من الأسئلة المقلقة والتي ينبغي ألا تحجب عنا قولة تشكل نقطة مضيئة في نفق التمثل الذكوري السلبي للمرأة وهي لابن عربي حيث قال:» كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه» والقصد أن المكان لا يتحقق بذاته كمكان إذا ظلّ مفتقداً إلى الحضور الأنثوي الذي يسبغ عليه روحاً من روحه. فغياب المرأة عن المكان هو غياب للمكان عن نفسه، عن روحه وجاذبيته، فلا يكتسب المكان معناه دون أن يتأنّث: أليست تاء التأنيث التي تؤنِّث المكان ترتقي بقيمته إلى مرتبة.. المكانةّ؟! وهنا نحن على موعد مع المعنى السوسيولوجي للتأنيث: أي تواجد النساء والرجال على قدم المساواة في مجموعة ثقافية أو اجتماعية أو مهنية كانت من قبل محتكرة من طرف الرجال. فتأنيث الصالونات الثقافية لا يعني حرمان الرجل منه، ولكن جعله فضاء مشتركا بينه والمرأة بالتساوي.. إن افتقاد المكان للأنثى كافتقاده للذكر سواء بسواء.. وتغييب الجنس الثاني والمكمل يجعل الوجود بلا معنى.. ولذلك فالقصد بتأنيث الصالون الثقافي تسجيل المرأة لحضورها النوعي لا التأنيث الخالص والمطلق له، أو النقاء التام للفضاء كما فعلت الشاعرة اليونانية «سافو» التي عاشت خلال القرن السابع قبل الميلاد وأقامت أول مستوطنة بشرية أنثوية في جزيرة «لسبوس» في الأرخبيل اليوناني، والتي اقتصر فيها العيش على النساء فقط.. تجربة تحيلنا كذلك على السيدة المصرية درية شفيق والتي أقامت أواسط القرن العشرين حزبا سياسيا اقتصرت عضويته على النساء.. غير أن نفي الآخر، ونفي النفي لا ينتج إلا العدم.. أفق لا يمكنه بناء مجتمع مبني على التساوي.
صحيح أن اختلاط الجنسين في فضاء الصالون الثقافي شكل لحظة حضارية فارقة وطرح عدة أسئلة على الطرفين معا.. وهو أمر طبيعي تماما بعد زمن العزل والحريم الطويلين.. فزمن الصالونات الثقافية أضحى فيه اقتسام نفس المكان ممكنا بين الجنسين دون أن يكون الشيطان ثالثهما!! فالمعرفة حصانة في هذا السياق.. صحيح جدا أن عقلية الفحل ظلت مستمرة لكنها بالتفاعل والتواصل مع الطرف المكمل ستتوارى مع الزمن لكن يلزمها جهد وتخطيط وإرادة..
نخلص إلى أن تأنيث أسماء الصالونات الثقافية عربيا بغاية احتواء الذهنية الذكورية، محاولة باءت بالفشل حيث ظلت اللغة والخطاب الشعريين مثقلين بصوت الفحل.. وهو نفس مآل محاولة شهرزاد لترويض شهريار بالحكاية.. لكن من المؤكد أن هذه المحاولات وغيرها ستفضي- ولو بعد حين- إلى مجتمع تتساوى فيه المرأة بالرجل..

(*) ناقد أدبي


الكاتب : محمد رمصيص (*)

  

بتاريخ : 27/05/2025