الصحة بين الاحتجاج وإعادة التدوير… عظمة القرار وضآلة الفعل

منذ أن بدأ وزير الصحة جولاته المفاجئة على عدد من المستشفيات العمومية، انطلقت حملة قرارات تأديبية في حق موظفين ومسؤولين إداريين. غير أن هذه السرعة في إصدار القرارات لا تثير سوى الأسئلة: هل جرى احترام حقوق المعنيين؟ هل تم الاستماع إليهم وتحديد الخروقات المنسوبة إليهم؟ وهل عُرضت ملفاتهم على المجالس التأديبية كما ينص على ذلك قانون الوظيفة العمومية؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه بحثًا عن “أكباش فداء” لتهدئة الغضب الشعبي؟
الاشتغال بمنطق تحميل المسؤولية لهذا الموظف أو ذاك لن يعالج أصل الداء. فالأزمة أعمق من أن تُختزل في أشخاص، إنها أزمة سياسة عمومية يُعاد إنتاجها بنفس الأدوات والتوجهات، ما يعني أننا أمام إعادة إنتاج للأعطاب البنيوية ذاتها التي دفعت المواطنين للاحتجاج.

 

زيارات تحت ضغط الشارع

وزير الصحة تأخر كثيرًا في القيام بهذه الجولات التي كان ينبغي أن تنطلق منذ يوم تعيينه، لا بعد تصاعد الاحتجاجات. ولذلك فإن القرارات المتخذة اليوم تبدو أقرب إلى ردود أفعال مرتبكة هدفها امتصاص الغضب، لا وضع حلول حقيقية لجذور الأزمة.
الخطوة الجادة لا تكمن في التنقيلات والإعفاءات، بل في فتح نقاش صريح مع الأطباء والممرضين وباقي العاملين بالقطاع، ومع الإطارات النقابية والحقوقية والمدنية المعنية بالحق في الصحة، من أجل بلورة إصلاح فعلي يعيد الثقة المفقودة.
إعادة تدوير لا محاسبة

التجارب السابقة تكشف أن ما يسمى “الإعفاءات” لا يتجاوز في الغالب لعبة تدوير للكراسي. فالوزارة تسعى إلى تقديم نفسها كحَكم نزيه يأتي لتقصي الحقائق ومعاقبة المقصرين، لكن الحقيقة أن مسؤوليها، بمختلف المديريات المركزية والجهوية، على علم تام ودقيق بكل ما يجري في المستشفيات من خلال التقارير والزيارات الميدانية وآليات الرصد والتتبع الإداري.
فالوزارة تدرك حجم الخصاص في المعدات والأدوية والأطر الطبية. إنها إدارة تشرف على الانهيار وتشارك في تدبيره من خلال ضعف ميزانيات التسيير والاستثمار التي تُفوض لمصالحها الجهوية والإقليمية، ومن خلال محدودية المناصب المالية المخصصة للتوظيف، والتي لا تتناسب مع حجم الخصاص المسجل في مختلف المؤسسات الاستشفائية.
لذلك، فإن مسرحية “الإعفاءات” ليست سوى دخان لإخفاء الحقيقة المؤلمة: الانهيار مخطَّط له. إنه نتاج خيار استراتيجي يهدف إلى تدمير القطاع العام ليصبح القطاع الخاص هو البديل الوحيد لمن يستطيع. يتم تفريغ المستشفيات من محتواها ثم اتهام العاملين فيها بالفشل، بينما الفشل هو فشل خيارات حكومية متراكمة لسنوات.
عمق الأزمة: إمكانيات مفقودة

المشكل الحقيقي لايتعلق بالأشخاص بل بالإمكانيات. كيف يُحاسَب الطبيب وهو يشتغل دون فريق طبي متكامل، ودون تجهيزات أساسية، في وقت يضطر فيه المواطن للانتظار أمام سكانير معطل أو غير موجود أصلًا، بينما القطاع الخاص يزخر به؟ في مثل هذه الظروف، لا تحتاج الوزارة إلى أطباء بل إلى سحرة.
ومع ذلك، تستمر الحكومة في الاختباء خلف الموظفين بدل تحمل مسؤوليتها في النهوض بالموارد البشرية وتوفير الوسائل المادية اللازمة، أو تنزيل ورش التغطية الصحية كما يليق بمشروع وطني ضخم.
المشهد المقلوب

المفارقة أن المواطن يُؤنَّب حين يحتج، والطبيب يُتَّهم حين يعجز، بينما الوزارة تقدم نفسها في موقع الضحية الكبرى. وحين يخرج الوزير بعد سنة من الغياب ليتجول بين المستشفيات، يقدم الأمر كما لو كان زلزالًا سياسيًا أو حدثًا استثنائيًا، بينما هو مجرد اعتراف متأخر بما يعرفه الجميع.
أما في القرى والمراكز الصحية البعيدة عن عدسات الكاميرات، فالوضع أكثر قتامة: بنايات بلا أطباء، طوابير بلا علاج، ومواطنون عالقون بين البيروقراطية والقدر. هناك، تتحول “التغطية الصحية” إلى مجرد شعار يرفرف في الهواء بلا مضمون.
نحن أمام أزمة قطاعية بنيوية، لا أمام أخطاء أفراد. تدوير المسؤولين أو تسريع الإعفاءات ليس سوى مساحيق على وجه سياسة عمومية فاشلة. الإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف بأن الصحة شأن وطني يتطلب موارد وإرادة سياسية، لا جولات استعراضية وبلاغات رسمية. فهل نملك الشجاعة للانتقال من مسرحية الإعفاءات إلى ورش إصلاح فعلي يضع صحة المواطن فوق كل الحسابات.

 

 


الكاتب : محمد امين سملالي

  

بتاريخ : 30/09/2025